لا يزال الصبي ذو العينين الزرقاوين والخدود الممتلئة يتحدث عن الأفلام التي كان يشاهدها بعد انتهاء يومه الدراسي والتي طالما كان يحبها كثيراً. ...
لا يزال الصبي ذو العينين الزرقاوين والخدود الممتلئة يتحدث عن الأفلام التي كان يشاهدها بعد انتهاء يومه الدراسي والتي طالما كان يحبها كثيراً. كان ذلك قبل ثلاث سنوات، عندما كان في التاسعة من عمره ويعيش في إحدى ضواحي الرقة بشمال سوريا. كان يذهب في بعض الأحيان مع والده وأخيه الأصغر إلى مسرحٍ مؤقتٍ في الهواء الطلق وسط المدينة، كما كان يذهب مع معلمه وزملائه في المدرسة، حيث كانوا يجلسون على الكراسي البلاستيكية، يأكلون البسكويت أمام شاشة تلفاز كبيرة، وُضعت فوقها مظلة لحمايتها من أشعة الشمس.
وبالرغم من تنوع الأفلام، إلا أن الحبكة الفنية كانت دائماً هي ذاتها: أفرادٌ من داعش يرتدون الملابس السوداء «يحررون» المدن من الكفار، ويقطعون رؤوسهم في إحتفال دمويّ، ولم يكن بالفيلم أية مشاهد تمثيلية، فقد كان يصوّر مشاهد حقيقيةً.
ويتذكّر الصبي قائلاً: «فكرت وقتها أنه سيكون من الممتع أن نذهب إلى الجهاد».
واليوم، فإن الصبي الذي طلب تعريف نفسه فقط باسم محمد، يعيش مع عمه في مدينة ريحانلي التركية.
وعندما التقينا ذات مرة في إحدى الليالي الباردة بمنزل عمه الذي بدا منظماً وإن كان مزدحماً، أصابتني الدهشة حينما عرفت أن العنف الذي طالما شاهده في أفلام الفيديو لم يخيفه مطلقاً.
كان يقول «إنهم كفار ولا بأس في قتلهم»، ويستعيد مشاعر «الإثارة» التي تنتابه حينما يرى هذه المشاهد على الشاشة، أو عندما يرى مقاتلي داعش وهم يقومون بدوريات في شوارع الرقة، ويفرضون قواعد اللباس الصارمة، والتوجه إلى المسجد وفقاً لتفسيرهم المتشدد للشريعة الإسلامية.
وقد أثار تعاطف محمد وشقيقيه مع داعش قلق عمه، الذي طلب تعريف نفسه فقط باسم رائد.
[caption id="attachment_6269" align="aligncenter" width="600"]
أطفال عراقيون نزحوا من الموصل، لكن غيرهم لم يكن محظوظاً في الابتعاد عن سيطرة داعش.[/caption]
ففي العام الماضي أقنع والد الصبيين بالإنتقال مع عائلته من الرقة، المعقل الرئيسي لداعش في سوريا، والتوجه إلى تركيا.
واليوم، يتشارك رائد وعائلته المنزل مع أسرة أخيه المكوّنة من أولاد ثلاثة هم: محمد، الذي يبلغ من العمر الآن 12 عاماً، وإبراهيم البالغ من العمر 10 أعوام، وسالم البالغ من العمر 16 عاماً ووالدهم.
ويدرس الأولاد في مدرسة للاجئين السوريين ترعاها اليونيسف، فيما يأمل رائد أن يُغيّر ذلك من اهتماماتهم بعيداً عن الجهاد العنيف.
كما وقد إشترى رائد لهم أجهزة آي باد، وأشركهم في العمل معه في متجر الملابس المستعملة، وهو يحاول بإستمرار أن يُغيّر برفق من معتقداتهم حول واجبات المسلم الصالح.
ولكن حتى بعد مرور تسعة أشهر بعيداً عن تلك «الجماعة الجهادية،» فإن الأولاد لا يزالوا منبهرين بداعش.
يقول رائد: «إنهم يصرخون دائماً في وجهي، لماذا أحضرتنا إلى هنا؟»، ويضيف: «سوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، فالعقل ليس كجهاز الكمبيوتر؛ لأنه إذا حُمل بالمعلومات، فإنه لا يمكن محوها بسهولة».
وكانت داعش قد خصّصت موارد هائلة لتشكيل عقول الأطفال في الأراضي الخاضعة لسيطرتها، والتي وصلت لأقصى إتساع لها في الفترة الممتدة من منتصف العام 2014 حتى العام 2015، حيث سيطرت على ما يقرب من ثلث مساحة سوريا والعراق وهو ما كان موطناً لملايين المدنيين.
وفرضت داعش أفكارها بسرعة وبشكلٍ ممنهجٍ في المدارس.
كما وأغرت الأطفال بالهدايا وأشرطة الفيديو الدعائية للذهاب إلى معسكرات التدريب.
وقام التنظيم بأسر أطفال أعدائه، من الأيزيديين والمسيحيين، وغسل دماغ الكثيرين منهم في معسكرات التدريب قبل إرسالهم إلى المعركة كجنود أو إنتحاريين.
والآن، ومع تضييق القوات التي تدعمها الولايات المتحدة في سوريا والعراق الخناق على معاقل داعش الأخيرة، يزداد إهتمام العالم بدراسة الأضرار التي لحقت بهذا الجيل من الشباب.
وكان أول من يعانون من هذه الأضرار هم أولئك الذين يعيشون في ضواحي دولة داعش المنهارة.
وقد أجريت مقابلات مع الأطفال الذين يعيشون الآن في جنوب تركيا وشمال العراق ممن حضروا معسكرات تدريب داعش ومدارسها، حيث يتزاحم المعالجون ويتدافع مسؤولو الأمن لتقييمهم.
وقد فتحت تلك المقابلات نافذة هامّة على تلك الأزمة.
فبالإضافة إلى تأخرهم الشديد في التعليم، يعاني الكثير من هؤلاء الأطفال من الصدمات النفسية وغيرها من الأمور المتعلقة بالصحة العقلية. وقد استشعرت السلطات الخطر من بعضهم، كما شعرت عائلاتهم بالشيء ذاته نظراً لآرائهم المُتطرّفة وسلوكهم العنيف.
تقول ليزبيث فان دير هايدي، الخبيرة في إعادة تأهيل ودمج الإرهابيين في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي، إن داعش تُشكّل تحدياً أكثر خطورةً من الجماعات المُتطرّفة الأخرى التي حاولت توجيه المجتمعات نحو التطرف.
وبخلاف حركة فارك في كولومبيا، و إيتا في إسبانيا، وغيرها من الجماعات التي تعمل على فرض أفكارها على المدنيين، فإن داعش تصل إلى جميع أنحاء العالم، كما أنها حكمت عدداً كبيراً من السكان المدنيين أكثر من أي جماعة أخرى لها نفس الطموح مثل القاعدة.
وتضيف: «إن داعش تقوم فعليّاً بما يشبه إدارة الدولة، من حيث توفير التعليم والرعاية الصحية والخدمات القانونية للمواطنين.» ويزيد ذلك من احتمال تأثر الأطفال الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة داعش بأيديولوجة هذا التنظيم.
الجدير بالذكر أن العديد من هؤلاء الأطفال لديهم روابط ببلدان أخرى.
وبعيداً عن الشرق الأوسط نجد أنه في بلد مثل هولندا، حيث تعيش فان دير هايدي، يستعد المسؤولون الأمنيون لإحتمال وصول 80 طفلاً هولنديّاً ولدوا أو نشأوا في أراضي خاضعة لداعش، وتمتد هذه المشكلة لتشمل بلدان أخرى في جميع أنحاء العالم: فما الذي يجب فعله لإعادة توجيه هذه الأعداد الكبيرة من الشباب الذين يُحتمل أن يكونوا متطرفين مع عدم وجود سوابق مماثلة؟
وبينما تواجه سوريا والعراق والدول المجاورة عبء هذه الأزمة، يُحذّر الخبراء من أن تدفق اللاجئين والترحيل المتوقع لمقاتلي داعش الأجانب وأسرهم سينشر عبء تقييم ومعالجة وإعادة دمج آلاف الأطفال المتضررين من داعش إلى مختلف الدول حول العالم.
كل هؤلاء الأطفال بحاجة إلى مساعدة، فضلاً عن كون بعضهم قد يُشكّل خطراً.
[caption id="attachment_6270" align="aligncenter" width="800"]
غسل أدمغة الأطفال وتدريبهم على القتال كان من أولويات التنظيم الإرهابي.[/caption]
أبجديات القسوة
عندما فرض داعش سيطرته على الموصل في العراق، وأعلن إنشاء الخلافة في يونيو 2014، كان عمر الجبوري يعمل هناك في معهد تابع للحكومة، ويهتم برعاية النساء والأطفال.
واصل الموظف الحكومي تقديم تقارير العمل يومياً بينما كان المسلحون يواصلون سيطرتهم على الموصل البالغ عدد سكانها قرابة مليوني نسمة.
وفي نهاية المطاف، أغلقوا المعهد الذي يعمل به الجبوري وأمروه بالإنتقال للعمل في مدرسة إبتدائية محلية تعاني من نقص في عدد المدرسين، وبالرغم من أن الجبوري لم يمارس مهنة التدريس أبداً من قبل، إلا أنه لم يجرؤ على الاعتراض ووافق على حضور الدورات التدريبية الإجبارية التي أعدتها داعش للمدرسين.
وهناك، علم أنه يجب الفصل بين المُعلّمين والأطفال من جميع الأعمار على أساس الجنس، وكان عليهم الالتزام الصارم بالزّيّ الإسلامي، كما تمّ إلغاء العديد من المواد التي يتم تدريسها، بما فيها الأدب والتاريخ، بينما بقيت مواد الرياضيات، واللّغة العربية، ودراسة الإسلام، ولكن فقط وفقاً لمنهج داعش.
وفي النهاية، وزع مكتب التعليم التابع لداعش المواد والكتب المدرسية التي أعدها التنظيم.
وكان الجبوري، الذي كان تحدث إلينا عبر الهاتف من شرقي الموصل بعد وقت قصير من تحريرها أوائل العام الحالي، يعرف أنه سيرفض على الفور اتباع منهج التنظيم، إذ قال «كان منهج داعش يستند إلى عقيدة مُتطرّفة تدعو الأطفال إلى الكراهية وقتل الأشخاص من ذوي الديانات الأخرى. وحتى في مادة الرياضيات، بدلاً من أن يقولوا: «تفاحة + تفاحتان = 3 تفاحات، صاروا يقولون: «رصاصة + رصاصتان = 3 رصاصات.» وأضاف: «لقد كان الآباء قلقون جداً».
وكان التعليم جزءاً من سياسة موسّعة لتشكيل عقول الأطفال، طبقها تنظيم داعش في المدن التي سيطر عليها.
يقول محمد الحامد، وهو ناشطٌ مهتم بإستراتيجية التعليم التي فرضتها داعش في سوريا، أن التنظيم إستخدم المدارس لتسهيل دخول الأطفال إلى التنظيم.
ويضيف: «إنهم في داعش لا يجبرون الأطفال على الإنضمام إليهم، لكنهم يُعلّمونهم مبادئهم وكل شيء عن الجهاد والدولة الإسلامية، بحيث سيطلبون الإنضمام للتنظيم عندما يكبرون».
وبينما هدد تنظيم داعش الآباء الذين لا يرسلون أطفالهم إلى المدرسة بالغرامة أو عقوبة الجلد، إلا أنها اتخذت نهجاً ألطف مع تلاميذها، وقد حضر محمد، الصبي الذي يعيش الآن في مدينة الريحانلي، الفصول المدرسية في إحدى المدارس التي تديرها داعش ولمدة سنتين في مسجد في الرقة.
ويقول إن مُعلّميه لم يستخدموا العقاب البدني أبداً، وكانوا يعاملون الطلاب بلطف. ولذلك «فقد أحببتهم، كما أنني أحب الإسلام، فلقد أخبروني بأنني إذا قرأت القرآن الكريم فسأحصل على جوائز.»
ولقد أعطوا محمد ألعاباً على شكل أسلحة وأنفقوا المال بسخاء، وكان شقيقه إبراهيم، البالغ من العمر 10 أعوام، مولعاً بشكلٍ خاصٍّ بالمسواك، وهو نوع من أدوات تنظيف الأسنان إستخدمه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد أعطاه له مُعلّمه كهدية.
كما تحدث المُعلّمون في مدرسة محمد وإبراهيم أيضاً إلى التلاميذ عما هو منتظرٌ منهم عندما يصبحون كباراً، وكم هو عظيمٌ أن يدافعوا عن الدولة الإسلامية، يقول محمد: «لقد قالوا: حينما تصير رجلاً يجب أن تطلق لحية طويلة، وأن تمنع زوجتك من الخروج، وأن تتأكد من أنها مغطاة تماما.ً»
وأضاف «قالوا لنا أيضاً أنهم يقاتلون الكفار، مثل النظام السوري وإسرائيل وإيران وأميركا، ويسعون لأن يكونوا أكثر قوة. لقد أخذوا من هم أكبر سنّاً مني وعلّموهم كيفية إستخدام الأسلحة في معسكر التدريب، لكنني قلت لهم إنني أردت فقط أن أتدرب على الأسلحة وليس الذهاب للقتال.»
ولم يتعرض جميع الطلاب الذين ذهبوا إلى المدارس في المدن التي سيطرت عليها داعش إلى الأفكار المُتطرفة، ففي خطوة مثّلت خطراً كبيراً على حياته، رفض الجبوري والعديد من زملائه في المدرسة الابتدائية تدريس منهج داعش، وبدلاً من ذلك، أمضى سنتين في تعليم القراءة والكتابة خلسةً.
يقول الجبوري إن العديد من الآباء يخشون من عقاب داعش في حال رفضهم إرسال أبنائهم إلى المدرسة.

كما لاحظ تُغيّرات مثيرة للقلق على الطلاب الملتحقين بالمدارس المجاورة التي يعمل بها زملاء أكثر إمتثالاً، إذ يقول «لقد بدأوا يرتدون أزياء داعش السوداء على الطراز الأفغاني، وأرادوا معرفة المزيد عن الجهاد، كما بدأوا في ممارسة التكفير،» مشيراً إلى أنها ممارسة إسلامية تحاكي فكرة الحرمان الكنسي.
«في حال إقدام أي مسلم على فعل شيءٍ لا يتوافق مع مذهب داعش، يصبح وفقاً لمنظورهم كافراً، أي أنه لم يعد مُسلماً، حتى الأطفال الصغار بدأوا يتحدثون مثل المُتطرّفين الكبار، لقد تحدثوا عن روما، وعن غزوها والسيطرة عليها، هل يمكنك أن تتخيل ذلك؟»
الأبطال الخارقين لأفلام الرعب
كانت الدعاية التي تطلقها داعش أكثر ضرراً على الأطفال من تلك المناهج الدراسية.
فلقد عاش الحامد لمدة عام تحت حكم المُسلحين بعد احتلالهم مدينة دير الزور، وخلال تلك الفترة، بدأ سراً في توثيق أنشطتهم، مما أودى به في النهاية إلى سجون داعش.
وعندما أُطلق سراحه في العام 2015، هرب عبر الحدود إلى مدينة غازي عنتاب التركية، حيث يواصل عمله كناشط مناهض لداعش.
وفي حديث له من منزله هناك أوائل هذا العام، قال إن شاشات عرض الأفلام التي تقيمها داعش في الهواء الطلق كانت، في رأيه، أقوى أدوات التنظيم للتجنيد.
وأضاف: «لقد أظهرت تلك الأفلام ما تفعله داعش بالكفار، وكيف يقتلونهم، ولقد أعطوا للأطفال بطاقات ذاكرة إلكترونية مُحمّلة بالأناشيد الدينية والنصوص الإسلامية لتحميلها على الهواتف الذكية، وقد أحب الأطفال ذلك.»
وبعد العرض، كان مسؤولو التجنيد بداعش يسألون الأطفال عما إذا كانوا مستعدين للإشتراك في القتال.
وشرح الحامد: «كنت في ساحة المشاهدة، وعقب كل [عرض]، كان أربعة أو خمسة أطفال يرفعون أيديهم، فيأخذونهم.»
كما تحدث عن نظرة الأطفال لمقاتلي داعش على أنهم أبطال خارقين.
وبحسب تصريحاته، فالأطفال«يتطلعون إلى نمط حياة داعش، فيرون لديهم السيارات والمال والسلطة على الأرض، ويريدون أن يكونوا مثلهم.»
ويُقدر الحامد عدد الأطفال الذين جندتهم داعش في دير الزور ما بين 700 و1000 طفل، وذلك منذ وصول مقاتليها إلى المدينة في العام 2014.
وبمجرد وصولهم إلى معسكرات تدريب داعش، يبدأ الأطفال في إتباع جدول زمنيّ صارم لإعدادهم للقتال.
يقول أحمد أمين كورو، وهو صبي عراقي يبلغ من العمر 16 عاماً، إختطفته داعش وأجبرته على الإلتحاق بأحد معسكرات التدريب مع أكثر من 200 طفلٍ أسيرٍ آخر، وذلك بعدما غزت داعش قريته في صيف العام 2014، إن التدريب بدأ بالدراسة الدينية اليومية لمدة شهر، حيث أُجبر، وهو من أتباع الديانة الأيزيدية، على قراءة القرآن الكريم، ودراسة الشريعة الإسلامية، والاستماع إلى الأناشيد وتعلم «كيف يكون مُسلماً؟»
وأقام في منزل متهالك حيث كان هو وعشرات الأولاد الآخرين، وبعضهم في سن السادسة، ينامون على أرضية خرسانية باردة بدون أغطية، وكان يومهم يبدأ بصلاة الفجر، يليها التدريب على الأسلحة في الساعة 6 صباحاً.
ويقول «كل يوم، كان يأتينا رجل يُعلّمنا كيفية استخدام المسدسات، وبنادق الكلاشينكوف، والأحزمة الإنتحارية، وفي الليل، كنا نشاهد مقاطع فيديو عن كيفية القتل، عبر شاشة عرض كبيرة تعرض لنا هذه المقاطع في قاعة كبيرة.»
كما لجأ مدربو كورو إلى استخدام مزيج من المكافآت (كالزيارات العائلية) والعقوبات القاسية (كالتجويع والحبس الإنفرادي والضرب) لدفعهم إلى الامتثال.
وذات يوم عندما إكتشف أحد الحراس التابعين لداعش أن كورو بحوذته هاتفٌ محمول، وهذا إنتهاك للقواعد، قام ثلاثة رجال بربط يديه خلف ظهره، وتعصيب عينيه، وجعلوه يركع على الأرض، وأخذوا يتناوبون على ضربه على ظهره بما وصل مجموعه 250 ضربة بخرطوم بلاستيكي، ومنذ ذلك الحين أصبحت ضلوعه بارزة من صدره لدرجة أن التشوّه بدا مرئيّاً من خلال ملابسه.
وقد روى لي كورو أن قسوة المدربين كانت تُخيفه، وذلك أثناء تشغيل أحد مقاطع الفيديو الدعائية لداعش على هاتفه.
ولم يكن هذا الفيديو في مثل بشاعة مقاطع الفيديو الأخرى التي تُظهر الأطفال الصغار يقومون بإعدام السجناء عن طريق إطلاق النار، أو قطع الرأس، ولكن الفيديو هذه المرة يدعو للقلق، حيث يبدأ بعرض لقطة من أحد الفصول الدراسية حيث يجلس كورو على مكتب خشبي بين أكثر من إثني عشر طالب شابّ، يرتدون جميعاً أقمصةً سوداء وشارات داعش، وكانوا يُحدقون في الكاميرا في صمت بينما يمتدحهم الراوي واصفاً إياهم بالجيل المقبل من مقاتلي داعش.
ثم ينتقل إلى مشهد كورو وهو يتسلق الحبل كمثال للتدريبات التي يتلقاها الطلاب، وأخيراً، يظهر الراوي، وهو فتى عابس الوجه، يصرخ موجهاً التهديدات لأعداء الدولة الإسلامية.
ويقول كورو إن المراهق كان إيزيديّاً مثله، لكنه كان أحد المتدربين القلائل في مجموعته الذين اعتمدوا بحماس إيديولوجية داعش العنيفة. ويضيف كورو: «لقد رأيته يُساعد في شراء وبيع الفتيات الأيزيديات لأغراض المُتعة الجنسية.»
وبينما تنهار خلافة داعش، فإن كورو لا يعرف أين هذا الصبي الآن، فقد يكون قُتل أو أُسر في المعركة أو أنه ببساطة فر بعيداً عن جبهة القتال، وعاد مرةً أخرى إلى مجتمعه الطبيعي، يمشي بين الناس العاديين الذين لا يعرفون أنه جهادي.
[caption id="attachment_6272" align="aligncenter" width="768"]
عندما تُشَكّل نفسية وطبيعة الطفل عبر تعويده على العنف ةالقتل، فإن إعادة تأهيل هذا الطفل لكي يعود ويندمج في محيط مُسالم هو أمر صعب ويحتاج للوقت.[/caption]
«سيقتلوننا جميعاً»
يقع سجن أربيل، عاصمة المنطقة الكردية شبه المستقلة في العراق، والذي إتخذ مقرّاً لإحتجاز الأحداث المشتبه بانتمائهم لداعش، على طريق مزدحم على بعد بضعة مبانٍ من أحد مراكز التسوق الشعبية، وهو محجوب عن الأنظار بجدران عالية مُزيّنة برسوم جدارية وتعلوها أسلاك شائكة، حيث تصوّر إحدى الجداريات جسماً بشريّاً يظهر بين لوحات عدّة، خارجاً من صندوقٍ مُظلم.
وقبل انطلاق مجموعة من القوات في أكتوبر لإخراج داعش من الموصل، كانت إصلاحية النساء والأطفال في أربيل تضم ما يزيد قليلاً عن 200 نزيل، واليوم فإنها تؤوي ما يقرب من 500.
وفي ذلك الوقت، كان معظم النساء والأطفال محتجزين هناك بسبب جرائم عادية: المخدرات، أو البغاء، أو السرقة، وأحياناً القتل، ولكن عندما بدأ هجوم الموصل، امتلأت الإصلاحية فجأة بالمراهقين، وبعض النساء المشتبه بهن أو المدانين بجرائم مرتبطة بتنظيم داعش.
وقد واجهت القوات العراقية والقوات الكردية المحلية التي إندفعت من منزل إلى آخر في المناطق التي يُسيطر عليها تنظيم داعش، مُهمّة معقدة في التمييز بين السُكّان المحليين اليائسين الذين قد يكونوا منضمين إلى تنظيم داعش أو متعاطفٌ مع التنظيم.
وقد قامت كل المجموعات التي نفذت الهجوم بإحتجاز السجناء، بمن فيهم الأحداث، وإرسالهم إلى أماكن مُختلفة، حيث من المفترض أن يتمّ التعامل مع قضاياهم وفقاً للنظام العدلي، إلا أن بعض التقارير قد أفادت بأن هذه المجموعات قامت في بعض الأحيان بمعالجة الأمور بطريقتها، فعلى سبيل المثال، نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً زعمت فيه أن 17 طفلاً يُشتبه في انتمائهم إلى داعش قد تعرّضوا للتعذيب من قِبل قوات الأمن الكردية.
ويقول مسؤولٌ كرديّ إن تلك الادعاءات «باطلة بشكلٍ واضح» وأن مجموعة حقوق الإنسان لم تُقدّم أبداً أي دليلٍ على مزاعمها تلك، ويضيف أن الأطفال المُحتجزين يمكنهم «التواصل بشكلٍ غير محدود وغير مُقيد مع الصليب الأحمر».
وفي نهاية المطاف، تمّ نقل الأطفال الذين تم أسرهم، فضلاً عن عشرات آخرين من المشتبه في انتمائهم لداعش، إلى الإصلاحية المزدحمة التي تعاني نقص التمويل وتديرها على مدى العامين الماضيين سيدة تُدعى ديمان محمد بايز.
وعندما بدأت الموجة الأولى من السجناء الصغار في الوصول في أكتوبر، تقول بايز إن موظفيها كانوا يخشونهم، فلقد كانوا قذرين، شعورهم طويلة، وكانوا يرتدون ملابس على غرار ملابس داعش، وبينما أُتهم البعض منهم بجرائم بسيطة مثل التواصل مع داعش عبر الإنترنت، والتدريب معها، واضطرارهم للعمل مع داعش، غير أن آخرين إتهموا بجرائم أكثر خطورة، مثل جرح أو قتل جنود أثناء معركة الموصل. وكان بعضهم قد أدين بالفعل وكانوا موجودين لتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم والتي لا يُمكن أن تتجاوز في إقليم كردستان العراق سنة واحدة لمن تقل أعمارهم عن 18 سنة، بغض النظر عن الجريمة.
كان الموظفون حذرين في البداية من هؤلاء المعتقلين الذين تمّ فصلهم عن نزلاء السجن العامّ بسبب المخاوف بأن يؤثروا في الآخرين، ولكن مع مرور الوقت، وجدوا أنهم يتصرفون بأدب.
تقول بايز، إن حالتهم مُثيرة للشفقة، وتضيف: «بالنسبة لمعظم الأطفال، لقد دُمرت حياتهم على أيدي تنظيم داعش، وفقد بعضهم آبائهم وأسرهم، وفقد آخرون منازلهم… وأعتقد أنهم عانوا كثيراً تحت حكم داعش وأنهم يجدون الوضع أفضل هنا، وهم لا يُثيرون الكثير من المشاكل.»
ويسعى موظفو بايز لإشعار هؤلاء المراهقين بالفرق بين حياتهم تحت سيطرة داعش وخارجها، حيث يتعاملون معهم وفقاً لبرنامج يهدف لإعدادهم للعودة إلى المجتمع.
ويبدأ ذلك، على غرار برنامج داعش للتعامل مع القادمين الجدد، بالدراسة وتغيير نمط الملبس.
تقول بايز «أول شيء نقوم به في المعهد هو تغيير ملابسهم، وحلق لحاهم وقص شعورهم، إذ نحرص على تغيير مظهرهم الخارجي»، وتضيف «ثم يصحبهم الأخصائي الاجتماعي إلى الفناء، وربما يلعب معهم كرة القدم، ويتحدث إليهم، ويجعلهم يشعرون بالارتياح، بعد ذلك، نبدأ معهم في الدورات.»
وبسبب ضعف التمويل والإكتظاظ الشديد، فالمرفق الذي تم بناؤه لإيواء 120 شخصاً، أصبح يؤوي 475 شخصاً في أواخر شهر مايو، فإن عروض الدورات لا تُقدم وفقاً لما كانت ترغب به بايز، ولكن موظفيها يقومون بكل ما في وسعهم.
فبالإضافة إلى الدورات الرياضية الاختيارية والموسيقى والكمبيوتر والدورات اللُّغوية، يقوم الأخصائيين الإجتماعيين بزيارة النزلاء مرة أو مرتين أسبوعياً، كما تُتاح لهم فرصة التواصل مع علماء النفس والأطباء ورجال الدين الذين يتحدث إليهم حول ما تدعوه بايز «الإسلام الحقيقي.»
وينظم المركز الإعلامي التابع للمعهد أيضاً عرض أفلام وثائقيّة من آنٍ لآخر تهدف إلى تغيير أفكار الأطفال حول داعش.
تقول بايز: «تظهر الأفلام كيف أن أيديولوجية داعش سيئة وكيف أن التنظيم يُدمر المدن ويقتل الناس،» مشيرةً إلى أن الأخصائيين الإجتماعيين يقومون بإجراء المناقشات خلال أوقات العرض، «ويوضحون للأطفال كذلك كيف دمرت داعش حياة الناس».
وقد لاحظت بايز بعض التغييرات المشجعة.
تقول: «عندما وصلوا، كانوا لا يرغبون في رؤية أية نساء، ويرون أن حكومتنا كافرة ويعتقدون أن الموظفين كفار كذلك، بل إنهم كانوا يقولون لنا إنه إذا كان الأمر بأيديهم، فإنهم سيقتلوننا جميعا.ً»
لكنها تلاحظ أن موظفيها قاموا مؤخراً بإستطلاع آراء الأطفال حول الأنشطة التي قد تُثير اهتمامهم، فوجدوا أنهم إختاروا بشكلٍ كبيرٍ الرسم والموسيقى، وكلاهما كان محظوراً تحت حكم داعش.
كما طلب بعض الصبية أيضاً قص شعره بطريقة عصريّة، الأمر الذي كانت تحظره داعش، حيث يكون السجن مصير من يطلب حلاقة شعره بشكلٍ عصري.
وتقول بايز: «إن هذه علامة على أن عقولهم بدأت تتغير».
ومع ذلك، فلا يزال بعضهم يقاوم. إذ عاد أحد الصبية للإنضمام إلى المُسلحين فور إنتهاء مدة عقوبته، وأعيد إعتقاله ووجهت إليه إتهامات وحُكم عليه مرة أخرى. تقول بايز: «إن تغيير عقولهم وأفكارهم ليس بالأمر السهل، فهو يستغرق الكثير من الوقت».
هل هناك حياة بعد داعش؟
يعتقد جان إلهان كيزيلهان، وهو خبير كُرديّ ألمانيّ مُتخصّص في علاج الصدمات النفسية، وعميد لأحد المعاهد النفسية الجديدة في شمال العراق، أنه حتى الأطفال الأكثر تأثراً يُمكن إعادة تأهيلهم، فلقد عاين أسوأ الحالات.
وفي العام 2014، قام برنامج ألماني لرعاية اللاجئين بتكليفه بتقييم نحو 1400 شخصٍ من ضحايا داعش لبحث منحهم حق اللجوء في حالات الطوارئ، وكان العديد منهم أطفالاً تم أسرهم وأجبروا على حضور مدارس داعش ومعسكرات التدريب. كان بعضهم صغيراً جداً عندما تم القبض عليهم ولم يكن لديهم أية ذكريات عن حياتهم قبل داعش، وعقب إنقاذهم وجمع شملهم بعائلاتهم، رفض بعض الأطفال ذلك وهاجموا أقاربهم.
ومع أن جميعهم من غير المُسلمين، إلا أن بعضهم ينتقد الآخرين لكونهم «كفار،» إذ أن فتى يبلغ من العمر 9 سنوات قضى منهم عامين ونصف العام مع داعش، يُخيف عائلته من خلال مواصلة أداء تدريباته القتالية في المنزل.
وخلال مشاركته تناول وجبة الإفطار في أحد الأيام، أخذ البروفيسور يصف لنا أسلوب العلاج المثالي لطفل تمّ غسل دماغه من قِبل المُتطرّفين: سيستغرق الأمر من عامين إلى ثلاث أعوام، ويبدأ بفترة من «الاستقرار» حيث يتكيّف الطفل ببساطة مع الحياة الطبيعية، وهذا يعني حضور المدرسة، وممارسة الرياضة، والاجتماع مع الأخصائي الاجتماعي كل يوم.
وأضاف «يجب أن نكون على اتصال وثيق بهم، فيجب أن يشعروا بأن هناك أشخاص يثقون بهم ويريدون مساعدتهم. إنهم بحاجة إلى إستعادة ثقتهم بالإنسانية والبشر،» وبمجرد أن تنشأ علاقة الثقة الكافية بين الطفل وكلّاً من الأخصائي الإجتماعي والطبيب النفسي، يمكن عندئذ البدء في جلسات العلاج النفسي.
لم يتم غسل عقول جميع الأطفال الذين حضروا مدارس داعش أو حتى معسكرات التدريب.
إذ يقول كيزيلهان إن عقول الأطفال الصغار ليست ناضجة بما يكفي لفهم الأيديولوجية التي تحاول داعش تعليمهم إياها.
ويقول إن المراهقين الأكبر سنّاً الذين بدأوا في تطوير الهُويّة السياسية هم أكثر عرضة للإستجابة لعمليات غسل العقول.
ويضيف»: «وبالمثل، فجميع الأشخاص الذين تعرّضوا لأحداث صادمة في أثناء وجودهم في المناطق الخاضعة لسيطرة داعش ستبدو عليهم آثار الصدمات النفسية أو سيتضررون نفسيّاً بطرقٍ أخرى.
وينقل عن دراسة إلمانية أن نسبة 50 في المئة من الأشخاص الذين يتعرضون لأحداثٍ مؤلمة (مثلًا حادث سيارة أو مشاهدة قطع الرأس) «يخرجون من الأزمة» من دون الحاجة إلى العناية الطبية، أما الـ 50 في المئة الآخرين، فيواجهون مشاكل عديدة بدءاً من حالات الإكتئاب وإضطراب ما بعد الصدمة إلى الميل لممارسة سلوكيات أكثر خطورة ضد المجتمع.
ومع ذلك، فإن عدد الأطفال والبالغين المتضررين من داعش في شمال العراق وحده، والذين يحتاجون لرعاية نفسية عاجلة، يتجاوز بكثير عدد المرافق والخبراء المتاحين لمعالجته.
ويقدر كيزيلهان أن هناك أقل من 30 خبير نفسي مؤهلين ومُتخصّصين في علاج الصدمات في المنطقة بأكملها، والتي تؤوي حالياً ما يقرب من 2 مليون نازح بسبب الحرب.
يُدير أكو فيق محمد أحد العيادات القليلة المُتخصّصة في التأهيل النفسي للمرضى، حيث يعالج أكثر الحالات إلحاحاً في المنطقة.
ومنذ إفتتاحها في العام 2015، عالجت العيادة 70 طفلاً كانوا يعيشون في أراضي خاضعة لسيطرة تنظيم داعش. وعلى غرار مرضى كيزيلهان، كان معظمهم من الأقليات الدينية التي إختطفت وأُجبرت على الدخول في معسكرات التدريب.
[caption id="attachment_6273" align="aligncenter" width="800"]
العلاج المثالي لطفل تمّ غسل دماغه من قِبل المُتطرّفين: سيستغرق الأمر من عامين إلى ثلاث أعوام، ويبدأ بفترة من «الاستقرار» حيث يتكيّف الطفل ببساطة مع الحياة الطبيعية، وهذا يعني حضور المدرسة، وممارسة الرياضة، والاجتماع مع الأخصائي الاجتماعي كل يوم.[/caption]
وظهر أن العديد منهم تعرّضوا لعمليات غسل عقول وصاروا عنيفين مع أفراد أسرهم أو الأخصائيين الاجتماعيين أو السلطات الأخرى بما يكفي لإحالتهم إلى مرفق للعلاج طويل الأجل.
فقد حاول أحد الصبية مرات عدّة إشعال النار في شقيقته لأنها «كافرة،» وهناك آخر، شهد إعدام داعش للسجناء، توجه إلى العيادة بعد أن مارس العنف في المنزل، بل إنه حتى حشر شقيقه الطفل في الثلاجة. ويقول محمد: «هؤلاء الأطفال معادون للمجتمع، إنهم يرفضون مجتمعهم، وهم عدوانيون إذ قاموا بضرب أصدقائهم وأفراد أسرهم.» ويضيف: «حتى المرضى ضربوهم. عندما يكبر هؤلاء، فإن قتل شخص سيكون أمراً سهلاً بالنسبة إليهم إذا لم نحل هذه المشاكل الآن».
وفي محاولة لزيادة عدد المهنيين المحليين في مجال الصحة العقلية المؤهلين للتعامل مع الأزمة، إفتتح كيزيلهان، بتمويل من إلمانيا، معهد علم النفس السريري في دهوك في مارس 2017، وهو يُدرّب بالفعل أول دفعة من علماء النفس؛ حيث من المقرر أن تتخرج في العام 2020.
ويأمل أن يتم توسيع البرنامج كل عام بحيث يكون هناك الآلاف من معالجي الصدمات النفسية في شمال العراق بحلول عام 2030.
ولكن في الوقت الحالي، فمن المحتمل أن يحصل الأطفال الذين تعرضوا لعمليات غسيل عقول أو لصدمات النفسية على العلاج لمدة فترة قصيرة من خلال المستشارين أو الأخصائيين الإجتماعيين الذين يعانون أصلاً من أعباء زائدة في العمل، هذا إذا لم يتلقوا أي علاج على الإطلاق.
قطع الرؤوس مقابل ارتداء البيكيني
لا يزال أبناء أخو رعد الذين عاشوا في مدينة الرقة، محمد وإبراهيم وسليم، والذين أمضوا عامين في مناطق خاضعة لسيطرة تنظيم داعش، يقيمون في تركيا، يسكنون بين السُكّان المحليين وغيرهم من اللاجئين السوريين.
وعلى الرغم من أن مناشداتهم له من حين لآخر بإعادتهم إلى ديارهم، إلا أنه يرفض السماح لهم بالعودة إلى سوريا حتى يكملوا تعليمهم، لأنه قلقٌ من أن يُسرعوا في حمل السلاح مع داعش من دون فهم عواقب أفعالهم.
ويقول «إنهم يعتقدون إنها لعبة، لكنهم لا يزالون أطفالاً، ولا يفهمون ما يعنيه الموت.»
كما يشعر بالقلق من العودة إلى سوريا بعد هزيمة داعش، ويخشى من أن يقوم من يسيطرون على الرقة الآن بمعاقبة المتعاطفين مع الجهاديين، وعدم مراعاة أعمارهم الصغيرة أو الظروف التي أحاطت بهم.
ويضيف: «على الرغم من أنهم ضحايا، إلا أنهم سيتعرضون للتعذيب.»
وأخبر رعد أبناء أخيه بأنهم سيعودون إلى ديارهم بمجرد تخرّجهم من المدرسة الثانوية. ولكنهم يقبلون الاستقرار في ريحانلي التركية على مضض.
فقبل إندلاع الحرب في سوريا في العام 2011، كانت ريحانلي بلدة زراعية ذات كثافة سُكّانية قليلة على بعد ميلين فقط من الحدود. أما الآن فشوارعها الرئيسية صاخبة من لعب الأطفال وحركة الباعة المتجولين الذين ينادون على السلع باللُّغة العربية وصارت البلدة الآن مليئة بالزبائن السوريين الذين لجأوا إلى هناك على مدى السنوات الست الماضية.
والشيء نفسه حدث في العديد من المدن والأحياء في جميع أنحاء تركيا والأردن ولبنان، التي تستضيف مجتمعة أكثر من 5 ملايين لاجئ من الحرب الأهلية السورية.
ويوجد عددٌ غير معروفٍ من الأطفال مشتتين في الزحام ممن تعرضوا لتجربة التعليم في مدارس داعش ومعسكرات تدريبها ووسائل إعلامها.
وقد بُذلت جهود صغيرة ومتفرقة لرصد الصغار الذين يحتاجون إلى المعونة، ولكن من السهل على الوالدين إخفاء هؤلاء الأطفال.
فبعض العائلات التي ترغب في مساعدة أطفالها المُتطرّفين مُترددة في ذلك، خشية أن يتم التحقيق معهم ومعاقبتهم من قِبل أجهزة الأمن المحلية.
وهناك آخرين، مثل رائد، يعتقدون أنهم يستطيعون حلّ المشكلة بمفردهم.
ويقر رب الأسرة بأن هناك بعض الأخطاء في جهوده لإعادة تأهيل أبناء أخيه.
فذات مرة، عندما وصل سالم لأول مرة من الرقة، أخذ رائد ابن أخيه المراهق إلى الشاطئ لتغيير آرائه المتشددة حول المرأة، ولكن ما ان رأى سليم النساء يرتدين البيكيني حتى استشاط غضباً وقال: إنه «يجب أن تقطع رؤوسهن وصبغ البحر بدمائهن.»
وعندما اشترى رائد لإبراهيم جهاز الآيباد، قام الصبي بتحميل ألعاب الحرب على الفور.
لكنه يعتقد أنه يتقدم ببطء وهدوء نحو الانتصار في هذه الحرب مع القلوب والعقول الشابة.
ويصر على «أنهم يتحسنون جميعاً»، وأضاف «أن نمط الحياة مختلفٌ هنا، وشيئاً فشيئاً سوف يتغيرون.»
غير أنه أقل تفاؤلًا بشأن الأطفال المتعاطفين مع داعش، الذين يراهم من آن لآخر حول مدينة ريحانلي.
فلقد زار أحدهم مؤخراً متجراً لبيع الملابس المستعملة فإنفجر الصبي من الغضب عندما اقتربت شقيقته من رائد للاستعلام عن المقاس، فصرخ فيها قائلاً: «لماذا تتحدثين مع رجل؟، إذا كان لديك سؤال، فاسأليني وسوف أسأله، وأقسم بالله حينما أعود إلى المنزل سوف أخبر أخاكِ الأكبر ليقطع رأسك.»
وبينما يروي رعد القصة، هز رأسه قائلًا: «بعض هؤلاء الأطفال يكبرون على أفكار الجهاديين، وسيمثلون مشكلة لمستقبل العالم بأسره.»
إيميلي فيلدمان
المصدر: مجلة نيوزويك الشرق الأوسط
https://ar.newsweekme.com/
وبالرغم من تنوع الأفلام، إلا أن الحبكة الفنية كانت دائماً هي ذاتها: أفرادٌ من داعش يرتدون الملابس السوداء «يحررون» المدن من الكفار، ويقطعون رؤوسهم في إحتفال دمويّ، ولم يكن بالفيلم أية مشاهد تمثيلية، فقد كان يصوّر مشاهد حقيقيةً.
ويتذكّر الصبي قائلاً: «فكرت وقتها أنه سيكون من الممتع أن نذهب إلى الجهاد».
واليوم، فإن الصبي الذي طلب تعريف نفسه فقط باسم محمد، يعيش مع عمه في مدينة ريحانلي التركية.
وعندما التقينا ذات مرة في إحدى الليالي الباردة بمنزل عمه الذي بدا منظماً وإن كان مزدحماً، أصابتني الدهشة حينما عرفت أن العنف الذي طالما شاهده في أفلام الفيديو لم يخيفه مطلقاً.
كان يقول «إنهم كفار ولا بأس في قتلهم»، ويستعيد مشاعر «الإثارة» التي تنتابه حينما يرى هذه المشاهد على الشاشة، أو عندما يرى مقاتلي داعش وهم يقومون بدوريات في شوارع الرقة، ويفرضون قواعد اللباس الصارمة، والتوجه إلى المسجد وفقاً لتفسيرهم المتشدد للشريعة الإسلامية.
وقد أثار تعاطف محمد وشقيقيه مع داعش قلق عمه، الذي طلب تعريف نفسه فقط باسم رائد.
[caption id="attachment_6269" align="aligncenter" width="600"]

ففي العام الماضي أقنع والد الصبيين بالإنتقال مع عائلته من الرقة، المعقل الرئيسي لداعش في سوريا، والتوجه إلى تركيا.
واليوم، يتشارك رائد وعائلته المنزل مع أسرة أخيه المكوّنة من أولاد ثلاثة هم: محمد، الذي يبلغ من العمر الآن 12 عاماً، وإبراهيم البالغ من العمر 10 أعوام، وسالم البالغ من العمر 16 عاماً ووالدهم.
ويدرس الأولاد في مدرسة للاجئين السوريين ترعاها اليونيسف، فيما يأمل رائد أن يُغيّر ذلك من اهتماماتهم بعيداً عن الجهاد العنيف.
كما وقد إشترى رائد لهم أجهزة آي باد، وأشركهم في العمل معه في متجر الملابس المستعملة، وهو يحاول بإستمرار أن يُغيّر برفق من معتقداتهم حول واجبات المسلم الصالح.
ولكن حتى بعد مرور تسعة أشهر بعيداً عن تلك «الجماعة الجهادية،» فإن الأولاد لا يزالوا منبهرين بداعش.
يقول رائد: «إنهم يصرخون دائماً في وجهي، لماذا أحضرتنا إلى هنا؟»، ويضيف: «سوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، فالعقل ليس كجهاز الكمبيوتر؛ لأنه إذا حُمل بالمعلومات، فإنه لا يمكن محوها بسهولة».
وكانت داعش قد خصّصت موارد هائلة لتشكيل عقول الأطفال في الأراضي الخاضعة لسيطرتها، والتي وصلت لأقصى إتساع لها في الفترة الممتدة من منتصف العام 2014 حتى العام 2015، حيث سيطرت على ما يقرب من ثلث مساحة سوريا والعراق وهو ما كان موطناً لملايين المدنيين.
وفرضت داعش أفكارها بسرعة وبشكلٍ ممنهجٍ في المدارس.
كما وأغرت الأطفال بالهدايا وأشرطة الفيديو الدعائية للذهاب إلى معسكرات التدريب.
وقام التنظيم بأسر أطفال أعدائه، من الأيزيديين والمسيحيين، وغسل دماغ الكثيرين منهم في معسكرات التدريب قبل إرسالهم إلى المعركة كجنود أو إنتحاريين.
والآن، ومع تضييق القوات التي تدعمها الولايات المتحدة في سوريا والعراق الخناق على معاقل داعش الأخيرة، يزداد إهتمام العالم بدراسة الأضرار التي لحقت بهذا الجيل من الشباب.
وكان أول من يعانون من هذه الأضرار هم أولئك الذين يعيشون في ضواحي دولة داعش المنهارة.
وقد أجريت مقابلات مع الأطفال الذين يعيشون الآن في جنوب تركيا وشمال العراق ممن حضروا معسكرات تدريب داعش ومدارسها، حيث يتزاحم المعالجون ويتدافع مسؤولو الأمن لتقييمهم.
وقد فتحت تلك المقابلات نافذة هامّة على تلك الأزمة.
فبالإضافة إلى تأخرهم الشديد في التعليم، يعاني الكثير من هؤلاء الأطفال من الصدمات النفسية وغيرها من الأمور المتعلقة بالصحة العقلية. وقد استشعرت السلطات الخطر من بعضهم، كما شعرت عائلاتهم بالشيء ذاته نظراً لآرائهم المُتطرّفة وسلوكهم العنيف.
تقول ليزبيث فان دير هايدي، الخبيرة في إعادة تأهيل ودمج الإرهابيين في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي، إن داعش تُشكّل تحدياً أكثر خطورةً من الجماعات المُتطرّفة الأخرى التي حاولت توجيه المجتمعات نحو التطرف.
وبخلاف حركة فارك في كولومبيا، و إيتا في إسبانيا، وغيرها من الجماعات التي تعمل على فرض أفكارها على المدنيين، فإن داعش تصل إلى جميع أنحاء العالم، كما أنها حكمت عدداً كبيراً من السكان المدنيين أكثر من أي جماعة أخرى لها نفس الطموح مثل القاعدة.
وتضيف: «إن داعش تقوم فعليّاً بما يشبه إدارة الدولة، من حيث توفير التعليم والرعاية الصحية والخدمات القانونية للمواطنين.» ويزيد ذلك من احتمال تأثر الأطفال الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة داعش بأيديولوجة هذا التنظيم.
الجدير بالذكر أن العديد من هؤلاء الأطفال لديهم روابط ببلدان أخرى.
وبعيداً عن الشرق الأوسط نجد أنه في بلد مثل هولندا، حيث تعيش فان دير هايدي، يستعد المسؤولون الأمنيون لإحتمال وصول 80 طفلاً هولنديّاً ولدوا أو نشأوا في أراضي خاضعة لداعش، وتمتد هذه المشكلة لتشمل بلدان أخرى في جميع أنحاء العالم: فما الذي يجب فعله لإعادة توجيه هذه الأعداد الكبيرة من الشباب الذين يُحتمل أن يكونوا متطرفين مع عدم وجود سوابق مماثلة؟
وبينما تواجه سوريا والعراق والدول المجاورة عبء هذه الأزمة، يُحذّر الخبراء من أن تدفق اللاجئين والترحيل المتوقع لمقاتلي داعش الأجانب وأسرهم سينشر عبء تقييم ومعالجة وإعادة دمج آلاف الأطفال المتضررين من داعش إلى مختلف الدول حول العالم.
كل هؤلاء الأطفال بحاجة إلى مساعدة، فضلاً عن كون بعضهم قد يُشكّل خطراً.
[caption id="attachment_6270" align="aligncenter" width="800"]

أبجديات القسوة
عندما فرض داعش سيطرته على الموصل في العراق، وأعلن إنشاء الخلافة في يونيو 2014، كان عمر الجبوري يعمل هناك في معهد تابع للحكومة، ويهتم برعاية النساء والأطفال.
واصل الموظف الحكومي تقديم تقارير العمل يومياً بينما كان المسلحون يواصلون سيطرتهم على الموصل البالغ عدد سكانها قرابة مليوني نسمة.
وفي نهاية المطاف، أغلقوا المعهد الذي يعمل به الجبوري وأمروه بالإنتقال للعمل في مدرسة إبتدائية محلية تعاني من نقص في عدد المدرسين، وبالرغم من أن الجبوري لم يمارس مهنة التدريس أبداً من قبل، إلا أنه لم يجرؤ على الاعتراض ووافق على حضور الدورات التدريبية الإجبارية التي أعدتها داعش للمدرسين.
وهناك، علم أنه يجب الفصل بين المُعلّمين والأطفال من جميع الأعمار على أساس الجنس، وكان عليهم الالتزام الصارم بالزّيّ الإسلامي، كما تمّ إلغاء العديد من المواد التي يتم تدريسها، بما فيها الأدب والتاريخ، بينما بقيت مواد الرياضيات، واللّغة العربية، ودراسة الإسلام، ولكن فقط وفقاً لمنهج داعش.
وفي النهاية، وزع مكتب التعليم التابع لداعش المواد والكتب المدرسية التي أعدها التنظيم.
وكان الجبوري، الذي كان تحدث إلينا عبر الهاتف من شرقي الموصل بعد وقت قصير من تحريرها أوائل العام الحالي، يعرف أنه سيرفض على الفور اتباع منهج التنظيم، إذ قال «كان منهج داعش يستند إلى عقيدة مُتطرّفة تدعو الأطفال إلى الكراهية وقتل الأشخاص من ذوي الديانات الأخرى. وحتى في مادة الرياضيات، بدلاً من أن يقولوا: «تفاحة + تفاحتان = 3 تفاحات، صاروا يقولون: «رصاصة + رصاصتان = 3 رصاصات.» وأضاف: «لقد كان الآباء قلقون جداً».
وكان التعليم جزءاً من سياسة موسّعة لتشكيل عقول الأطفال، طبقها تنظيم داعش في المدن التي سيطر عليها.
يقول محمد الحامد، وهو ناشطٌ مهتم بإستراتيجية التعليم التي فرضتها داعش في سوريا، أن التنظيم إستخدم المدارس لتسهيل دخول الأطفال إلى التنظيم.
ويضيف: «إنهم في داعش لا يجبرون الأطفال على الإنضمام إليهم، لكنهم يُعلّمونهم مبادئهم وكل شيء عن الجهاد والدولة الإسلامية، بحيث سيطلبون الإنضمام للتنظيم عندما يكبرون».
وبينما هدد تنظيم داعش الآباء الذين لا يرسلون أطفالهم إلى المدرسة بالغرامة أو عقوبة الجلد، إلا أنها اتخذت نهجاً ألطف مع تلاميذها، وقد حضر محمد، الصبي الذي يعيش الآن في مدينة الريحانلي، الفصول المدرسية في إحدى المدارس التي تديرها داعش ولمدة سنتين في مسجد في الرقة.
ويقول إن مُعلّميه لم يستخدموا العقاب البدني أبداً، وكانوا يعاملون الطلاب بلطف. ولذلك «فقد أحببتهم، كما أنني أحب الإسلام، فلقد أخبروني بأنني إذا قرأت القرآن الكريم فسأحصل على جوائز.»
ولقد أعطوا محمد ألعاباً على شكل أسلحة وأنفقوا المال بسخاء، وكان شقيقه إبراهيم، البالغ من العمر 10 أعوام، مولعاً بشكلٍ خاصٍّ بالمسواك، وهو نوع من أدوات تنظيف الأسنان إستخدمه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد أعطاه له مُعلّمه كهدية.
كما تحدث المُعلّمون في مدرسة محمد وإبراهيم أيضاً إلى التلاميذ عما هو منتظرٌ منهم عندما يصبحون كباراً، وكم هو عظيمٌ أن يدافعوا عن الدولة الإسلامية، يقول محمد: «لقد قالوا: حينما تصير رجلاً يجب أن تطلق لحية طويلة، وأن تمنع زوجتك من الخروج، وأن تتأكد من أنها مغطاة تماما.ً»
وأضاف «قالوا لنا أيضاً أنهم يقاتلون الكفار، مثل النظام السوري وإسرائيل وإيران وأميركا، ويسعون لأن يكونوا أكثر قوة. لقد أخذوا من هم أكبر سنّاً مني وعلّموهم كيفية إستخدام الأسلحة في معسكر التدريب، لكنني قلت لهم إنني أردت فقط أن أتدرب على الأسلحة وليس الذهاب للقتال.»
ولم يتعرض جميع الطلاب الذين ذهبوا إلى المدارس في المدن التي سيطرت عليها داعش إلى الأفكار المُتطرفة، ففي خطوة مثّلت خطراً كبيراً على حياته، رفض الجبوري والعديد من زملائه في المدرسة الابتدائية تدريس منهج داعش، وبدلاً من ذلك، أمضى سنتين في تعليم القراءة والكتابة خلسةً.
يقول الجبوري إن العديد من الآباء يخشون من عقاب داعش في حال رفضهم إرسال أبنائهم إلى المدرسة.

كما لاحظ تُغيّرات مثيرة للقلق على الطلاب الملتحقين بالمدارس المجاورة التي يعمل بها زملاء أكثر إمتثالاً، إذ يقول «لقد بدأوا يرتدون أزياء داعش السوداء على الطراز الأفغاني، وأرادوا معرفة المزيد عن الجهاد، كما بدأوا في ممارسة التكفير،» مشيراً إلى أنها ممارسة إسلامية تحاكي فكرة الحرمان الكنسي.
«في حال إقدام أي مسلم على فعل شيءٍ لا يتوافق مع مذهب داعش، يصبح وفقاً لمنظورهم كافراً، أي أنه لم يعد مُسلماً، حتى الأطفال الصغار بدأوا يتحدثون مثل المُتطرّفين الكبار، لقد تحدثوا عن روما، وعن غزوها والسيطرة عليها، هل يمكنك أن تتخيل ذلك؟»
الأبطال الخارقين لأفلام الرعب
كانت الدعاية التي تطلقها داعش أكثر ضرراً على الأطفال من تلك المناهج الدراسية.
فلقد عاش الحامد لمدة عام تحت حكم المُسلحين بعد احتلالهم مدينة دير الزور، وخلال تلك الفترة، بدأ سراً في توثيق أنشطتهم، مما أودى به في النهاية إلى سجون داعش.
وعندما أُطلق سراحه في العام 2015، هرب عبر الحدود إلى مدينة غازي عنتاب التركية، حيث يواصل عمله كناشط مناهض لداعش.
وفي حديث له من منزله هناك أوائل هذا العام، قال إن شاشات عرض الأفلام التي تقيمها داعش في الهواء الطلق كانت، في رأيه، أقوى أدوات التنظيم للتجنيد.
وأضاف: «لقد أظهرت تلك الأفلام ما تفعله داعش بالكفار، وكيف يقتلونهم، ولقد أعطوا للأطفال بطاقات ذاكرة إلكترونية مُحمّلة بالأناشيد الدينية والنصوص الإسلامية لتحميلها على الهواتف الذكية، وقد أحب الأطفال ذلك.»
وبعد العرض، كان مسؤولو التجنيد بداعش يسألون الأطفال عما إذا كانوا مستعدين للإشتراك في القتال.
وشرح الحامد: «كنت في ساحة المشاهدة، وعقب كل [عرض]، كان أربعة أو خمسة أطفال يرفعون أيديهم، فيأخذونهم.»
كما تحدث عن نظرة الأطفال لمقاتلي داعش على أنهم أبطال خارقين.
وبحسب تصريحاته، فالأطفال«يتطلعون إلى نمط حياة داعش، فيرون لديهم السيارات والمال والسلطة على الأرض، ويريدون أن يكونوا مثلهم.»
ويُقدر الحامد عدد الأطفال الذين جندتهم داعش في دير الزور ما بين 700 و1000 طفل، وذلك منذ وصول مقاتليها إلى المدينة في العام 2014.
وبمجرد وصولهم إلى معسكرات تدريب داعش، يبدأ الأطفال في إتباع جدول زمنيّ صارم لإعدادهم للقتال.
يقول أحمد أمين كورو، وهو صبي عراقي يبلغ من العمر 16 عاماً، إختطفته داعش وأجبرته على الإلتحاق بأحد معسكرات التدريب مع أكثر من 200 طفلٍ أسيرٍ آخر، وذلك بعدما غزت داعش قريته في صيف العام 2014، إن التدريب بدأ بالدراسة الدينية اليومية لمدة شهر، حيث أُجبر، وهو من أتباع الديانة الأيزيدية، على قراءة القرآن الكريم، ودراسة الشريعة الإسلامية، والاستماع إلى الأناشيد وتعلم «كيف يكون مُسلماً؟»
وأقام في منزل متهالك حيث كان هو وعشرات الأولاد الآخرين، وبعضهم في سن السادسة، ينامون على أرضية خرسانية باردة بدون أغطية، وكان يومهم يبدأ بصلاة الفجر، يليها التدريب على الأسلحة في الساعة 6 صباحاً.
ويقول «كل يوم، كان يأتينا رجل يُعلّمنا كيفية استخدام المسدسات، وبنادق الكلاشينكوف، والأحزمة الإنتحارية، وفي الليل، كنا نشاهد مقاطع فيديو عن كيفية القتل، عبر شاشة عرض كبيرة تعرض لنا هذه المقاطع في قاعة كبيرة.»
كما لجأ مدربو كورو إلى استخدام مزيج من المكافآت (كالزيارات العائلية) والعقوبات القاسية (كالتجويع والحبس الإنفرادي والضرب) لدفعهم إلى الامتثال.
وذات يوم عندما إكتشف أحد الحراس التابعين لداعش أن كورو بحوذته هاتفٌ محمول، وهذا إنتهاك للقواعد، قام ثلاثة رجال بربط يديه خلف ظهره، وتعصيب عينيه، وجعلوه يركع على الأرض، وأخذوا يتناوبون على ضربه على ظهره بما وصل مجموعه 250 ضربة بخرطوم بلاستيكي، ومنذ ذلك الحين أصبحت ضلوعه بارزة من صدره لدرجة أن التشوّه بدا مرئيّاً من خلال ملابسه.
وقد روى لي كورو أن قسوة المدربين كانت تُخيفه، وذلك أثناء تشغيل أحد مقاطع الفيديو الدعائية لداعش على هاتفه.
ولم يكن هذا الفيديو في مثل بشاعة مقاطع الفيديو الأخرى التي تُظهر الأطفال الصغار يقومون بإعدام السجناء عن طريق إطلاق النار، أو قطع الرأس، ولكن الفيديو هذه المرة يدعو للقلق، حيث يبدأ بعرض لقطة من أحد الفصول الدراسية حيث يجلس كورو على مكتب خشبي بين أكثر من إثني عشر طالب شابّ، يرتدون جميعاً أقمصةً سوداء وشارات داعش، وكانوا يُحدقون في الكاميرا في صمت بينما يمتدحهم الراوي واصفاً إياهم بالجيل المقبل من مقاتلي داعش.
ثم ينتقل إلى مشهد كورو وهو يتسلق الحبل كمثال للتدريبات التي يتلقاها الطلاب، وأخيراً، يظهر الراوي، وهو فتى عابس الوجه، يصرخ موجهاً التهديدات لأعداء الدولة الإسلامية.
ويقول كورو إن المراهق كان إيزيديّاً مثله، لكنه كان أحد المتدربين القلائل في مجموعته الذين اعتمدوا بحماس إيديولوجية داعش العنيفة. ويضيف كورو: «لقد رأيته يُساعد في شراء وبيع الفتيات الأيزيديات لأغراض المُتعة الجنسية.»
وبينما تنهار خلافة داعش، فإن كورو لا يعرف أين هذا الصبي الآن، فقد يكون قُتل أو أُسر في المعركة أو أنه ببساطة فر بعيداً عن جبهة القتال، وعاد مرةً أخرى إلى مجتمعه الطبيعي، يمشي بين الناس العاديين الذين لا يعرفون أنه جهادي.
[caption id="attachment_6272" align="aligncenter" width="768"]

«سيقتلوننا جميعاً»
يقع سجن أربيل، عاصمة المنطقة الكردية شبه المستقلة في العراق، والذي إتخذ مقرّاً لإحتجاز الأحداث المشتبه بانتمائهم لداعش، على طريق مزدحم على بعد بضعة مبانٍ من أحد مراكز التسوق الشعبية، وهو محجوب عن الأنظار بجدران عالية مُزيّنة برسوم جدارية وتعلوها أسلاك شائكة، حيث تصوّر إحدى الجداريات جسماً بشريّاً يظهر بين لوحات عدّة، خارجاً من صندوقٍ مُظلم.
وقبل انطلاق مجموعة من القوات في أكتوبر لإخراج داعش من الموصل، كانت إصلاحية النساء والأطفال في أربيل تضم ما يزيد قليلاً عن 200 نزيل، واليوم فإنها تؤوي ما يقرب من 500.
وفي ذلك الوقت، كان معظم النساء والأطفال محتجزين هناك بسبب جرائم عادية: المخدرات، أو البغاء، أو السرقة، وأحياناً القتل، ولكن عندما بدأ هجوم الموصل، امتلأت الإصلاحية فجأة بالمراهقين، وبعض النساء المشتبه بهن أو المدانين بجرائم مرتبطة بتنظيم داعش.
وقد واجهت القوات العراقية والقوات الكردية المحلية التي إندفعت من منزل إلى آخر في المناطق التي يُسيطر عليها تنظيم داعش، مُهمّة معقدة في التمييز بين السُكّان المحليين اليائسين الذين قد يكونوا منضمين إلى تنظيم داعش أو متعاطفٌ مع التنظيم.
وقد قامت كل المجموعات التي نفذت الهجوم بإحتجاز السجناء، بمن فيهم الأحداث، وإرسالهم إلى أماكن مُختلفة، حيث من المفترض أن يتمّ التعامل مع قضاياهم وفقاً للنظام العدلي، إلا أن بعض التقارير قد أفادت بأن هذه المجموعات قامت في بعض الأحيان بمعالجة الأمور بطريقتها، فعلى سبيل المثال، نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً زعمت فيه أن 17 طفلاً يُشتبه في انتمائهم إلى داعش قد تعرّضوا للتعذيب من قِبل قوات الأمن الكردية.
ويقول مسؤولٌ كرديّ إن تلك الادعاءات «باطلة بشكلٍ واضح» وأن مجموعة حقوق الإنسان لم تُقدّم أبداً أي دليلٍ على مزاعمها تلك، ويضيف أن الأطفال المُحتجزين يمكنهم «التواصل بشكلٍ غير محدود وغير مُقيد مع الصليب الأحمر».
وفي نهاية المطاف، تمّ نقل الأطفال الذين تم أسرهم، فضلاً عن عشرات آخرين من المشتبه في انتمائهم لداعش، إلى الإصلاحية المزدحمة التي تعاني نقص التمويل وتديرها على مدى العامين الماضيين سيدة تُدعى ديمان محمد بايز.
وعندما بدأت الموجة الأولى من السجناء الصغار في الوصول في أكتوبر، تقول بايز إن موظفيها كانوا يخشونهم، فلقد كانوا قذرين، شعورهم طويلة، وكانوا يرتدون ملابس على غرار ملابس داعش، وبينما أُتهم البعض منهم بجرائم بسيطة مثل التواصل مع داعش عبر الإنترنت، والتدريب معها، واضطرارهم للعمل مع داعش، غير أن آخرين إتهموا بجرائم أكثر خطورة، مثل جرح أو قتل جنود أثناء معركة الموصل. وكان بعضهم قد أدين بالفعل وكانوا موجودين لتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم والتي لا يُمكن أن تتجاوز في إقليم كردستان العراق سنة واحدة لمن تقل أعمارهم عن 18 سنة، بغض النظر عن الجريمة.
كان الموظفون حذرين في البداية من هؤلاء المعتقلين الذين تمّ فصلهم عن نزلاء السجن العامّ بسبب المخاوف بأن يؤثروا في الآخرين، ولكن مع مرور الوقت، وجدوا أنهم يتصرفون بأدب.
تقول بايز، إن حالتهم مُثيرة للشفقة، وتضيف: «بالنسبة لمعظم الأطفال، لقد دُمرت حياتهم على أيدي تنظيم داعش، وفقد بعضهم آبائهم وأسرهم، وفقد آخرون منازلهم… وأعتقد أنهم عانوا كثيراً تحت حكم داعش وأنهم يجدون الوضع أفضل هنا، وهم لا يُثيرون الكثير من المشاكل.»
ويسعى موظفو بايز لإشعار هؤلاء المراهقين بالفرق بين حياتهم تحت سيطرة داعش وخارجها، حيث يتعاملون معهم وفقاً لبرنامج يهدف لإعدادهم للعودة إلى المجتمع.
ويبدأ ذلك، على غرار برنامج داعش للتعامل مع القادمين الجدد، بالدراسة وتغيير نمط الملبس.
تقول بايز «أول شيء نقوم به في المعهد هو تغيير ملابسهم، وحلق لحاهم وقص شعورهم، إذ نحرص على تغيير مظهرهم الخارجي»، وتضيف «ثم يصحبهم الأخصائي الاجتماعي إلى الفناء، وربما يلعب معهم كرة القدم، ويتحدث إليهم، ويجعلهم يشعرون بالارتياح، بعد ذلك، نبدأ معهم في الدورات.»
وبسبب ضعف التمويل والإكتظاظ الشديد، فالمرفق الذي تم بناؤه لإيواء 120 شخصاً، أصبح يؤوي 475 شخصاً في أواخر شهر مايو، فإن عروض الدورات لا تُقدم وفقاً لما كانت ترغب به بايز، ولكن موظفيها يقومون بكل ما في وسعهم.
فبالإضافة إلى الدورات الرياضية الاختيارية والموسيقى والكمبيوتر والدورات اللُّغوية، يقوم الأخصائيين الإجتماعيين بزيارة النزلاء مرة أو مرتين أسبوعياً، كما تُتاح لهم فرصة التواصل مع علماء النفس والأطباء ورجال الدين الذين يتحدث إليهم حول ما تدعوه بايز «الإسلام الحقيقي.»
وينظم المركز الإعلامي التابع للمعهد أيضاً عرض أفلام وثائقيّة من آنٍ لآخر تهدف إلى تغيير أفكار الأطفال حول داعش.
تقول بايز: «تظهر الأفلام كيف أن أيديولوجية داعش سيئة وكيف أن التنظيم يُدمر المدن ويقتل الناس،» مشيرةً إلى أن الأخصائيين الإجتماعيين يقومون بإجراء المناقشات خلال أوقات العرض، «ويوضحون للأطفال كذلك كيف دمرت داعش حياة الناس».
وقد لاحظت بايز بعض التغييرات المشجعة.
تقول: «عندما وصلوا، كانوا لا يرغبون في رؤية أية نساء، ويرون أن حكومتنا كافرة ويعتقدون أن الموظفين كفار كذلك، بل إنهم كانوا يقولون لنا إنه إذا كان الأمر بأيديهم، فإنهم سيقتلوننا جميعا.ً»
لكنها تلاحظ أن موظفيها قاموا مؤخراً بإستطلاع آراء الأطفال حول الأنشطة التي قد تُثير اهتمامهم، فوجدوا أنهم إختاروا بشكلٍ كبيرٍ الرسم والموسيقى، وكلاهما كان محظوراً تحت حكم داعش.
كما طلب بعض الصبية أيضاً قص شعره بطريقة عصريّة، الأمر الذي كانت تحظره داعش، حيث يكون السجن مصير من يطلب حلاقة شعره بشكلٍ عصري.
وتقول بايز: «إن هذه علامة على أن عقولهم بدأت تتغير».
ومع ذلك، فلا يزال بعضهم يقاوم. إذ عاد أحد الصبية للإنضمام إلى المُسلحين فور إنتهاء مدة عقوبته، وأعيد إعتقاله ووجهت إليه إتهامات وحُكم عليه مرة أخرى. تقول بايز: «إن تغيير عقولهم وأفكارهم ليس بالأمر السهل، فهو يستغرق الكثير من الوقت».
هل هناك حياة بعد داعش؟
يعتقد جان إلهان كيزيلهان، وهو خبير كُرديّ ألمانيّ مُتخصّص في علاج الصدمات النفسية، وعميد لأحد المعاهد النفسية الجديدة في شمال العراق، أنه حتى الأطفال الأكثر تأثراً يُمكن إعادة تأهيلهم، فلقد عاين أسوأ الحالات.
وفي العام 2014، قام برنامج ألماني لرعاية اللاجئين بتكليفه بتقييم نحو 1400 شخصٍ من ضحايا داعش لبحث منحهم حق اللجوء في حالات الطوارئ، وكان العديد منهم أطفالاً تم أسرهم وأجبروا على حضور مدارس داعش ومعسكرات التدريب. كان بعضهم صغيراً جداً عندما تم القبض عليهم ولم يكن لديهم أية ذكريات عن حياتهم قبل داعش، وعقب إنقاذهم وجمع شملهم بعائلاتهم، رفض بعض الأطفال ذلك وهاجموا أقاربهم.
ومع أن جميعهم من غير المُسلمين، إلا أن بعضهم ينتقد الآخرين لكونهم «كفار،» إذ أن فتى يبلغ من العمر 9 سنوات قضى منهم عامين ونصف العام مع داعش، يُخيف عائلته من خلال مواصلة أداء تدريباته القتالية في المنزل.
وخلال مشاركته تناول وجبة الإفطار في أحد الأيام، أخذ البروفيسور يصف لنا أسلوب العلاج المثالي لطفل تمّ غسل دماغه من قِبل المُتطرّفين: سيستغرق الأمر من عامين إلى ثلاث أعوام، ويبدأ بفترة من «الاستقرار» حيث يتكيّف الطفل ببساطة مع الحياة الطبيعية، وهذا يعني حضور المدرسة، وممارسة الرياضة، والاجتماع مع الأخصائي الاجتماعي كل يوم.
وأضاف «يجب أن نكون على اتصال وثيق بهم، فيجب أن يشعروا بأن هناك أشخاص يثقون بهم ويريدون مساعدتهم. إنهم بحاجة إلى إستعادة ثقتهم بالإنسانية والبشر،» وبمجرد أن تنشأ علاقة الثقة الكافية بين الطفل وكلّاً من الأخصائي الإجتماعي والطبيب النفسي، يمكن عندئذ البدء في جلسات العلاج النفسي.
لم يتم غسل عقول جميع الأطفال الذين حضروا مدارس داعش أو حتى معسكرات التدريب.
إذ يقول كيزيلهان إن عقول الأطفال الصغار ليست ناضجة بما يكفي لفهم الأيديولوجية التي تحاول داعش تعليمهم إياها.
ويقول إن المراهقين الأكبر سنّاً الذين بدأوا في تطوير الهُويّة السياسية هم أكثر عرضة للإستجابة لعمليات غسل العقول.
ويضيف»: «وبالمثل، فجميع الأشخاص الذين تعرّضوا لأحداث صادمة في أثناء وجودهم في المناطق الخاضعة لسيطرة داعش ستبدو عليهم آثار الصدمات النفسية أو سيتضررون نفسيّاً بطرقٍ أخرى.
وينقل عن دراسة إلمانية أن نسبة 50 في المئة من الأشخاص الذين يتعرضون لأحداثٍ مؤلمة (مثلًا حادث سيارة أو مشاهدة قطع الرأس) «يخرجون من الأزمة» من دون الحاجة إلى العناية الطبية، أما الـ 50 في المئة الآخرين، فيواجهون مشاكل عديدة بدءاً من حالات الإكتئاب وإضطراب ما بعد الصدمة إلى الميل لممارسة سلوكيات أكثر خطورة ضد المجتمع.
ومع ذلك، فإن عدد الأطفال والبالغين المتضررين من داعش في شمال العراق وحده، والذين يحتاجون لرعاية نفسية عاجلة، يتجاوز بكثير عدد المرافق والخبراء المتاحين لمعالجته.
ويقدر كيزيلهان أن هناك أقل من 30 خبير نفسي مؤهلين ومُتخصّصين في علاج الصدمات في المنطقة بأكملها، والتي تؤوي حالياً ما يقرب من 2 مليون نازح بسبب الحرب.
يُدير أكو فيق محمد أحد العيادات القليلة المُتخصّصة في التأهيل النفسي للمرضى، حيث يعالج أكثر الحالات إلحاحاً في المنطقة.
ومنذ إفتتاحها في العام 2015، عالجت العيادة 70 طفلاً كانوا يعيشون في أراضي خاضعة لسيطرة تنظيم داعش. وعلى غرار مرضى كيزيلهان، كان معظمهم من الأقليات الدينية التي إختطفت وأُجبرت على الدخول في معسكرات التدريب.
[caption id="attachment_6273" align="aligncenter" width="800"]

وظهر أن العديد منهم تعرّضوا لعمليات غسل عقول وصاروا عنيفين مع أفراد أسرهم أو الأخصائيين الاجتماعيين أو السلطات الأخرى بما يكفي لإحالتهم إلى مرفق للعلاج طويل الأجل.
فقد حاول أحد الصبية مرات عدّة إشعال النار في شقيقته لأنها «كافرة،» وهناك آخر، شهد إعدام داعش للسجناء، توجه إلى العيادة بعد أن مارس العنف في المنزل، بل إنه حتى حشر شقيقه الطفل في الثلاجة. ويقول محمد: «هؤلاء الأطفال معادون للمجتمع، إنهم يرفضون مجتمعهم، وهم عدوانيون إذ قاموا بضرب أصدقائهم وأفراد أسرهم.» ويضيف: «حتى المرضى ضربوهم. عندما يكبر هؤلاء، فإن قتل شخص سيكون أمراً سهلاً بالنسبة إليهم إذا لم نحل هذه المشاكل الآن».
وفي محاولة لزيادة عدد المهنيين المحليين في مجال الصحة العقلية المؤهلين للتعامل مع الأزمة، إفتتح كيزيلهان، بتمويل من إلمانيا، معهد علم النفس السريري في دهوك في مارس 2017، وهو يُدرّب بالفعل أول دفعة من علماء النفس؛ حيث من المقرر أن تتخرج في العام 2020.
ويأمل أن يتم توسيع البرنامج كل عام بحيث يكون هناك الآلاف من معالجي الصدمات النفسية في شمال العراق بحلول عام 2030.
ولكن في الوقت الحالي، فمن المحتمل أن يحصل الأطفال الذين تعرضوا لعمليات غسيل عقول أو لصدمات النفسية على العلاج لمدة فترة قصيرة من خلال المستشارين أو الأخصائيين الإجتماعيين الذين يعانون أصلاً من أعباء زائدة في العمل، هذا إذا لم يتلقوا أي علاج على الإطلاق.
قطع الرؤوس مقابل ارتداء البيكيني
لا يزال أبناء أخو رعد الذين عاشوا في مدينة الرقة، محمد وإبراهيم وسليم، والذين أمضوا عامين في مناطق خاضعة لسيطرة تنظيم داعش، يقيمون في تركيا، يسكنون بين السُكّان المحليين وغيرهم من اللاجئين السوريين.
وعلى الرغم من أن مناشداتهم له من حين لآخر بإعادتهم إلى ديارهم، إلا أنه يرفض السماح لهم بالعودة إلى سوريا حتى يكملوا تعليمهم، لأنه قلقٌ من أن يُسرعوا في حمل السلاح مع داعش من دون فهم عواقب أفعالهم.
ويقول «إنهم يعتقدون إنها لعبة، لكنهم لا يزالون أطفالاً، ولا يفهمون ما يعنيه الموت.»
كما يشعر بالقلق من العودة إلى سوريا بعد هزيمة داعش، ويخشى من أن يقوم من يسيطرون على الرقة الآن بمعاقبة المتعاطفين مع الجهاديين، وعدم مراعاة أعمارهم الصغيرة أو الظروف التي أحاطت بهم.
ويضيف: «على الرغم من أنهم ضحايا، إلا أنهم سيتعرضون للتعذيب.»
وأخبر رعد أبناء أخيه بأنهم سيعودون إلى ديارهم بمجرد تخرّجهم من المدرسة الثانوية. ولكنهم يقبلون الاستقرار في ريحانلي التركية على مضض.
فقبل إندلاع الحرب في سوريا في العام 2011، كانت ريحانلي بلدة زراعية ذات كثافة سُكّانية قليلة على بعد ميلين فقط من الحدود. أما الآن فشوارعها الرئيسية صاخبة من لعب الأطفال وحركة الباعة المتجولين الذين ينادون على السلع باللُّغة العربية وصارت البلدة الآن مليئة بالزبائن السوريين الذين لجأوا إلى هناك على مدى السنوات الست الماضية.
والشيء نفسه حدث في العديد من المدن والأحياء في جميع أنحاء تركيا والأردن ولبنان، التي تستضيف مجتمعة أكثر من 5 ملايين لاجئ من الحرب الأهلية السورية.
ويوجد عددٌ غير معروفٍ من الأطفال مشتتين في الزحام ممن تعرضوا لتجربة التعليم في مدارس داعش ومعسكرات تدريبها ووسائل إعلامها.
وقد بُذلت جهود صغيرة ومتفرقة لرصد الصغار الذين يحتاجون إلى المعونة، ولكن من السهل على الوالدين إخفاء هؤلاء الأطفال.
فبعض العائلات التي ترغب في مساعدة أطفالها المُتطرّفين مُترددة في ذلك، خشية أن يتم التحقيق معهم ومعاقبتهم من قِبل أجهزة الأمن المحلية.
وهناك آخرين، مثل رائد، يعتقدون أنهم يستطيعون حلّ المشكلة بمفردهم.
ويقر رب الأسرة بأن هناك بعض الأخطاء في جهوده لإعادة تأهيل أبناء أخيه.
فذات مرة، عندما وصل سالم لأول مرة من الرقة، أخذ رائد ابن أخيه المراهق إلى الشاطئ لتغيير آرائه المتشددة حول المرأة، ولكن ما ان رأى سليم النساء يرتدين البيكيني حتى استشاط غضباً وقال: إنه «يجب أن تقطع رؤوسهن وصبغ البحر بدمائهن.»
وعندما اشترى رائد لإبراهيم جهاز الآيباد، قام الصبي بتحميل ألعاب الحرب على الفور.
لكنه يعتقد أنه يتقدم ببطء وهدوء نحو الانتصار في هذه الحرب مع القلوب والعقول الشابة.
ويصر على «أنهم يتحسنون جميعاً»، وأضاف «أن نمط الحياة مختلفٌ هنا، وشيئاً فشيئاً سوف يتغيرون.»
غير أنه أقل تفاؤلًا بشأن الأطفال المتعاطفين مع داعش، الذين يراهم من آن لآخر حول مدينة ريحانلي.
فلقد زار أحدهم مؤخراً متجراً لبيع الملابس المستعملة فإنفجر الصبي من الغضب عندما اقتربت شقيقته من رائد للاستعلام عن المقاس، فصرخ فيها قائلاً: «لماذا تتحدثين مع رجل؟، إذا كان لديك سؤال، فاسأليني وسوف أسأله، وأقسم بالله حينما أعود إلى المنزل سوف أخبر أخاكِ الأكبر ليقطع رأسك.»
وبينما يروي رعد القصة، هز رأسه قائلًا: «بعض هؤلاء الأطفال يكبرون على أفكار الجهاديين، وسيمثلون مشكلة لمستقبل العالم بأسره.»
إيميلي فيلدمان
المصدر: مجلة نيوزويك الشرق الأوسط
https://ar.newsweekme.com/