عندما يصل الطفل إلى سن ثلاث سنوات تقريبًا، يكون - في المعتاد - قد تعرَّض لأول إصابة له بعدوى الإنفلونزا. وإذا كانت النوبة شديدة؛ فسوف ترتفع ...
عندما يصل الطفل إلى سن ثلاث سنوات تقريبًا، يكون - في المعتاد - قد تعرَّض لأول إصابة له بعدوى الإنفلونزا. وإذا كانت النوبة شديدة؛ فسوف ترتفع درجة حرارة الطفل، ويشعر بألم في عضلاته. وفي ذلك الوقت من حياته يكون الطفل صغيرًا لدرجة لا تسمح له - على الأرجح - بتذكّر المرض، لكنّ جهازه المناعي سيتذكره.
وعندما يدخل الفيروس جسد الطفل، فإن وجوده يحفّز مجموعة من الخلايا المناعية غير الناضجة، وغير المبرمجة، للبدء في التنافس على اقتفاء أثر الإنفلونزا، والقضاء عليها. وتختزن الخلايا المنتصرة في هذا التنافس - وهي الخلايا الأقوى ارتباطًا بالفيروس - ذكرى للعامل المُمرِض. ومن ثم، تكون على استعداد للتعرّف عليه، ومهاجمته في المرة التالية التي يغزو فيها الجسم.
غير أن، الإنفلونزا تتميّز بقدرتها الراسخة على تغيير شكلها، حيث يمكن لمناطق البروتينات الخارجية للفيروس أن تتحوّر في أثناء التنسخ؛ ما يتيح للفيروس تفادي كشف جهاز المناعة له. وعندما تحدث حالات العدوى بسلالات إنفلونزا جديدة في وقت لاحق من عمر الإنسان، يقوم جهاز المناعة بالاستجابة للعدوى، بناءً على تلك الإصابة الأولى، مُصدِرًا رد فعل قويًّا تجاه مناطق الفيروس التي تعرف عليها الجهاز المناعي من قبل، لكنه لا يستجيب لأيٍّ من مناطق الفيروس المتحوّرة. ولا يمكن للخلايا المناعية حينها أن تكّون خصيصًا أيّ أجسام مضادة جديدة، للمساعدة.
تُمثّل الكيفية الدقيقة التي يكوّن بها الجهاز المناعي "بصمة" للسلالات التي واجهها للمرة الأولى لغزًا محيرًا للباحثين في مجال الإنفلونزا، ومن المرجح أن يسهم حلّ هذا اللغز في محاربة الفيروس، وتحسين اللقاحات.
[caption id="attachment_7991" align="aligncenter" width="800"] رجال الشرطة في مدينة سياتل بواشنطن يرتدون الأقنعة؛ لحماية أنفسهم إبان جائحة الإنفلونزا التي حدثت في عام 1918؛ وأسفرت عن مصرع ما يقرب من 50 مليون شخص.[/caption]
يظن العلماء أن فهم آلية تكوين البصمة يمكن أن يساعدهم على التنبؤ بالأشخاص الأكثر قابلية للإصابة بالسلالات الموسمية والجائحات. وتشير أدلة متزايدة إلى أن بعض الناس يستجيبون لجائحات الإنفلونزا المميتة بشكل أسوأ من غيرهم، ذلك لأن تعرُّضهم الأول للعدوى في مرحلة الطفولة كان لنوع مختلف من الفيروس. ويعتقد الباحثون أن هذا هو السبب في أن معدل وفيات البالغين الشباب كان أعلى من غيرهم من الفئات العمرية الأخرى خلال الجائحة المميتة1 التي وقعت خلال عام 1918؛ وأسفرت عن وفاة ما يُقدَّر بخمسين مليون شخص على مستوى العالم.
قد يساعد التعرف على آلية تكوين هذه البصمة علماءَ الفيروسات في تطوير لقاحات موسمية أكثر فاعلية، يمكنها التصدي للسلالات المنتشرة لعدة سنوات، وكذلك تطوير لقاح عام للإنفلونزا، لطالما تم السعي إليه، يمكنه أن يحمي الناس مدى الحياة ضد الأنواع الفرعية من الإنفلونزا الجديدة تمامًا، والتي من المحتمل أن تتسبب في حدوث جائحات. ويبدو أن تكوين هذه البصمة يوفر قدرًا من المناعة ضد سلالات الإنفلونزا ذات الصلة بالعدوى الأولى. ويُنظَر إلى هذه المناعة واسعة النطاق - في كثير من الأحيان - على أنها علامة على إمكانية استمالة جهاز المناعة إلى توفير وقاية واسعة النطاق. وتقول أوبري جوردون، عالِمة الأوبئة بجامعة ميشيجان في مدينة آن أربور: "إن ذلك يمنحنا بالفعل الأمل في أن نتمكن من استثارة استجابة مناعية واقية واسعة النطاق".
ويمكن للقاحات الإنفلونزا المتاحة حاليًّا تحقيق النجاح بالتأكيد، إذا توفر لها قدر من المساعدة. فآثار هذه اللقاحات تتلاشى بعد بضعة أشهر، كما أنها لا تكون شديدة الفاعلية، حتى في هذه الفترة الوجيزة؛ فخلال موسم الإنفلونزا 2017-2018 في الولايات المتحدة، كان الأشخاص الذين تلقوا اللقاح أقل قابلية للإصابة بالإنفلونزا، مقارنة بمَن لم يتم تحصينهم بنسبة 36% فقط، وإنْ كانت عملية التحصين يمكن أن تقلل من حدة الأعراض لدى الأشخاص الذين يصابون بالمرض بالفعل.
ربما تساعد عملية تكوين البصمة على تفسير أوجه القصور هذه، لكنْ في الوقت الراهن ثمة نقص في فهم الآليات التي تقف وراء هذه العملية، حسبما تقول جينيفر ناياك، وهي عالِمة متخصصة في مناعة الأطفال بالمركز الطبي لجامعة روتشستر في نيويورك. ويقول سكوت هنسلي، وهو عالِم متخصص في المناعة الفيروسية بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا، إن استيعاب عملية تكوين البصمة سيكون مهمًّا للباحثين الذين يأملون في تصميم لقاح عام يناسب الأشخاص الذين لديهم ماضٍ مختلف من حالات التعرض للإنفلونزا. ويضيف هنسلي: "من المحتمل أن يثير اللقاح نفسه استجابات مناعية مختلفة عند إعطائه إلى أشخاص مختلفين، حسب تاريخهم المَرضي".
في إبريل من العام الجاري، دعا المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية في بيثيسدا بولاية ميريلاند الباحثين إلى طرح مشروعات، من شأنها استكشاف آثار تكوين البصمة على المناعة، وذلك في إطار جهد أشمل لتمويل البحوث الرامية إلى التوصل إلى لقاح عام للإنفلونزا. ويخطط المعهد لإنفاق 5 ملايين دولار أمريكي على دراسة جماعية كبيرة ستضم أطفالًا رضعًا، وتتابعهم منذ ولادتهم لمدة ثلاثة مواسم إنفلونزا على الأقل؛ لاستكشاف كيفية استجابة أجهزتهم المناعية على المستوى الجزيئي للتعرض لعدوى الإنفلونزا لأول مرة، وحالات العدوى والتحصينات اللاحقة منها. ويُنصَح عادةً بتطعيم الرضع الذين تزيد أعمارهم على 6 أشهر.
وهذا هو أقصى ما يمكن أن تقدمه لنا دراسة الفيروس؛ فتوفير حماية أفضل يتوقف أيضًا على دراسة الأشخاص. ويدرك الباحثون حاليًّا أن الجسم يمكنه أن يُحدِث استجابة واسعة النطاق بشكل مذهل، حتى ضد كائنات قادرة على تغيير شكلها، مثل فيروس الإنفلونزا. وتقول - في هذا الصدد - كاتيلين جوستيك، وهي عالِمة أوبئة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس: "إنّ الإنفلونزا هي أحد أكثر الفيروسات خضوعًا للدراسة على سطح هذا الكوكب. ونحن بصدد اكتشاف قارة جديدة بأكملها في عالَم كنا نعتقد أننا نملك مفاتيحه بالفعل".
أُسس الإنفلونزا
كان أول مَن اقترح مفهوم تكوين البصمة هو الراحل توماس فرانسيس، عالِم الفيروسات والأوبئة بجامعة ميشيجان، الذي كانت الدراسات التي أجراها في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي هي أولى الدراسات التي تُبيّن أن الأفراد يُولِّدون استجابات أجسام مضادة أقوى لأول سلالة إنفلونزا تواجههم، مقارنة بتلك التي يتعرضون لها في وقت لاحق من حياتهم2.
منذ ذلك الحين، أصقل الباحثون هذا المفهوم. ففي دراسة شملت أكثر من 150 شخصًا، تتراوح أعمارهم بين 7 و81 سنة في جنوب الصين، قاس العلماء مستويات الأجسام المضادة في مقابل سلالات مختلفة من فيروس الإنفلونزا، مع النظر في كيفية استجابة أجهزة المناعة لدى هؤلاء الأشخاص لسلالات، كان من المحتمل مواجهتهم لها في مراحل مختلفة من حياتهم. ووجد الباحثون أنه بعد الإصابة الأولى، يكون للسلالات اللاحقة تأثير متناقِص تدريجيًّا على الاستجابة المناعية3، حسبما يشرح جاستن ليسلر، وهو عالِم أوبئة بكلية جونز هوبكنز بلومبرج للصحة العامة في بالتيمور بولاية ميريلاند، كان قد شارك في تأليف الدراسة. ويضيف ليسلر: "على الرغم من أن تكوين البصمة المناعية يلعب دورًا بالغ الأهمية، فإن التركيز عليها وحدها يمكن أن يؤدي بنا إلى إغفال جوانب مهمة لكيفية تطور المناعة ضد الإنفلونزا في حالات التعرض المتعددة للمرض".
[caption id="attachment_7992" align="aligncenter" width="800"] سلالات مجمَّدة من فيروس الإنفلونزا، مُخَزَّنة في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية.[/caption]
في عام 2009، ظهرت نوعية جديدة من الإنفلونزا في المكسيك، نتجت عنها جائحة منحت الباحثين واحدة من أفضل الفرص حتى الآن لدراسة تكوين البصمة المناعية باستخدام أساليب حديثة في علم المناعة. وتشير سلسلة من الدراسات5،4 إلى أن الفيروس استحث استجابة مناعية قوية، لدرجة أنه "أيقظ" لدى الأشخاص الذين أصيبوا به مناعة كبيرة كانت خامدة منذ عملية تكوين البصمة المبكرة. فتوّلدت لدى العديد من الأفراد أجسام مضادة، لا تهاجم السلالة الجديدة فقط، وإنما أيضًا أفراد فصيلتها الأوسع نطاقا.
توجد بضعة أنواع من فيروسات الإنفلونزا. والنوع الرئيس منها الذي يسبب المرض لدى البشر له عدة أنواع فرعية، تُسمَّى بأسماء البروتينات الموجودة على سطحها؛ حيث يوجد 18 شكلًا معروفًا من بروتين الراصّة الدموية (HA)، و11 شكلًا من بروتين نيورامينيديز (NA). ولكل نوع فرعي من الفيروس شكل مختلف من بروتينَي الراصة الدموية، والنيورامينيديز. ويمنح الارتباط بين هذين البروتينين كل نوع فرعي اسمه، مثل H1N1 ، أو H3N2. وقد وُجِد أن بعض الأنواع يصيب مجموعات حيوانية محددة فقط، لكن البعض الآخر يمكن أن يتحوّل إلى أنواع جديدة قادرة على إصابة البشر.
وفي ورقة بحثية نُشِرت في مجلة «ساينس» 6Science في عام 2016، حللت جوستيك وزملاؤها جميع الحالات البشرية المعروفة لنوعين فرعيين من إنفلونزا الطيور، هما: H5N1، وH7N9. وهذان النوعان ينتشران في ستة بلدان. وقد أصاب الفيروسان فئات عمرية مختلفة، فكان فيروس H5N1 يصيب الشباب في الأغلب الأعم، في حين كانت جميع الحالات المصابة بالفيروس H7N9 تقريبًا من المسنين. وبالنظر إلى سنة ميلاد كل فرد مصاب بالإنفلونزا، وجد الباحثون أن القابلية للإصابة بالمرض قد تغيّرت على نحو مفاجئ في عام 1968؛ فالأشخاص الذين وُلِدوا قبل هذا التاريخ كانوا أكثر عرضة للإصابة بفيروس H7N9، ومَن وُلِدوا بعده كانوا أكثر عرضة للإصابة بفيروس H5N1.
لم يكن هؤلاء الأشخاص قد واجهوا أيًّا من النوعين الفرعيين من قبل، لكنْ استنادًا إلى تواريخ ميلادهم، كانوا قد واجهوا أنواعًا مختلفة ذات صلة. ويمكن تقسيم أنواع الإنفلونزا الفرعية إلى مجموعتين، وفقًا لخصائص معينة لبروتين الراصة الدموية لديهم، حيث ينتمي الفيروس H5N1 إلى المجموعة واسعة النطاق نفسها التي تنتمي إليها السلالتان H1N1، وH2N2، وهما سلالتان كانتا تنتشران بشكل موسمي قبل عام 1968.
مِن المفترض أن أي شخص وُلِد قبل هذا العام كان لديه بصمة لإحدى سلالات المجموعة الأولى، ومن ثم كان محصَّنًا من الإصابة بفيروس H5N1، لكن في عام 1968 تغيّر كل شيء؛ إذ ضربت العالم جائحة من فيروس H3N2، وأصبح هو النوع الفرعي الموسمي الوحيد. لذا، تكوّنت بصمة لدى معظم الأشخاص الذين ولِدوا بعد هذا التاريخ بسلالة H3N2، وهي من فيروسات المجموعة الثانية. كذلك ينتمي النوع H7N9 إلى المجموعة نفسها، ولذا، كان كثير من الأشخاص الذين وُلِدوا بعد عام 1968 محصَّنين ضد الإصابة به.
تشير النتيجة التي توصّل إليها الباحثون إلى أن تكوين بصمة لفيروس ينتمي إلى إحدى مجموعتي الراصة الدموية قد يوفر وقاية متداخلة واسعة النطاق ضد أنواع فرعية جديدة تنتمي إلى المجموعة نفسها، وهو الأمر الذي يتعارض مع الافتراض الذي يتبناه كثير من خبراء الصحة العامة بأنّ غالبية الناس تكون لديهم وقاية ضئيلة أو منعدمة ضد الجائحات التي تَحْدُث عادةً عند ظهور أنواع فرعية جديدة من الإنفلونزا.
يقول جيمس لويد-سميث، وهو عالِم متخصص في بيئة الأمراض، ومؤلف مشارك للورقة البحثية، ويعمل أيضًا بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس: "كانت قوة التأثير الوقائي ضد العدوى الشديدة بفيروسي H5N1، وH7N9 صادمة". وأوضح الباحثون، باستخدام النمذجة، أن تكوين البصمة في فترة الطفولة وفر وقاية بنسبة 75% ضد حالات المرض الشديدة، وبنسبة 80% ضد الوفاة الناجمة عن فيروسات إنفلونزا الطيور.
وقد لوحظت اختلافات في القابلية للإصابة بالمرض بين الفئات العمرية المختلفة في جائحات أخرى. ففي الجائحة التي وقعت خلال عام 1918، وكان السبب فيها نوع فرعي من H1N1، كانت الفئة الأكثر تضررًا هي من البالغين الشباب، الذين لديهم وقاية كبيرة ضد فيروس H3N8، الذي انتشر في الفترة ما بين عامي 1889، و1918 عندما كانوا أطفالًا. وينتمي الفيروس H3N8 إلى مجموعة مختلفة عن تلك التي ينتمي إليها H1N1 (انظر: "سلالات حاكمة"). ويقول باتريك ويلسون، وهو عالِم مناعة بجامعة شيكاغو في إلينوي إن السبب في الجائحة التي حدثت في عام 2009 كان نوعًا من فيروس H1N1، لكنه بالرغم من ذلك، كان هناك عدد قليل جدًّا من حالات الإصابة بين المسنين، الذين من المفترض أن تكون قد تكوّنت لديهم بصمة للنوع السابق من H1N1، الذي انتشر بعد جائحة عام 1918. وظهر كذلك أحد فيروسات H1N1 في سبعينيات القرن الماضي، وكان مشابِهًا جدًّا لسلالة سابقة، يَعتقِد العلماء أنها أُطلِقت بطريق الخطأ من أحد المختبرات، أو إحدى تجارب اللقاحات7. ويقول هنسلي: "مِن الممتع النظرُ إلى تاريخ مولدك، والاستدلال - نوعًا ما - على بصمتك المناعية الأولى".
تتمثّل الأولوية الآن في التوصل إلى كيفية قيام الجسم البشري بتكوين بصمة للسلالات الأولى التي يصادفها. ويقول هنسلي: "نحن بحاجة إلى استخلاص الأساس المناعي لهذا الأمر".
على مدار العقد الماضي، عكف الباحثون على بناء مجموعة من التقنيات؛ لدراسة تكوين البصمة على المستوى الجزيئي. فمن السهل، على سبيل المثال، اختبار مستوى جميع الأجسام المضادة المتولدة كردّ فعل لنزلة من الإنفلونزا، لكن الوصول إلى الأسباب الرئيسة لتكوين البصمة يتطلّب قدرة على التركيز على المجموعات الفرعية من الأجسام المضادة التي توّلد مناعة واسعة النطاق.
وعلى سبيل المثال، أصبح الباحثون الآن قادرين على فرز مئات الآلاف من الخلايا المفردة، وتحليلها. ويمكنهم استخدام تسلسل الخلايا المفردة؛ لتوصيف العوامل الفاعلة الرئيسة في جهاز المناعة، قبل استجابة الخلايا للعدوى الأولى التي تتعرض لها، وبعدها. هذا، ويسعى العلماء لمعرفة كيف تصمِّم هذه الخلايا استجابة طويلة الأمد للإنفلونزا في المستقبل.
يقول بادي كريتش، وهو مدير برنامج فاندربيلت لبحوث اللقاحات بالمركز الطبي لجامعة فاندربيلت في ناشفيل في ولاية تينيسي: "تتوفر لدينا الآن أدوات أكثر دقة بكثير؛ ما يتيح لنا إلقاء نظرة دقيقة للغاية على ما يحدث عند التعرض الأول، والتعرض المتكرر، للإنفلونزا ولقاح الإنفلونزا". يشارك كريتش في إدارة مبادرة اللقاح العام للإنفلونزا، وهو مشروع تشارك فيه عدة جامعات، انطلق في أكتوبر الماضي؛ لدراسة الاستجابة المناعية للإنفلونزا، وكيف يمكن استثارة مناعة واسعة النطاق. وتقول ناياك إنه بمجرد أن نفهم هذه الآليات بشكل أفضل، ربما يكون من الممكن تلخيصها؛ للمساعدة في جعل اللقاحات أكثر فاعلية على نطاق واسع.
قوة الأشخاص
فيما يخص الباحثين الراغبين في تطبيق هذه الأدوات، تتدخل جهات تمويل معينة - مثل معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، ومؤسسة بيل وميليندا جيتس - لتقديم المساعدة.
وقد أعلنت مؤسسة جيتس عن شريحة تمويل بقيمة 12 مليون دولار أمريكي في إبريل، تعتزم المؤسسة تخصيصها لمشروعات تجريبية تهدف إلى تطوير لقاحات عامة للإنفلونزا. وتذكر الدعوة لتقديم طلبات التمويل تكوين البصمة وسمات أخرى للاستجابة المناعية للمضيف، وسوف تُمنَح الأولوية للمشروعات عالية المخاطر.
وفي الشهر نفسه، أصدر المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية دعوة إلى تقديم مقترحات بميزانية تبلغ 5 ملايين دولار، لمتابعة أعداد كبيرة من الأطفال على مدار فترة لا تقل عن ثلاثة مواسم للإنفلونزا، وربما لسنوات بعد ذلك. ويتلخص الهدف الجوهري للدراسة - وفقًا لما ذكره المعهد - في توفير المعلومات التي من شأنها مساعدة الباحثين على تصميم لقاحات عامة طويلة الأمد.
وتقول ناياك إنه حتى الآن لا تزال البحوث المتعلقة بالتعرض للمرض في مرحلة الطفولة محدودة، وبالتالي فإن الدعوة التي أصدرها المعهد من الأخبار السارة. ومعظم دراسات الإنفلونزا لدى الأطفال كانت صغيرة النطاق، ولم تصف تاريخ التعرض للمرض الخاص بكل فرد بشكل دقيق بما فيه الكفاية. وتضيف ناياك: "إنّ ذلك يجعل من المستحيل حتى تناوُل ما إذا كان تكوين البصمة يحدث، أم لا، ناهيك عن تحديد الآلية المسؤولة عنه".
تَمثَّل جزء من المشكلة في تتبع جهاز المناعة لدى الرضع، وهو الأمر الذي يتطلب سحب عينات متكررة من الدم. فمنذ فترة لا تزيد على 5 سنوات، كانت التحاليل تتطلب سَحْب كمية تتراوح بين 10 و20 ملِّيلترًا من الدم، ما يجعل الرصد المناعي للأطفال الرضع أمرًا غير عملي (يحتوي جسم الطفل حديث الولادة، الذي يبلغ وزنه ثلاثة كيلوجرامات، على 240 ملّيلترًا فقط من الدم). هذا، لكن التطورات التكنولوجية تغلبت على هذه العقبة، حيث يقول هنسلي، الذي قدَّم طلبًا لإجراء دراسة لجماعات من الولايات المتحدة، وهونج كونج: "عن طريق هذه التحاليل للخلايا المفردة، يمكن إجراء فحوص مناعية قوية باستخدام كمية تتراوح بين ملّيلتر واحد، وملّيلترين من الدم فقط."
سوف تُمكِّن هذه التقنيات الباحثين من فهرسة حالات التعرض للمرض، والتطعيمات الخاصة بالرضع - على وجه الدقة - على مدار الوقت، ورسم صورة مفصلة لكيفية اختلاف المناعة عند تحفيز العدوى الطبيعية لها، مقارنة بالتطعيم.
تهدف الدعوة التي أصدرها المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية إلى استكمال الدراسات الجماعية الأخرى للإنفلونزا في جميع أنحاء العالم. ويدعم المعهد بالفعل بحوث الإنفلونزا التي تُجرَى على جماعات في نيكاراجوا، وهونج كونج، ونيوزيلندا، لكنْ لا يركز أيّ مِن هذه البحوث على تكوين البصمة في مرحلة الطفولة. وتدير جوردون الجماعة الخاصة بنيكاراجوا، التي تدرس حاليًّا حدوث الإصابة بالإنفلونزا لدى الأطفال، ومدى حِدّتها. وتُعَد هذه الجماعة هي الجماعة الوحيدة الكبيرة التي صُمِّمت لقيد الأطفال ومتابعتهم منذ ولادتهم، وبالتالي فهي في وضع يؤهلها لدراسة تكوين البصمة. وقد قدمت جوردون طلبًا للحصول على تمويل من المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية، في إطار مجموعة من الدراسات الجماعية؛ لتمكين فريقها من ضمّ الخبرات المتخصصة اللازمة في مجال المناعة.
تُجرِي ناياك بالفعل حاليًّا دراسة تجريبية صغيرة لعملية تكوين البصمة، وقد سُجِّل فيها حتى الآن 129 طفلًا منذ بدايتها في أواخر عام 2016. وقدمت الباحثة كذلك عرضًا إلى المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية، ضمّ جامعتي روتشستر، ومينيسوتا، وتقع الجماعات الخاضعة للدراسة في الولايات المتحدة، وأستراليا. ويساعد تعدُّد المواقع الخاضعة للدراسة على اتقاء مخاطر هجوع الإنفلونزا لبضعة المواسم، أو هيمنة نوع واحد فقط من الإنفلونزا في البعض الآخر.
وفيما يخص العلماء الذين يرغبون في ملاحقة حلم اللقاح العام للإنفلونزا، الذي يبدو بعيد المنال، تُعَد الدراسات الجماعية عنصرًا واحدًا من عناصر استراتيجية متعددة الجوانب. وسوف يحتاجون كذلك إلى إجراء بحوث على الجوانب البيولوجية الأساسية للفيروسات، والعثور على مكونات جديدة للقاحات، حسبما يقول كريتش، الذي يضيف قائلًا: "يجب علينا العمل على حل المشكلة من كلا الجانبين".
ديكلان باتلر
المصدر: موقع نيتشر
https://arabicedition.nature.com/journal/2018/09/d41586-018-05889-1
وعندما يدخل الفيروس جسد الطفل، فإن وجوده يحفّز مجموعة من الخلايا المناعية غير الناضجة، وغير المبرمجة، للبدء في التنافس على اقتفاء أثر الإنفلونزا، والقضاء عليها. وتختزن الخلايا المنتصرة في هذا التنافس - وهي الخلايا الأقوى ارتباطًا بالفيروس - ذكرى للعامل المُمرِض. ومن ثم، تكون على استعداد للتعرّف عليه، ومهاجمته في المرة التالية التي يغزو فيها الجسم.
غير أن، الإنفلونزا تتميّز بقدرتها الراسخة على تغيير شكلها، حيث يمكن لمناطق البروتينات الخارجية للفيروس أن تتحوّر في أثناء التنسخ؛ ما يتيح للفيروس تفادي كشف جهاز المناعة له. وعندما تحدث حالات العدوى بسلالات إنفلونزا جديدة في وقت لاحق من عمر الإنسان، يقوم جهاز المناعة بالاستجابة للعدوى، بناءً على تلك الإصابة الأولى، مُصدِرًا رد فعل قويًّا تجاه مناطق الفيروس التي تعرف عليها الجهاز المناعي من قبل، لكنه لا يستجيب لأيٍّ من مناطق الفيروس المتحوّرة. ولا يمكن للخلايا المناعية حينها أن تكّون خصيصًا أيّ أجسام مضادة جديدة، للمساعدة.
تُمثّل الكيفية الدقيقة التي يكوّن بها الجهاز المناعي "بصمة" للسلالات التي واجهها للمرة الأولى لغزًا محيرًا للباحثين في مجال الإنفلونزا، ومن المرجح أن يسهم حلّ هذا اللغز في محاربة الفيروس، وتحسين اللقاحات.
[caption id="attachment_7991" align="aligncenter" width="800"] رجال الشرطة في مدينة سياتل بواشنطن يرتدون الأقنعة؛ لحماية أنفسهم إبان جائحة الإنفلونزا التي حدثت في عام 1918؛ وأسفرت عن مصرع ما يقرب من 50 مليون شخص.[/caption]
يظن العلماء أن فهم آلية تكوين البصمة يمكن أن يساعدهم على التنبؤ بالأشخاص الأكثر قابلية للإصابة بالسلالات الموسمية والجائحات. وتشير أدلة متزايدة إلى أن بعض الناس يستجيبون لجائحات الإنفلونزا المميتة بشكل أسوأ من غيرهم، ذلك لأن تعرُّضهم الأول للعدوى في مرحلة الطفولة كان لنوع مختلف من الفيروس. ويعتقد الباحثون أن هذا هو السبب في أن معدل وفيات البالغين الشباب كان أعلى من غيرهم من الفئات العمرية الأخرى خلال الجائحة المميتة1 التي وقعت خلال عام 1918؛ وأسفرت عن وفاة ما يُقدَّر بخمسين مليون شخص على مستوى العالم.
قد يساعد التعرف على آلية تكوين هذه البصمة علماءَ الفيروسات في تطوير لقاحات موسمية أكثر فاعلية، يمكنها التصدي للسلالات المنتشرة لعدة سنوات، وكذلك تطوير لقاح عام للإنفلونزا، لطالما تم السعي إليه، يمكنه أن يحمي الناس مدى الحياة ضد الأنواع الفرعية من الإنفلونزا الجديدة تمامًا، والتي من المحتمل أن تتسبب في حدوث جائحات. ويبدو أن تكوين هذه البصمة يوفر قدرًا من المناعة ضد سلالات الإنفلونزا ذات الصلة بالعدوى الأولى. ويُنظَر إلى هذه المناعة واسعة النطاق - في كثير من الأحيان - على أنها علامة على إمكانية استمالة جهاز المناعة إلى توفير وقاية واسعة النطاق. وتقول أوبري جوردون، عالِمة الأوبئة بجامعة ميشيجان في مدينة آن أربور: "إن ذلك يمنحنا بالفعل الأمل في أن نتمكن من استثارة استجابة مناعية واقية واسعة النطاق".
ويمكن للقاحات الإنفلونزا المتاحة حاليًّا تحقيق النجاح بالتأكيد، إذا توفر لها قدر من المساعدة. فآثار هذه اللقاحات تتلاشى بعد بضعة أشهر، كما أنها لا تكون شديدة الفاعلية، حتى في هذه الفترة الوجيزة؛ فخلال موسم الإنفلونزا 2017-2018 في الولايات المتحدة، كان الأشخاص الذين تلقوا اللقاح أقل قابلية للإصابة بالإنفلونزا، مقارنة بمَن لم يتم تحصينهم بنسبة 36% فقط، وإنْ كانت عملية التحصين يمكن أن تقلل من حدة الأعراض لدى الأشخاص الذين يصابون بالمرض بالفعل.
ربما تساعد عملية تكوين البصمة على تفسير أوجه القصور هذه، لكنْ في الوقت الراهن ثمة نقص في فهم الآليات التي تقف وراء هذه العملية، حسبما تقول جينيفر ناياك، وهي عالِمة متخصصة في مناعة الأطفال بالمركز الطبي لجامعة روتشستر في نيويورك. ويقول سكوت هنسلي، وهو عالِم متخصص في المناعة الفيروسية بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا، إن استيعاب عملية تكوين البصمة سيكون مهمًّا للباحثين الذين يأملون في تصميم لقاح عام يناسب الأشخاص الذين لديهم ماضٍ مختلف من حالات التعرض للإنفلونزا. ويضيف هنسلي: "من المحتمل أن يثير اللقاح نفسه استجابات مناعية مختلفة عند إعطائه إلى أشخاص مختلفين، حسب تاريخهم المَرضي".
في إبريل من العام الجاري، دعا المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية في بيثيسدا بولاية ميريلاند الباحثين إلى طرح مشروعات، من شأنها استكشاف آثار تكوين البصمة على المناعة، وذلك في إطار جهد أشمل لتمويل البحوث الرامية إلى التوصل إلى لقاح عام للإنفلونزا. ويخطط المعهد لإنفاق 5 ملايين دولار أمريكي على دراسة جماعية كبيرة ستضم أطفالًا رضعًا، وتتابعهم منذ ولادتهم لمدة ثلاثة مواسم إنفلونزا على الأقل؛ لاستكشاف كيفية استجابة أجهزتهم المناعية على المستوى الجزيئي للتعرض لعدوى الإنفلونزا لأول مرة، وحالات العدوى والتحصينات اللاحقة منها. ويُنصَح عادةً بتطعيم الرضع الذين تزيد أعمارهم على 6 أشهر.
وهذا هو أقصى ما يمكن أن تقدمه لنا دراسة الفيروس؛ فتوفير حماية أفضل يتوقف أيضًا على دراسة الأشخاص. ويدرك الباحثون حاليًّا أن الجسم يمكنه أن يُحدِث استجابة واسعة النطاق بشكل مذهل، حتى ضد كائنات قادرة على تغيير شكلها، مثل فيروس الإنفلونزا. وتقول - في هذا الصدد - كاتيلين جوستيك، وهي عالِمة أوبئة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس: "إنّ الإنفلونزا هي أحد أكثر الفيروسات خضوعًا للدراسة على سطح هذا الكوكب. ونحن بصدد اكتشاف قارة جديدة بأكملها في عالَم كنا نعتقد أننا نملك مفاتيحه بالفعل".
أُسس الإنفلونزا
كان أول مَن اقترح مفهوم تكوين البصمة هو الراحل توماس فرانسيس، عالِم الفيروسات والأوبئة بجامعة ميشيجان، الذي كانت الدراسات التي أجراها في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي هي أولى الدراسات التي تُبيّن أن الأفراد يُولِّدون استجابات أجسام مضادة أقوى لأول سلالة إنفلونزا تواجههم، مقارنة بتلك التي يتعرضون لها في وقت لاحق من حياتهم2.
منذ ذلك الحين، أصقل الباحثون هذا المفهوم. ففي دراسة شملت أكثر من 150 شخصًا، تتراوح أعمارهم بين 7 و81 سنة في جنوب الصين، قاس العلماء مستويات الأجسام المضادة في مقابل سلالات مختلفة من فيروس الإنفلونزا، مع النظر في كيفية استجابة أجهزة المناعة لدى هؤلاء الأشخاص لسلالات، كان من المحتمل مواجهتهم لها في مراحل مختلفة من حياتهم. ووجد الباحثون أنه بعد الإصابة الأولى، يكون للسلالات اللاحقة تأثير متناقِص تدريجيًّا على الاستجابة المناعية3، حسبما يشرح جاستن ليسلر، وهو عالِم أوبئة بكلية جونز هوبكنز بلومبرج للصحة العامة في بالتيمور بولاية ميريلاند، كان قد شارك في تأليف الدراسة. ويضيف ليسلر: "على الرغم من أن تكوين البصمة المناعية يلعب دورًا بالغ الأهمية، فإن التركيز عليها وحدها يمكن أن يؤدي بنا إلى إغفال جوانب مهمة لكيفية تطور المناعة ضد الإنفلونزا في حالات التعرض المتعددة للمرض".
[caption id="attachment_7992" align="aligncenter" width="800"] سلالات مجمَّدة من فيروس الإنفلونزا، مُخَزَّنة في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية.[/caption]
في عام 2009، ظهرت نوعية جديدة من الإنفلونزا في المكسيك، نتجت عنها جائحة منحت الباحثين واحدة من أفضل الفرص حتى الآن لدراسة تكوين البصمة المناعية باستخدام أساليب حديثة في علم المناعة. وتشير سلسلة من الدراسات5،4 إلى أن الفيروس استحث استجابة مناعية قوية، لدرجة أنه "أيقظ" لدى الأشخاص الذين أصيبوا به مناعة كبيرة كانت خامدة منذ عملية تكوين البصمة المبكرة. فتوّلدت لدى العديد من الأفراد أجسام مضادة، لا تهاجم السلالة الجديدة فقط، وإنما أيضًا أفراد فصيلتها الأوسع نطاقا.
توجد بضعة أنواع من فيروسات الإنفلونزا. والنوع الرئيس منها الذي يسبب المرض لدى البشر له عدة أنواع فرعية، تُسمَّى بأسماء البروتينات الموجودة على سطحها؛ حيث يوجد 18 شكلًا معروفًا من بروتين الراصّة الدموية (HA)، و11 شكلًا من بروتين نيورامينيديز (NA). ولكل نوع فرعي من الفيروس شكل مختلف من بروتينَي الراصة الدموية، والنيورامينيديز. ويمنح الارتباط بين هذين البروتينين كل نوع فرعي اسمه، مثل H1N1 ، أو H3N2. وقد وُجِد أن بعض الأنواع يصيب مجموعات حيوانية محددة فقط، لكن البعض الآخر يمكن أن يتحوّل إلى أنواع جديدة قادرة على إصابة البشر.
وفي ورقة بحثية نُشِرت في مجلة «ساينس» 6Science في عام 2016، حللت جوستيك وزملاؤها جميع الحالات البشرية المعروفة لنوعين فرعيين من إنفلونزا الطيور، هما: H5N1، وH7N9. وهذان النوعان ينتشران في ستة بلدان. وقد أصاب الفيروسان فئات عمرية مختلفة، فكان فيروس H5N1 يصيب الشباب في الأغلب الأعم، في حين كانت جميع الحالات المصابة بالفيروس H7N9 تقريبًا من المسنين. وبالنظر إلى سنة ميلاد كل فرد مصاب بالإنفلونزا، وجد الباحثون أن القابلية للإصابة بالمرض قد تغيّرت على نحو مفاجئ في عام 1968؛ فالأشخاص الذين وُلِدوا قبل هذا التاريخ كانوا أكثر عرضة للإصابة بفيروس H7N9، ومَن وُلِدوا بعده كانوا أكثر عرضة للإصابة بفيروس H5N1.
لم يكن هؤلاء الأشخاص قد واجهوا أيًّا من النوعين الفرعيين من قبل، لكنْ استنادًا إلى تواريخ ميلادهم، كانوا قد واجهوا أنواعًا مختلفة ذات صلة. ويمكن تقسيم أنواع الإنفلونزا الفرعية إلى مجموعتين، وفقًا لخصائص معينة لبروتين الراصة الدموية لديهم، حيث ينتمي الفيروس H5N1 إلى المجموعة واسعة النطاق نفسها التي تنتمي إليها السلالتان H1N1، وH2N2، وهما سلالتان كانتا تنتشران بشكل موسمي قبل عام 1968.
مِن المفترض أن أي شخص وُلِد قبل هذا العام كان لديه بصمة لإحدى سلالات المجموعة الأولى، ومن ثم كان محصَّنًا من الإصابة بفيروس H5N1، لكن في عام 1968 تغيّر كل شيء؛ إذ ضربت العالم جائحة من فيروس H3N2، وأصبح هو النوع الفرعي الموسمي الوحيد. لذا، تكوّنت بصمة لدى معظم الأشخاص الذين ولِدوا بعد هذا التاريخ بسلالة H3N2، وهي من فيروسات المجموعة الثانية. كذلك ينتمي النوع H7N9 إلى المجموعة نفسها، ولذا، كان كثير من الأشخاص الذين وُلِدوا بعد عام 1968 محصَّنين ضد الإصابة به.
تشير النتيجة التي توصّل إليها الباحثون إلى أن تكوين بصمة لفيروس ينتمي إلى إحدى مجموعتي الراصة الدموية قد يوفر وقاية متداخلة واسعة النطاق ضد أنواع فرعية جديدة تنتمي إلى المجموعة نفسها، وهو الأمر الذي يتعارض مع الافتراض الذي يتبناه كثير من خبراء الصحة العامة بأنّ غالبية الناس تكون لديهم وقاية ضئيلة أو منعدمة ضد الجائحات التي تَحْدُث عادةً عند ظهور أنواع فرعية جديدة من الإنفلونزا.
يقول جيمس لويد-سميث، وهو عالِم متخصص في بيئة الأمراض، ومؤلف مشارك للورقة البحثية، ويعمل أيضًا بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس: "كانت قوة التأثير الوقائي ضد العدوى الشديدة بفيروسي H5N1، وH7N9 صادمة". وأوضح الباحثون، باستخدام النمذجة، أن تكوين البصمة في فترة الطفولة وفر وقاية بنسبة 75% ضد حالات المرض الشديدة، وبنسبة 80% ضد الوفاة الناجمة عن فيروسات إنفلونزا الطيور.
وقد لوحظت اختلافات في القابلية للإصابة بالمرض بين الفئات العمرية المختلفة في جائحات أخرى. ففي الجائحة التي وقعت خلال عام 1918، وكان السبب فيها نوع فرعي من H1N1، كانت الفئة الأكثر تضررًا هي من البالغين الشباب، الذين لديهم وقاية كبيرة ضد فيروس H3N8، الذي انتشر في الفترة ما بين عامي 1889، و1918 عندما كانوا أطفالًا. وينتمي الفيروس H3N8 إلى مجموعة مختلفة عن تلك التي ينتمي إليها H1N1 (انظر: "سلالات حاكمة"). ويقول باتريك ويلسون، وهو عالِم مناعة بجامعة شيكاغو في إلينوي إن السبب في الجائحة التي حدثت في عام 2009 كان نوعًا من فيروس H1N1، لكنه بالرغم من ذلك، كان هناك عدد قليل جدًّا من حالات الإصابة بين المسنين، الذين من المفترض أن تكون قد تكوّنت لديهم بصمة للنوع السابق من H1N1، الذي انتشر بعد جائحة عام 1918. وظهر كذلك أحد فيروسات H1N1 في سبعينيات القرن الماضي، وكان مشابِهًا جدًّا لسلالة سابقة، يَعتقِد العلماء أنها أُطلِقت بطريق الخطأ من أحد المختبرات، أو إحدى تجارب اللقاحات7. ويقول هنسلي: "مِن الممتع النظرُ إلى تاريخ مولدك، والاستدلال - نوعًا ما - على بصمتك المناعية الأولى".
تتمثّل الأولوية الآن في التوصل إلى كيفية قيام الجسم البشري بتكوين بصمة للسلالات الأولى التي يصادفها. ويقول هنسلي: "نحن بحاجة إلى استخلاص الأساس المناعي لهذا الأمر".
على مدار العقد الماضي، عكف الباحثون على بناء مجموعة من التقنيات؛ لدراسة تكوين البصمة على المستوى الجزيئي. فمن السهل، على سبيل المثال، اختبار مستوى جميع الأجسام المضادة المتولدة كردّ فعل لنزلة من الإنفلونزا، لكن الوصول إلى الأسباب الرئيسة لتكوين البصمة يتطلّب قدرة على التركيز على المجموعات الفرعية من الأجسام المضادة التي توّلد مناعة واسعة النطاق.
وعلى سبيل المثال، أصبح الباحثون الآن قادرين على فرز مئات الآلاف من الخلايا المفردة، وتحليلها. ويمكنهم استخدام تسلسل الخلايا المفردة؛ لتوصيف العوامل الفاعلة الرئيسة في جهاز المناعة، قبل استجابة الخلايا للعدوى الأولى التي تتعرض لها، وبعدها. هذا، ويسعى العلماء لمعرفة كيف تصمِّم هذه الخلايا استجابة طويلة الأمد للإنفلونزا في المستقبل.
يقول بادي كريتش، وهو مدير برنامج فاندربيلت لبحوث اللقاحات بالمركز الطبي لجامعة فاندربيلت في ناشفيل في ولاية تينيسي: "تتوفر لدينا الآن أدوات أكثر دقة بكثير؛ ما يتيح لنا إلقاء نظرة دقيقة للغاية على ما يحدث عند التعرض الأول، والتعرض المتكرر، للإنفلونزا ولقاح الإنفلونزا". يشارك كريتش في إدارة مبادرة اللقاح العام للإنفلونزا، وهو مشروع تشارك فيه عدة جامعات، انطلق في أكتوبر الماضي؛ لدراسة الاستجابة المناعية للإنفلونزا، وكيف يمكن استثارة مناعة واسعة النطاق. وتقول ناياك إنه بمجرد أن نفهم هذه الآليات بشكل أفضل، ربما يكون من الممكن تلخيصها؛ للمساعدة في جعل اللقاحات أكثر فاعلية على نطاق واسع.
قوة الأشخاص
فيما يخص الباحثين الراغبين في تطبيق هذه الأدوات، تتدخل جهات تمويل معينة - مثل معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، ومؤسسة بيل وميليندا جيتس - لتقديم المساعدة.
وقد أعلنت مؤسسة جيتس عن شريحة تمويل بقيمة 12 مليون دولار أمريكي في إبريل، تعتزم المؤسسة تخصيصها لمشروعات تجريبية تهدف إلى تطوير لقاحات عامة للإنفلونزا. وتذكر الدعوة لتقديم طلبات التمويل تكوين البصمة وسمات أخرى للاستجابة المناعية للمضيف، وسوف تُمنَح الأولوية للمشروعات عالية المخاطر.
وفي الشهر نفسه، أصدر المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية دعوة إلى تقديم مقترحات بميزانية تبلغ 5 ملايين دولار، لمتابعة أعداد كبيرة من الأطفال على مدار فترة لا تقل عن ثلاثة مواسم للإنفلونزا، وربما لسنوات بعد ذلك. ويتلخص الهدف الجوهري للدراسة - وفقًا لما ذكره المعهد - في توفير المعلومات التي من شأنها مساعدة الباحثين على تصميم لقاحات عامة طويلة الأمد.
وتقول ناياك إنه حتى الآن لا تزال البحوث المتعلقة بالتعرض للمرض في مرحلة الطفولة محدودة، وبالتالي فإن الدعوة التي أصدرها المعهد من الأخبار السارة. ومعظم دراسات الإنفلونزا لدى الأطفال كانت صغيرة النطاق، ولم تصف تاريخ التعرض للمرض الخاص بكل فرد بشكل دقيق بما فيه الكفاية. وتضيف ناياك: "إنّ ذلك يجعل من المستحيل حتى تناوُل ما إذا كان تكوين البصمة يحدث، أم لا، ناهيك عن تحديد الآلية المسؤولة عنه".
تَمثَّل جزء من المشكلة في تتبع جهاز المناعة لدى الرضع، وهو الأمر الذي يتطلب سحب عينات متكررة من الدم. فمنذ فترة لا تزيد على 5 سنوات، كانت التحاليل تتطلب سَحْب كمية تتراوح بين 10 و20 ملِّيلترًا من الدم، ما يجعل الرصد المناعي للأطفال الرضع أمرًا غير عملي (يحتوي جسم الطفل حديث الولادة، الذي يبلغ وزنه ثلاثة كيلوجرامات، على 240 ملّيلترًا فقط من الدم). هذا، لكن التطورات التكنولوجية تغلبت على هذه العقبة، حيث يقول هنسلي، الذي قدَّم طلبًا لإجراء دراسة لجماعات من الولايات المتحدة، وهونج كونج: "عن طريق هذه التحاليل للخلايا المفردة، يمكن إجراء فحوص مناعية قوية باستخدام كمية تتراوح بين ملّيلتر واحد، وملّيلترين من الدم فقط."
سوف تُمكِّن هذه التقنيات الباحثين من فهرسة حالات التعرض للمرض، والتطعيمات الخاصة بالرضع - على وجه الدقة - على مدار الوقت، ورسم صورة مفصلة لكيفية اختلاف المناعة عند تحفيز العدوى الطبيعية لها، مقارنة بالتطعيم.
تهدف الدعوة التي أصدرها المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية إلى استكمال الدراسات الجماعية الأخرى للإنفلونزا في جميع أنحاء العالم. ويدعم المعهد بالفعل بحوث الإنفلونزا التي تُجرَى على جماعات في نيكاراجوا، وهونج كونج، ونيوزيلندا، لكنْ لا يركز أيّ مِن هذه البحوث على تكوين البصمة في مرحلة الطفولة. وتدير جوردون الجماعة الخاصة بنيكاراجوا، التي تدرس حاليًّا حدوث الإصابة بالإنفلونزا لدى الأطفال، ومدى حِدّتها. وتُعَد هذه الجماعة هي الجماعة الوحيدة الكبيرة التي صُمِّمت لقيد الأطفال ومتابعتهم منذ ولادتهم، وبالتالي فهي في وضع يؤهلها لدراسة تكوين البصمة. وقد قدمت جوردون طلبًا للحصول على تمويل من المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية، في إطار مجموعة من الدراسات الجماعية؛ لتمكين فريقها من ضمّ الخبرات المتخصصة اللازمة في مجال المناعة.
تُجرِي ناياك بالفعل حاليًّا دراسة تجريبية صغيرة لعملية تكوين البصمة، وقد سُجِّل فيها حتى الآن 129 طفلًا منذ بدايتها في أواخر عام 2016. وقدمت الباحثة كذلك عرضًا إلى المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المُعدية، ضمّ جامعتي روتشستر، ومينيسوتا، وتقع الجماعات الخاضعة للدراسة في الولايات المتحدة، وأستراليا. ويساعد تعدُّد المواقع الخاضعة للدراسة على اتقاء مخاطر هجوع الإنفلونزا لبضعة المواسم، أو هيمنة نوع واحد فقط من الإنفلونزا في البعض الآخر.
وفيما يخص العلماء الذين يرغبون في ملاحقة حلم اللقاح العام للإنفلونزا، الذي يبدو بعيد المنال، تُعَد الدراسات الجماعية عنصرًا واحدًا من عناصر استراتيجية متعددة الجوانب. وسوف يحتاجون كذلك إلى إجراء بحوث على الجوانب البيولوجية الأساسية للفيروسات، والعثور على مكونات جديدة للقاحات، حسبما يقول كريتش، الذي يضيف قائلًا: "يجب علينا العمل على حل المشكلة من كلا الجانبين".
ديكلان باتلر
المصدر: موقع نيتشر
https://arabicedition.nature.com/journal/2018/09/d41586-018-05889-1