يشهد الوضع في شمال أفريقيا تطورات في اتجاهات غير متوقعة. بسبب التحديات التي تفرضها الأزمة الليبية والتهديدان الناجمة عن عدم الاستقرار هناك –...
يشهد الوضع في شمال أفريقيا تطورات في اتجاهات غير متوقعة. بسبب التحديات التي تفرضها الأزمة الليبية والتهديدان الناجمة عن عدم الاستقرار هناك – استمرار العنف وتمدد الإرهاب وازدهار الجريمة المنظمة – فإنه قد يكون من المتوقع بصورة عقلانية أن يكون هناك تعاون بين بلاد شمال إفريقيا. إلا أن الواقع ليس كذلك: حيث أن تونس منغمسة في لحظة اقتصادية وسياسية صعبة، بالتزامن مع الإضرابات والتظاهرات في أجزاء عديدة من البلاد. أما الجزائر والمغرب فيواجهان أزمات متنامية. بينما تنهار ليبيا لتصبح دولة شبه فوضوية.
هناك محركان للأزمة الجزائرية، أولهما ميزانية الدولة المتدهورة بسبب انخفاض أسعار النفط والغاز، والثاني هو الغموض المحيط بالقيادة الجزائرية. كان من المعتاد أن تتعامل السلطة في الجزائر مع الاضرابات والاحتجاجات التي تقوم بها مختلف قطاعات المجتمع بخليط من القمع الشرطي وتوزيع الحكومة للمال. لكن فرصة استغلال الحكومة للنقطة الثانية تضاءلت بشكل كبير في الشهور القليلة الأخيرة، بسبب انخفاض أرباح النفط. بناء عليه، فإن النظام كثف من استخدامه لأجهزة الأمن، ما تسبب في تصعيد الاحتجاجات ووضع المزيد من الضغط على النخبة السياسية. هذا بخلاف سوء استغلال الشخصيات المؤثرة والمقربة من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لمرضه وبالتبعية ضعفه، وذلك باتخاذ قرارات نيابة عنه وباسمه، وهو ما يعني أنهم يديرون البلاد.
يبدو من الواضح أن هذا الوضع لن يستمر، وأن على النخبة أن تقرر من الذي سيخلف بوتفليقة في منصب الرئيس، ولكنهم حتى فشلوا في هذه المهمة. للتغطية على عدم الاستقرار الداخلي والخارجي، فإن النظام عمد إلى نشر أخبار حول خطط بوتفليقة للترشح لفترة رئاسية خامسة. يمكن لهذه الأخبار أن تهدئ، ولو على المدى القصير، مخاوف العديد من المجموعات التي تتسابق على السلطة، لكنها تضع النظام الجزائري في موقف شديد الضعف داخليا وعلى المستوى الإقليمي.
يؤثر ضعف الرئاسة سلباً على وضع الجزائر وقدرتها على إظهار قوتها في القارة. عادة، كانت الجزائر هي التي تفرض توازن القوى في شمال إفريقيا، وهو دور لعبته للسيطرة على النهم التوسعي لجيرانها. ولكن الجزائر قد فشلت في لعب هذا الدور حتى في ليبيا. حيث أن وجود رئيس قوي في الجزائر ما كان ليسمح أبدا للتوسع المصري في شرق ليبيا، فالدعم غير المشروط الذي تقدمه مصر لرجل ليبيا القوي المغامر خليفة حفتر كان سيُقابل ويُوازن بقوة جزائرية في غرب ليبيا. كان يمكن لذلك أن يوفر توازناً في القوى في الأزمة الليبية، مما كان سيوجد مكاناً لقوى المعارضة على طاولة المفاوضات. على عكس من ذلك، فإن الدور الجزائري قد تم حصره في الدور الدبلوماسي، ودعم الوساطة بقيادة الأمم المتحدة داخل ليبيا.
ربما تقرر النخبة الجزائرية التعامل مع مشاكلها الداخلية عبر تشتيت الانتباه نحو الأخطار الخارجية – سواء كانت حقيقة أو افتراضية. في هذه الحالة، فإن الارتفاع المفاجئ في التوتر مع المغرب بسبب قضية الصحراء الغربية يمكن أن يخدم هذا الهدف. لذا فتجدد الاشتباك العسكري لجبهة البوليساريو (القوة السياسية والعسكرية التي تمثل السكان الأصليين للصحراء الغربية التي تقاتل من أجل الاستقلال) على الحدود مع المغرب تسبب في أن تتخذ الأخيرة مبادرات دبلوماسية قوية، بما في ذلك التهديد بالعمل العسكري إذا ما استمر الاستفزاز.
بالرغم من ذلك، فإن المغرب أيضا تعاني من وضع حرج: هناك شائعات حول مرض الملك محمد السادس. علاوة على ذلك، فإن المغرب تعي جيداً الوضع المتدهور لجيشها في مواجهة جارتها الشرقية، وعلى الأرجح فإنها لن تخاطر بالدخول في مواجهة كاملة. تعاني المغرب نفسها مما تعاني منه الجزائر، حيث تشهد ارتفاعا في الاحتجاجات وازدياد في السخط الشعبي حيال النخبة الحاكمة.
فضلا عن ذلك، قامت المغرب بتطبيق استراتيجية ناجحة لمشاريع تنمية اقتصادية في كثير من البلدان الواقعة في جنوب الصحراء الكبرى، مما مدد نفوذها هناك، الأمر الذي أغضب الجزائر الذي يخشى من النفوذ المغربي في القارة الإفريقية، حيث أنه طالما لعب دورا كبيراً هناك. يمكن للعلاقات بين الجزائر والمغرب أن تتدهور بسرعة نحو المواجهة العنيفة، خاصة إذا ما قرر كلاهما أن يشتت الانتباه نحو هدف خارجي بعيدا عن المشاكل الداخلية.
على الرغم من أن أيا من هذه القضايا التي نوقشت لا تشكل سبباً كافياً في ذاتها لإيجاد صراع بين البلدين، إلا أن تراكمها جميعا يجعل من الصراع أمر محتمل، والحرب بين الجزائر والمغرب، البلدين الأكثر استقرارا في شمال إفريقيا، سيكون أمرا كارثياً.
إذن، من الواضح أن الوضع في هذا الجزء من الإقليم يجب أن يُراقب بشكل مستمر وإيجابي من قبل المجتمع الدولي، للحيلولة دون أي نوع من أنواع التصعيد، على القوى الدولية أن تتصف بالحكمة وتتابع الوضع عن كثب وأن تستعد لتسهيل المحادثات.
على أية حال، فإنه بالرغم من أن فرنسا لديها مصالح ونفوذا في البلدين، إلا أنها لا تعد وسيطا محايداً في حال تصعيد الأزمة. القوة الوحيدة التي لديها القدرة على لعب دور مهدئ هي الولايات المتحدة، ويبدو أنها غير مستعدة أو راغبة في الانخراط في هذا الجزء من الإقليم، مما يترك فراغاً يسمح لنفوذ من قوى أخرى مثل روسيا والإمارات العربية المتحدة بالتواجد والتأثير.
[caption id="attachment_7202" align="aligncenter" width="800"] اللواء الليبي حفتر[/caption]
هناك منطقة أخرى تقع تحت تهديد التدهور، ألا وهي الحدود الشرقية في ليبيا. المعتاد أن مصر كانت تهتم ببسط نفوذها على المنطقة الحدودية التي كانت تسمى برقة. عقب تدهور الوضع في ليبيا ليصل إلى شبه فوضوي وزيادة ظهور وقوة الحركات الإسلامية – والتي في فترة من الفترات بدت حريصة على السيطرة على كامل البلاد – قررت مصر التدخل لدعم الجنرال حفتر وجيشه المدعو الجيش الوطني الليبي ضد العدو المشترك: الإسلام السياسي. إلا أنه، وبعد ثلاث سنوات من القتال الدامي والحملات المدمرة، تعثر الوضع: فسلطة حفتر غير ثابتة على المناطق الشرقية، وهو ليس في وضع يسمح له ببسط قوته على الأجزاء الغربية للبلاد. وقد تصاعد مستوى السخط بين صناع القرار المصريين حيال عدم قدرة حفتر على الإنجاز في الأسابيع الأخيرة. وبالرغم من أنه من الصعب التنبؤ بتدخل عسكري مباشر من مصر لتأمين حدودها الغربية، إلا أننا لا يمكن تجاهل هذه الاحتمالية.
ما يزيد من تفاقم الوضع هو وجود مصالح متضاربة بين القبائل العربية وغير العربية في جنوب ليبيا. في المنطقة التي كانت معروفة باسم فزان، قام كل حزب متصارع باستقدام دعم إقليمي، ما زاد من عدم الاستقرار في جميع بلدان الساحل.
ما تزال ذات التوترات التي تسببت في الاحتجاجات والحروب في الماضي قائمة في شمال إفريقيا اليوم: تدهور الاقتصاد، التنافس على السلطة بين النخب، التدخل الإقليمي، والتهديد المستمر من قبل شبكات الإرهاب والجريمة. ليس على الدول الغربية أن تظل يقظة فحسب، بل عليها أيضا أن تعلب دورا أكثر حزماً في الوساطة وتهدئة نقاط التوتر. فالولايات المتحدة على وجه الخصوص قد اختارت مقعد المتفرج في أغلب هذه القضايا، لكن قوتها ونفوذها يمكن أن يكونا أساسيين في الحفاظ على استقرار المنطقة.
كريم ميزران
كبير باحثين في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط.
المصدر: مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط
http://www.achariricenter.org/north-african-winds-ar/
هناك محركان للأزمة الجزائرية، أولهما ميزانية الدولة المتدهورة بسبب انخفاض أسعار النفط والغاز، والثاني هو الغموض المحيط بالقيادة الجزائرية. كان من المعتاد أن تتعامل السلطة في الجزائر مع الاضرابات والاحتجاجات التي تقوم بها مختلف قطاعات المجتمع بخليط من القمع الشرطي وتوزيع الحكومة للمال. لكن فرصة استغلال الحكومة للنقطة الثانية تضاءلت بشكل كبير في الشهور القليلة الأخيرة، بسبب انخفاض أرباح النفط. بناء عليه، فإن النظام كثف من استخدامه لأجهزة الأمن، ما تسبب في تصعيد الاحتجاجات ووضع المزيد من الضغط على النخبة السياسية. هذا بخلاف سوء استغلال الشخصيات المؤثرة والمقربة من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لمرضه وبالتبعية ضعفه، وذلك باتخاذ قرارات نيابة عنه وباسمه، وهو ما يعني أنهم يديرون البلاد.
يبدو من الواضح أن هذا الوضع لن يستمر، وأن على النخبة أن تقرر من الذي سيخلف بوتفليقة في منصب الرئيس، ولكنهم حتى فشلوا في هذه المهمة. للتغطية على عدم الاستقرار الداخلي والخارجي، فإن النظام عمد إلى نشر أخبار حول خطط بوتفليقة للترشح لفترة رئاسية خامسة. يمكن لهذه الأخبار أن تهدئ، ولو على المدى القصير، مخاوف العديد من المجموعات التي تتسابق على السلطة، لكنها تضع النظام الجزائري في موقف شديد الضعف داخليا وعلى المستوى الإقليمي.
يؤثر ضعف الرئاسة سلباً على وضع الجزائر وقدرتها على إظهار قوتها في القارة. عادة، كانت الجزائر هي التي تفرض توازن القوى في شمال إفريقيا، وهو دور لعبته للسيطرة على النهم التوسعي لجيرانها. ولكن الجزائر قد فشلت في لعب هذا الدور حتى في ليبيا. حيث أن وجود رئيس قوي في الجزائر ما كان ليسمح أبدا للتوسع المصري في شرق ليبيا، فالدعم غير المشروط الذي تقدمه مصر لرجل ليبيا القوي المغامر خليفة حفتر كان سيُقابل ويُوازن بقوة جزائرية في غرب ليبيا. كان يمكن لذلك أن يوفر توازناً في القوى في الأزمة الليبية، مما كان سيوجد مكاناً لقوى المعارضة على طاولة المفاوضات. على عكس من ذلك، فإن الدور الجزائري قد تم حصره في الدور الدبلوماسي، ودعم الوساطة بقيادة الأمم المتحدة داخل ليبيا.
ربما تقرر النخبة الجزائرية التعامل مع مشاكلها الداخلية عبر تشتيت الانتباه نحو الأخطار الخارجية – سواء كانت حقيقة أو افتراضية. في هذه الحالة، فإن الارتفاع المفاجئ في التوتر مع المغرب بسبب قضية الصحراء الغربية يمكن أن يخدم هذا الهدف. لذا فتجدد الاشتباك العسكري لجبهة البوليساريو (القوة السياسية والعسكرية التي تمثل السكان الأصليين للصحراء الغربية التي تقاتل من أجل الاستقلال) على الحدود مع المغرب تسبب في أن تتخذ الأخيرة مبادرات دبلوماسية قوية، بما في ذلك التهديد بالعمل العسكري إذا ما استمر الاستفزاز.
بالرغم من ذلك، فإن المغرب أيضا تعاني من وضع حرج: هناك شائعات حول مرض الملك محمد السادس. علاوة على ذلك، فإن المغرب تعي جيداً الوضع المتدهور لجيشها في مواجهة جارتها الشرقية، وعلى الأرجح فإنها لن تخاطر بالدخول في مواجهة كاملة. تعاني المغرب نفسها مما تعاني منه الجزائر، حيث تشهد ارتفاعا في الاحتجاجات وازدياد في السخط الشعبي حيال النخبة الحاكمة.
فضلا عن ذلك، قامت المغرب بتطبيق استراتيجية ناجحة لمشاريع تنمية اقتصادية في كثير من البلدان الواقعة في جنوب الصحراء الكبرى، مما مدد نفوذها هناك، الأمر الذي أغضب الجزائر الذي يخشى من النفوذ المغربي في القارة الإفريقية، حيث أنه طالما لعب دورا كبيراً هناك. يمكن للعلاقات بين الجزائر والمغرب أن تتدهور بسرعة نحو المواجهة العنيفة، خاصة إذا ما قرر كلاهما أن يشتت الانتباه نحو هدف خارجي بعيدا عن المشاكل الداخلية.
على الرغم من أن أيا من هذه القضايا التي نوقشت لا تشكل سبباً كافياً في ذاتها لإيجاد صراع بين البلدين، إلا أن تراكمها جميعا يجعل من الصراع أمر محتمل، والحرب بين الجزائر والمغرب، البلدين الأكثر استقرارا في شمال إفريقيا، سيكون أمرا كارثياً.
إذن، من الواضح أن الوضع في هذا الجزء من الإقليم يجب أن يُراقب بشكل مستمر وإيجابي من قبل المجتمع الدولي، للحيلولة دون أي نوع من أنواع التصعيد، على القوى الدولية أن تتصف بالحكمة وتتابع الوضع عن كثب وأن تستعد لتسهيل المحادثات.
على أية حال، فإنه بالرغم من أن فرنسا لديها مصالح ونفوذا في البلدين، إلا أنها لا تعد وسيطا محايداً في حال تصعيد الأزمة. القوة الوحيدة التي لديها القدرة على لعب دور مهدئ هي الولايات المتحدة، ويبدو أنها غير مستعدة أو راغبة في الانخراط في هذا الجزء من الإقليم، مما يترك فراغاً يسمح لنفوذ من قوى أخرى مثل روسيا والإمارات العربية المتحدة بالتواجد والتأثير.
[caption id="attachment_7202" align="aligncenter" width="800"] اللواء الليبي حفتر[/caption]
هناك منطقة أخرى تقع تحت تهديد التدهور، ألا وهي الحدود الشرقية في ليبيا. المعتاد أن مصر كانت تهتم ببسط نفوذها على المنطقة الحدودية التي كانت تسمى برقة. عقب تدهور الوضع في ليبيا ليصل إلى شبه فوضوي وزيادة ظهور وقوة الحركات الإسلامية – والتي في فترة من الفترات بدت حريصة على السيطرة على كامل البلاد – قررت مصر التدخل لدعم الجنرال حفتر وجيشه المدعو الجيش الوطني الليبي ضد العدو المشترك: الإسلام السياسي. إلا أنه، وبعد ثلاث سنوات من القتال الدامي والحملات المدمرة، تعثر الوضع: فسلطة حفتر غير ثابتة على المناطق الشرقية، وهو ليس في وضع يسمح له ببسط قوته على الأجزاء الغربية للبلاد. وقد تصاعد مستوى السخط بين صناع القرار المصريين حيال عدم قدرة حفتر على الإنجاز في الأسابيع الأخيرة. وبالرغم من أنه من الصعب التنبؤ بتدخل عسكري مباشر من مصر لتأمين حدودها الغربية، إلا أننا لا يمكن تجاهل هذه الاحتمالية.
ما يزيد من تفاقم الوضع هو وجود مصالح متضاربة بين القبائل العربية وغير العربية في جنوب ليبيا. في المنطقة التي كانت معروفة باسم فزان، قام كل حزب متصارع باستقدام دعم إقليمي، ما زاد من عدم الاستقرار في جميع بلدان الساحل.
ما تزال ذات التوترات التي تسببت في الاحتجاجات والحروب في الماضي قائمة في شمال إفريقيا اليوم: تدهور الاقتصاد، التنافس على السلطة بين النخب، التدخل الإقليمي، والتهديد المستمر من قبل شبكات الإرهاب والجريمة. ليس على الدول الغربية أن تظل يقظة فحسب، بل عليها أيضا أن تعلب دورا أكثر حزماً في الوساطة وتهدئة نقاط التوتر. فالولايات المتحدة على وجه الخصوص قد اختارت مقعد المتفرج في أغلب هذه القضايا، لكن قوتها ونفوذها يمكن أن يكونا أساسيين في الحفاظ على استقرار المنطقة.
كريم ميزران
كبير باحثين في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط.
المصدر: مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط
http://www.achariricenter.org/north-african-winds-ar/