بعد مرحلة طويلة من التراجع خلال القرن التاسع عشر نتيجة لضغوط إستعمارية خارجية، أوروبية ثم يابانية، ومن التصدع الداخلي (المجاعات، الكوارث الط...
بعد مرحلة طويلة من التراجع خلال القرن التاسع عشر نتيجة لضغوط إستعمارية خارجية، أوروبية ثم يابانية، ومن التصدع الداخلي (المجاعات، الكوارث الطبيعية، الثورات) تبعتها مرحلة شبه إكتفاء ذاتي تحت حكم ماوتسي تونج (Mao Zedong) بين سنتي 1949 و1976، إحتلت الصين من جديد موقعاً محورياً في الإقتصاد العالمي، والواقع، إذا نحن نظرنا في المسألة من منظور تاريخي طويل، أنها إنما تستعيد المكانة المتناسبة مع وزنها الديموغرافي الذي كان لها خلال القرن الثامن عشر.
لعودتها من جديد على الساحة العالمية أثار سياسية وإستراتيجية عميقة كما تدل على ذلك مطالبتها بالسيادة في جنوب بحر الصين، وقدراتها العسكرية المتنامية، وتكوين ممرات بحرية وبرية عالمية، وكذلك إسهامها في إنشاء مؤسسات تنموية وحوكمة إقتصادية مستقلة مثل البنك الأسيوي العالمي للإستثمار والبنك الجديد للتنمية (1)، يمكن القول إجمالاً إن الصين موجودة في قلب ظاهرة إعادة التوازن إلى الكوكب التي تغير نظام العالم.
[caption id="attachment_5708" align="aligncenter" width="962"] الصين القديمة[/caption]
يطرح هذا التحول مسألة الإستقلالية النسبية للدولة في سياق العولمة، وهو تحول بما له من حجم وآثار، يزعزع واحداً من المصادر الرئيسية التي برزت خلال العقود الأخيرة والتي تقول إن تعديد القوميات بالنسبة إلى التدفقات الإقتصادية مضافة إلى الضغط على عاملي الزمان والمكان الناجم عن الثورة الإتصالية قد تكون قد طمست الدولة وأنتزعت منها سيادتها الفعلية وحرمتها من قدرتها على التدخل، ولقد عرفت هذه الأطروحة عدة تنويعات، فالنسخة الليبرالية تذهب إلى أنه تم المرور من فكرة الدولة الوطنية العصرية ومن نظام العلاقات البينية الذي أرسته معاهدة "واستفاليا" سنة 1648 إلى تشكيل ما بعد العالمية أو ما بعد الحداثة، وهو تشكيل يتميز بتحويل السلطة إلى الفاعلين الخواص وهيئات "للحوكمة الشاملة" (2)، أما في صيغتها ما بعد الماركسية فترى إن إعادة بناء فضاء تجميع رأسمالي عالمي بعد سنة 1991 قد أخضعت الدولة جزئياً أو كلياً – حسب القراءات- إلى منطق رأسمال المستقل الذي تجسده كوكبة من الفاعلين العابرين للقوميات ويذهب بعض المؤلفين الى أن هؤلاء سيشكلون من الآن فصاعداً طبقة حاكمة متعددة القوميات تتقاسم، رغم الإنتماءات الثقافية أو الهويات الوطنية، رؤى للعالم متقاربة ومصالح مشتركة (3)، وكان من شأن هذا أن أدى إما إلى إعادة تشكيل للدولة لتصبح مجرد عامل في عملية تدويل رأس المال، وإما إنشاء هياكل جديدة تحول التبعية لها دون إستقلاليتها.
[caption id="attachment_5715" align="aligncenter" width="1000"]
الغزو الياباني للصين[/caption]
لكن التجربة الصينية أتخذت منحى آخر، لا ريب في أن عولمة نهاية القرن العشرين قد أحدثت ضغوطاً نظامية مست كل المجتمعات والدول، وقد وجد البعض منها نفسه متجاوزاً، ورأى مساره التنموي رهين تكوين سوق عالمية تم تشكيلها وفق منطق التوسع الرأسمالي المعولم، وقد احتفظت عدة بلدان تنتمي إلى "الجنوب المعولم" بمكانة ثانوية ضمن التوزيع العالمي الجديد للعمل، ولما كانت هذه البلدان مصادر للمواد الأولية (إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بصفة خاصة) أو لليد العاملة (الفلبين، المكسيك، بنجلاديش ....) فقد وجدت نفسها مقتصرة على أداء أنشطة ذات قيمة مضافة ضعيفة مثل صناعات النسيج (كمبوديا، بنغلاديش، الهند ...) أو تركيب المنتجات الكهربائية أو الإلكترونية التي تم تصنيع مركباتها ذات القيمة المضافة العالية في فروع أخرى لسلسلات إنتاج متعددة القوميات.
[caption id="attachment_5709" align="aligncenter" width="730"]
الصين في عهد الإشتراكية[/caption]
ومع ذلك فإن أثار الإندماج في الإقتصاد الرأسمالي الحديث العهد بالعولمة لم تكن موحدة فتعديد قوميات الإنتاج والتدفقات ولدت جغرافيا تنموية متمايزة شهدت من جرائها بعض الدول أرباحاً مطلقة ونسبية كبيرة، في حين ظلت أخرى أسيرة التخلف أو إنعدام التقدم، ويرجع هذا التفاوت في نصيب كبير منه إلى أن عملية توزيع رأس المال في الفضاء العالمي تتم على يد هيئات سياسية ونظم مؤسسية مختلفة تشكلت عبر التاريخ، وقد زادت العولمة من تبعية وهشاشة البلدان ذات الطاقات الدولية الضعيفة ولكنها ساهمت أيضاً في الإستقلالية العالمية النسبية والقوة المتزايدتين لبعض الدول المطورة التي أستطاعت وعرفت كيفية إستغلال السوق العالمية وتوجيه تدفقات ما بين الأوطان خدمة لأغراض تنموية ذاتية (شأن اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا، وإن كانت هذه الأخيرة بدرجة أقل ولكن بنجاح).
[caption id="attachment_5710" align="aligncenter" width="801"]
الزعيم ماو تسي تونج[/caption]
وهذا ما حدث في الصين بصفة خاصة، فمسارها التصاعدي الذي أتخذته منذ سنوات 1980 يصبح ذا دلالة أكبر بحكم ما واجهته منذ نهاية سنوات 1980 من أزمة سياسية وإقتصادية وإجتماعية شاملة، لذلك بدأ وقتها من غير المحتمل أن تصبح في ظرف عقود قليلة واحدة من أكبر الإقتصاديات في العالم ومن المستبعد جداً أن تكون في وضع يسمح لها بتعديل وتكييف المحيط العالمي حسب برامجها بدلاً من مجرد التكيف معه، بل كان الإحتمال الأقرب هو أن الصين كانت تتجه، على العكس من ذلك، نحو إنهيار نظامي مماثل لذاك الذي قضى على إتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفيتية في نهاية سنوات 1980 بعد أن سبقته فترة تدهور طويلة في المجال الإقتصادي وأزمة في الشرعية هزتا الحزب والدولة، ومع ذلك، وخلافاً للحزب الشيوعي السوفيتي الذي حاول بتأخير كبير تطوير الإقتصاد والمجتمع، تمكنت الدول الحزبية في الصين من تجنب إنهيار الإقتصاد والدولة من خلال إدارة فعّالة للإنتقال من "الشمولية" إلى "إستبدادية عقلانية" (4)، ومن إقتصاد سيطرة قائم على الإكتفاء الذاتي إلى إقتصاد سوق موجّه منخرط بتدرج في الأسواق الإقليمية فالعالمية.
[caption id="attachment_5713" align="aligncenter" width="805"]
حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا[/caption]
أتبعت قيادة ما بعد "ماو" برنامجاً وطنياً للتحديث، وتعود أصول سعيها إلى إنشاء أمة قوية وإلى تكوين الثروة والقوة إلى حركة "التعزيز الذاتي" التي تمت في نهاية القرن التاسع عشر والتي أطلقتها بعض النخب التي تروم تعصير الصين إنطلاقاً من القمة حتى تتمكن من أحتواء الأمبرياليات الأجنبية، نسجاً على منوال مايجي (Meiji) في اليابان بعد سنة 1968 (5)، بحثاً عن طريق ثالثة بين الرأسمالية الغربية ونظام التخطيط القسري المتبع خلال الفترة "الماوية" وجهت السلطة أنظارها نحو الشرق بدلاً من الغرب، نحو نماذج توجيهية يرجح أن تحدث حركية نمو وأن تخرج من إقتصاد السيطرة مع الحفاظ على الحكم والسلطة بين يدي الدولة، كان التحول إلى الرأسمالية الموجهة متأثراً بتجربة البلدان الرأسمالية المطورة في المنطقة والتي أزدهرت خلال الحرب الباردة وعرفت حركية إقتصادية متصاعدة خارقة، زاردنج سياوبنج (Deng Xiaoping) اليابان وسنغافورة سنة 1978 أعتمد المخططون الصينيون وكيفوا بشكل إنتقائي المقاربات والتجارب اليابانية التي "نظر إليها كثيرون على أنها اقرب إلى الوضع الصيني وأكثر ملائمة له" (6)، من المسار الغربي، إن نجاح نظام التسيير الإداري والتخطيط التأشيري الياباني الذي أستنسخته وتبنته البلدان الحديثة العهد بالتصنيع في شرق أسيا خلال سنوات 1960 و 1980 (كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة) كان قد جعل التشكيل المؤسساتي الياباني مغرياً في نظر صانعي السياسات الذين تكونوا في صلب تقليد دولي طويل (شيوعي وما قبل الشيوعية).
[caption id="attachment_5711" align="aligncenter" width="810"]
تدريب مشترك بين الصين وروسيا[/caption]
تعزز هذا التصور في ذلك العهد من طرف الإقتصاديين والمخططين اليابانيين، فخلال التبادل المكثف بينهم وبين نظرائهم الصينيين خلال سنوات 1980 أصر الصينيون على التمييز بين الدولة الليبرالية الكلاسيكية الجديدة المقيدة القائمة في النمطين الإنجليزي والأمريكي، وبين الدولة المطورة اليابانية التي لا تعتبر "دولة رأسمالية عادية بل كنمط مميز من الإقتصاد السياسي يلعب داخله تسيير الحكومة للأسواق دوراً لابد منه" (7)، لقد شكل هذا التمييز المشغل الرئيسي للأعمال المبتكرة التي وضعها شالمز جنسن (Chalmers Johnson) مطلع سنوات 1980 (8)، فهو يرى كما يرى باحثون آخرون معاصرون له مثل بيتر إيفانس (Peter Evans) وأليس آمسدن (Alice Amsden) أن العقلانية البيروقراطية للدولة الرأسمالية المطورة في أسيا تتميز بجلاء عن النظرية الكلاسيكية الجديدة وتطبيقاتها المؤسسة على فاعلين أفراد يتم إستغلال فاعليتهم إلى الحد الأقصى، كما تتميز عن النظريات والممارسات المتصلبة المنسوبة إلى الأنظمة القيادية الشيوعية.
[caption id="attachment_5714" align="aligncenter" width="1000"]
رئيسا وزراء الصين واليابان[/caption]
ولقد وصفت هذه الدولة الأسيوية المطورة بأنها مخطط عقلاني لم تكن يده المرئيه النافذه في السوق تلغي الأسواق ولكنها كانت تضبط الأهداف الكبرى باعثة لذلك أو معززة لقطاعات إستراتيجية من خلال وضع الأطر المؤسساتية وأدوات التدخل الملائمة لمختلف مراحل التصنيع، ويشير عالم الإقتصاد الفرنسي روبار بواياي (Robert Boyer) إلى أن النظام التوجيهي الفرنسي بعد عام 1945 كان يتوفر على خصائص مماثلة، كما يلاحظ أن "الإسهام الأكثر حسماً في الديناميكية الصناعية يعود إلى الدور الحاسم الذي تلعبه الدولة في إعادة إعمار البنية التحتية وتحفيز الإنتاج المكثف عبر التأميم، وفي السيطرة على الإئتمان من خلال القطاع المؤمم مثل بنك فرنسا، وختاماً في بعث نظام تغطية إجتماعية على نطاق لم يسبق له مثيل لأنها تهم المعاشات والصحة والتعليم والإسكان" (9).
[caption id="attachment_5712" align="aligncenter" width="900"]
التبادل التجاري بين أوربا والصين[/caption]
ترى السلطة الصينية أن تحرير الأسواق وإنشاءها دون فقدان السيطرة السياسية وفتح الإقتصاد على العالم دون فقدان الإستقلالية قصد تجنب نشوء علاقات تبعية خاصة من صنف العلاقات الغير متماثلة بين الشمال والجنوب، كلها قضايا مركزية، ففي المرحلة الإنتقالية الأولى التي أنطلقت من إعلان الإصلاحات (1978) وصولاً إلى أزمة تياننمان وما صاحبها من قمع (1989) أتسمت سياسة الإنفتاح بالتدرج لاسيما مع إنشاء المناطق الإقتصادية التجريبية الخاصة داخل المناطق البحرية التي تعتبر من أكثر المناطق عولمة وذلك سنة 1979 خلال سنوات 1980 أجتذبت هذه المناطق الإقتصادية الخاصة الإستثمار العالمي الأسيوي الخاص بدءاً بأهل الشتات الصيني ثم الياباني مع تنام سريع إنطلاقاً من سنتي 1984 – 1985.
تركز الإستثمار المباشر الوافد من هونج كونج وماكاو وتايوان وسنغافورة في صناعات كثيرة العمالة ضعيفة المحتوى التكنولوجي (النسيج، اللعب ... إلخ) ولكنه شكل بداية حركية نمو محلية آخذة في التكاثف، أما الإستثمارات اليابانية في قطاع الصناعات التحويلية التي كان نصفها مشاريع مشتركة تنتج للأسواق الصينية قدر ما تنتج للأسواق الإقليمية أو أكثر فقد لعبت دوراً مهماً بداية من سنة 1985 ومرت نسبتها من مجموع الإستثمارات اليابانية في شرق أسيا من 4.5% الى 44.7% بعد ذلك بعشر سنوات. ويقول هو فونج منج Ho-Fung Hung أن تدفق الإستثمارات الوافدة من اليابان والنمور الاسيوية في قطاع الصناعات التحويلية الموجهة للتصدير إلى إندماج الصين الجنوبية في النظام الإقتصادي الإقليمي "الذي تتزعمه اليابان" (10).
[caption id="attachment_5719" align="aligncenter" width="683"]
الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الصيني[/caption]
خلال سنوات 1990 حدث تطور كبير، فبعد توقف دام ثلاث سنوات أملته الصراعات السياسية في قمة السلطة التي تبعت أحداث "تياننمن" عملت المجموعة المسيطرة على السلطة حول "دنج" على تسريع وتعميق إعادة الهيكلة الليبرالية الداخلية وتدويل الإقتصاد على المستوى العالمي وليس الإقليمي، وقد تأثر هذا الخيار بالتقلبات المعاصرة التي شهدتها العلاقات الدولية - إنهيار الإتحاد السوفيتي، حرب الخليج لسنة 1990، التأرجح ثم الركود الطويل اللذان عرفهما الإقتصاد الياباني إثر الأزمة المالية – وهي تقلبات دعمت دور الغلبة الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية، مواجهة لهذا الوضع الجديد تمام الجدة كان الخيار حسب "دنج" نفسه هو: "الإنخراط الحازم في البناء الإقتصادي ومواصلة نفس النهج ما لم يكن هناك عدوان أجنبي واسع النطاق، يجب علينا ألا نحول إهتمامنا عن هذه المهمة الأساسية" (11).
تمثلت اللّازمة الجيوسياسية للإندماج في الإقتصاد الرأسمالي العالمي في الحاجة إلى تطور سلمي في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك وقعت الصين عام 1992 مذكرة تفاهم معها إستجابة لمطالبها حول التعريفات الجمركية وبراءات الإختراع وحقوق الملكية الفكرية، وقد أعتبر إنخراط الجمهورية الشعبية في الإقتصاد العالمي من زاوية النظر الأمريكية فتحاً لباب جديد وشاسع للإستثمار، كما يوفر لها في ذات الآن فرصة لرسم مسارها الإقتصادي والسياسي.
[caption id="attachment_5720" align="aligncenter" width="825"]
الصين الآن[/caption]
طرح التشكيل العالمي على الصين معضلة تشترك فيها مع كل دول الجنوب: فكيف السبيل إلى تسلق سلم التنمية من خلال الإندماج في سوق عالمية نظمتها مؤسسات عابرة للقوميات وأملت موادها وأنظمتها المؤسسية دول معروفة تاريخياً بالهيمنة؟
فعلاً، لقد كان الحصول على التكنولوجيا وإمتلاكها واحداً من الحوافز الأساسية على الإنفتاح، وقد صرح دنج سنة 1980 بقوله: "إن التكنولوجيا والعلوم وحتى التصرف السليم في الإنتاج هي أيضاً نوع من العلم، وستكون مفيدة في كل مجتمع وفي أي دولة، نحن نعتزم الحصول على المهارات التكنولوجية والعلمية وحسن التصرف خدمة لإنتاجنا الإشتراكي" (12).
ولكن، وحتى تتمكن من الإنخراط في منظمة التجارة العالمية أخضعت الصين لشروط أشد صرامة من تلك المفروضة على البلدان الأخرى التي طلبت الإنتماء إلى المنظمة، فبينما تركت لليابان وكوريا الجنوبية وتايوان حرية إختيار سياساتها التوجيهية التي تحمي أسواقها الوطنية، بل وزادت الولايات المتحدة الأمريكية فدعمتها في ذلك في سياق الحرب الباردة، فتحت السوق الصينية، طبقاً لشروط، في وجه المستثمرين الأجانب سواء في شكل شركات مشتركة أو في شركات مملوكة بالكامل لمؤسسات أجنبية، فإرتفعت الإستثمارات المباشرة التابعة لمؤسسات أجنبية من 2.2 مليار دولار كمعدل سنوي بين 1984 و 1989 إلى معدل سنوي قدره 30.8 مليار دولار بين عامي 1992 و 2000 ثم إلى 170 مليار دولار بين سنتي 2000 و 2013.
[caption id="attachment_5721" align="aligncenter" width="772"]
الجيش الصيني[/caption]
خلال سنوات 1990 لم تكن النتائج المسجلة في باب إمتلاك التكنولوجيا وتوزيع القيمة مقنعة، فلقد تبين أن المكاسب النوعية الوطنية ضعيفة نسبياً بسبب تجزئة الإنتاج – تصميم، تزود بالمواد الأولية، إنتاج المكونات، التركيب النهائي، التسويق والبيع بالتفصيل – وإستحواذ الشركات صاحبة حقوق الملكية الفكرية على الجزء الأوفر من القيمة، عند ذاك أرتفع كثير من الأصوات المتشككة لتسجل أن الدولة فشلت في برنامج التحديث، ففي نقده العنيف والدقيق لإختيارات الزعماء الذين تلوا ماو "تسي تونج" ذهب جيانيونج يو (Jianyong Yue) خاصة إلى أن "التفاعل بين "إشتراكية "السوق الصينية والرأسمالية العالمية ولد عملية تعزيز للذات قوية وضعت الصين وحبستها في مسار تنموي يتميز بتصنيع خال من التقدم التكنولوجي" (13).
ما يزال هذا النقاش قائماً في بعض المجالات، ولكننا لاحظنا منذ خمس عشرة سنة توجها تصحيحياً تزامن مع وضع السيدين هو جنتاو (Hu Jintao) ووان جيابا(2002) (2012 – Wen Jiabao) لسياسة صناعية وطنية طموحة ذات برامج مركزية تمتد على سنوات وتشمل عديد القطاعات مع "جهد شامل في التوجيه والتنسيق الكاملين للتحديث الصناعي والتكنولوجي للصين" (14)، وقد أمكن بفضل إنشاء شبكة هامة من مؤسسات البحث والتنمية الترفيع في النسبة بين نفقات البحث والتطوير والناتج المحلي الخام من 0.5% سنة 1995 إلى 1.98% سنة 2012، وهي نسبة مكافئة للمعدلات المسجلة في البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية، لقد أصبحت الصين تحتل المرتبة الرابعة بعد الولايات المتحدة واليابان والإتحاد الأوروبي في عدد براءات الإختراع المودعه، وتشير المؤسسة الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة إلى أنه "لئن كانت الصين لم تقترب بعد من ذلك التكافؤ مع البلدان المنتجة الرئيسية للعلوم في مجال البحث العلمي الأساسي" فإنه لا يمكننا إلا أن نسجل "السرعة غير المسبوقة التي بها أنبثق هذا البلد كفاعل رئيسي" علمياً وتكنولوجياً (15)، في سنة 2012 وفي مقال عنوانه "الدولة تتقدم" عبرت الأسبوعية البريطانية "ذو أكومنست " عن أسفها لأن" إنسحاب الدولة الذي لوحظ خلال سنوات 1990 قد اخذ في التباطؤ، بل ربما أتخذ إتجاهاً معاكساً في بعض القطاعات الرئيسية مثل الطاقة والإتصالات وصناعة السفن وكذلك السكك الحديدية السريعة بسبب إعادة بعث المركزية وإعادة تحفيز السياسات الصناعية والتكنولوجية" (16).
[caption id="attachment_5718" align="aligncenter" width="750"]
المستقبل بين الصين والولايات المتحدة[/caption]
في الواقع، تواصل الصين الإرتقاء في سلم القيمة، فحصة القيمة المضافة المنتجة على عين المكان في إزدياد مطرد. ففي سنة 2014 أشار جاري جيريفي (Gary Gereffi) وهو واحد من أبرز المختصين في دراسة سلاسل القيمة العالمية وفي إقتسام الإنتاج بين القوميات أن "إزدياد نفوذ المراكز البديلة للقوة الإقتصادية والسياسية" وكذلك "نهاية إتفاق واشنطن" (خصخصة، إلغاء القيود) يمثلان تغيراً نظامياً، ذلك أن "التدعيم الجغرافي والتركز الجديد للقيمة" يغيران التوازنات بين المؤسسات العابرة للقوميات وبعض كبرى الدول الصاعدة: "إن أقطاب النمو الأوفر نشاطاً في الإقتصاد العالمي مكونة من عدد متزايد من القوى الصاعدة التي تجمع بين أسواق وطنية هامة نسبياً وقوى عاملة ماهرة ومنتجين مقتدرين ودفع نحو الإبتكار المحلي" لم تكتفي هذه البلدان بالترقي في سلسلة القيمة ولكنها مرت كذلك من تصنيع قائم على الطلب الخارجي إلى مقاربات تركز على الأسواق الداخلية والإقليمية (17). لقد عمدت الصين منذ بضع سنوات إلى تدويل عملتها المحلية" ("الرنمنبي") بهدف التنويع في مصادر تمويل تجارتها والإستقلال التدريجي عن الدولار (18). إن الصين، بفضل وجود دولة قوية ساعية إلى التطوير، ووريثة تقليد طويل من البناء البيروقراطي، بصدد تحقيق مشروعها التحديثي الذي يفوق عمره المائة عام، وخلافاً لبلدان أخرى أكثر هشاشة تقتصر فيها السلطة العمومية على أداء دور "عامل تكييف الإقتصاد الوطني لمتطلبات الإقتصاد العالمي" (19) عرفت الصين، بنجاح حيناً وبدونه حيناً آخر وعن طريق تكاليف إجتماعية وبيئية باهظة، كيف تدمج هذا الإقتصاد الوطني مع ضمان إستقلاليته. إن هذه التجربة وإن كان من الصعب تكررها، توفر مجالاً هاماً للتفكير في العلاقات بين الدولة والعولمة.
فيليب إس. جلوب
أستاذ بالجامعة الأمريكية بباريس، مؤلف كتاب "إنبعاث شرق أسيا من جديد" بوليسي بريس، كمبريدج، 2016.
الهوامش:
المصدر: مجلة لوموند ديبلوماتيك ملحق الأهرام المصري
لعودتها من جديد على الساحة العالمية أثار سياسية وإستراتيجية عميقة كما تدل على ذلك مطالبتها بالسيادة في جنوب بحر الصين، وقدراتها العسكرية المتنامية، وتكوين ممرات بحرية وبرية عالمية، وكذلك إسهامها في إنشاء مؤسسات تنموية وحوكمة إقتصادية مستقلة مثل البنك الأسيوي العالمي للإستثمار والبنك الجديد للتنمية (1)، يمكن القول إجمالاً إن الصين موجودة في قلب ظاهرة إعادة التوازن إلى الكوكب التي تغير نظام العالم.
[caption id="attachment_5708" align="aligncenter" width="962"] الصين القديمة[/caption]
يطرح هذا التحول مسألة الإستقلالية النسبية للدولة في سياق العولمة، وهو تحول بما له من حجم وآثار، يزعزع واحداً من المصادر الرئيسية التي برزت خلال العقود الأخيرة والتي تقول إن تعديد القوميات بالنسبة إلى التدفقات الإقتصادية مضافة إلى الضغط على عاملي الزمان والمكان الناجم عن الثورة الإتصالية قد تكون قد طمست الدولة وأنتزعت منها سيادتها الفعلية وحرمتها من قدرتها على التدخل، ولقد عرفت هذه الأطروحة عدة تنويعات، فالنسخة الليبرالية تذهب إلى أنه تم المرور من فكرة الدولة الوطنية العصرية ومن نظام العلاقات البينية الذي أرسته معاهدة "واستفاليا" سنة 1648 إلى تشكيل ما بعد العالمية أو ما بعد الحداثة، وهو تشكيل يتميز بتحويل السلطة إلى الفاعلين الخواص وهيئات "للحوكمة الشاملة" (2)، أما في صيغتها ما بعد الماركسية فترى إن إعادة بناء فضاء تجميع رأسمالي عالمي بعد سنة 1991 قد أخضعت الدولة جزئياً أو كلياً – حسب القراءات- إلى منطق رأسمال المستقل الذي تجسده كوكبة من الفاعلين العابرين للقوميات ويذهب بعض المؤلفين الى أن هؤلاء سيشكلون من الآن فصاعداً طبقة حاكمة متعددة القوميات تتقاسم، رغم الإنتماءات الثقافية أو الهويات الوطنية، رؤى للعالم متقاربة ومصالح مشتركة (3)، وكان من شأن هذا أن أدى إما إلى إعادة تشكيل للدولة لتصبح مجرد عامل في عملية تدويل رأس المال، وإما إنشاء هياكل جديدة تحول التبعية لها دون إستقلاليتها.
[caption id="attachment_5715" align="aligncenter" width="1000"]

لكن التجربة الصينية أتخذت منحى آخر، لا ريب في أن عولمة نهاية القرن العشرين قد أحدثت ضغوطاً نظامية مست كل المجتمعات والدول، وقد وجد البعض منها نفسه متجاوزاً، ورأى مساره التنموي رهين تكوين سوق عالمية تم تشكيلها وفق منطق التوسع الرأسمالي المعولم، وقد احتفظت عدة بلدان تنتمي إلى "الجنوب المعولم" بمكانة ثانوية ضمن التوزيع العالمي الجديد للعمل، ولما كانت هذه البلدان مصادر للمواد الأولية (إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بصفة خاصة) أو لليد العاملة (الفلبين، المكسيك، بنجلاديش ....) فقد وجدت نفسها مقتصرة على أداء أنشطة ذات قيمة مضافة ضعيفة مثل صناعات النسيج (كمبوديا، بنغلاديش، الهند ...) أو تركيب المنتجات الكهربائية أو الإلكترونية التي تم تصنيع مركباتها ذات القيمة المضافة العالية في فروع أخرى لسلسلات إنتاج متعددة القوميات.
[caption id="attachment_5709" align="aligncenter" width="730"]

ومع ذلك فإن أثار الإندماج في الإقتصاد الرأسمالي الحديث العهد بالعولمة لم تكن موحدة فتعديد قوميات الإنتاج والتدفقات ولدت جغرافيا تنموية متمايزة شهدت من جرائها بعض الدول أرباحاً مطلقة ونسبية كبيرة، في حين ظلت أخرى أسيرة التخلف أو إنعدام التقدم، ويرجع هذا التفاوت في نصيب كبير منه إلى أن عملية توزيع رأس المال في الفضاء العالمي تتم على يد هيئات سياسية ونظم مؤسسية مختلفة تشكلت عبر التاريخ، وقد زادت العولمة من تبعية وهشاشة البلدان ذات الطاقات الدولية الضعيفة ولكنها ساهمت أيضاً في الإستقلالية العالمية النسبية والقوة المتزايدتين لبعض الدول المطورة التي أستطاعت وعرفت كيفية إستغلال السوق العالمية وتوجيه تدفقات ما بين الأوطان خدمة لأغراض تنموية ذاتية (شأن اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا، وإن كانت هذه الأخيرة بدرجة أقل ولكن بنجاح).
[caption id="attachment_5710" align="aligncenter" width="801"]

وهذا ما حدث في الصين بصفة خاصة، فمسارها التصاعدي الذي أتخذته منذ سنوات 1980 يصبح ذا دلالة أكبر بحكم ما واجهته منذ نهاية سنوات 1980 من أزمة سياسية وإقتصادية وإجتماعية شاملة، لذلك بدأ وقتها من غير المحتمل أن تصبح في ظرف عقود قليلة واحدة من أكبر الإقتصاديات في العالم ومن المستبعد جداً أن تكون في وضع يسمح لها بتعديل وتكييف المحيط العالمي حسب برامجها بدلاً من مجرد التكيف معه، بل كان الإحتمال الأقرب هو أن الصين كانت تتجه، على العكس من ذلك، نحو إنهيار نظامي مماثل لذاك الذي قضى على إتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفيتية في نهاية سنوات 1980 بعد أن سبقته فترة تدهور طويلة في المجال الإقتصادي وأزمة في الشرعية هزتا الحزب والدولة، ومع ذلك، وخلافاً للحزب الشيوعي السوفيتي الذي حاول بتأخير كبير تطوير الإقتصاد والمجتمع، تمكنت الدول الحزبية في الصين من تجنب إنهيار الإقتصاد والدولة من خلال إدارة فعّالة للإنتقال من "الشمولية" إلى "إستبدادية عقلانية" (4)، ومن إقتصاد سيطرة قائم على الإكتفاء الذاتي إلى إقتصاد سوق موجّه منخرط بتدرج في الأسواق الإقليمية فالعالمية.
[caption id="attachment_5713" align="aligncenter" width="805"]

أتبعت قيادة ما بعد "ماو" برنامجاً وطنياً للتحديث، وتعود أصول سعيها إلى إنشاء أمة قوية وإلى تكوين الثروة والقوة إلى حركة "التعزيز الذاتي" التي تمت في نهاية القرن التاسع عشر والتي أطلقتها بعض النخب التي تروم تعصير الصين إنطلاقاً من القمة حتى تتمكن من أحتواء الأمبرياليات الأجنبية، نسجاً على منوال مايجي (Meiji) في اليابان بعد سنة 1968 (5)، بحثاً عن طريق ثالثة بين الرأسمالية الغربية ونظام التخطيط القسري المتبع خلال الفترة "الماوية" وجهت السلطة أنظارها نحو الشرق بدلاً من الغرب، نحو نماذج توجيهية يرجح أن تحدث حركية نمو وأن تخرج من إقتصاد السيطرة مع الحفاظ على الحكم والسلطة بين يدي الدولة، كان التحول إلى الرأسمالية الموجهة متأثراً بتجربة البلدان الرأسمالية المطورة في المنطقة والتي أزدهرت خلال الحرب الباردة وعرفت حركية إقتصادية متصاعدة خارقة، زاردنج سياوبنج (Deng Xiaoping) اليابان وسنغافورة سنة 1978 أعتمد المخططون الصينيون وكيفوا بشكل إنتقائي المقاربات والتجارب اليابانية التي "نظر إليها كثيرون على أنها اقرب إلى الوضع الصيني وأكثر ملائمة له" (6)، من المسار الغربي، إن نجاح نظام التسيير الإداري والتخطيط التأشيري الياباني الذي أستنسخته وتبنته البلدان الحديثة العهد بالتصنيع في شرق أسيا خلال سنوات 1960 و 1980 (كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة) كان قد جعل التشكيل المؤسساتي الياباني مغرياً في نظر صانعي السياسات الذين تكونوا في صلب تقليد دولي طويل (شيوعي وما قبل الشيوعية).
[caption id="attachment_5711" align="aligncenter" width="810"]

تعزز هذا التصور في ذلك العهد من طرف الإقتصاديين والمخططين اليابانيين، فخلال التبادل المكثف بينهم وبين نظرائهم الصينيين خلال سنوات 1980 أصر الصينيون على التمييز بين الدولة الليبرالية الكلاسيكية الجديدة المقيدة القائمة في النمطين الإنجليزي والأمريكي، وبين الدولة المطورة اليابانية التي لا تعتبر "دولة رأسمالية عادية بل كنمط مميز من الإقتصاد السياسي يلعب داخله تسيير الحكومة للأسواق دوراً لابد منه" (7)، لقد شكل هذا التمييز المشغل الرئيسي للأعمال المبتكرة التي وضعها شالمز جنسن (Chalmers Johnson) مطلع سنوات 1980 (8)، فهو يرى كما يرى باحثون آخرون معاصرون له مثل بيتر إيفانس (Peter Evans) وأليس آمسدن (Alice Amsden) أن العقلانية البيروقراطية للدولة الرأسمالية المطورة في أسيا تتميز بجلاء عن النظرية الكلاسيكية الجديدة وتطبيقاتها المؤسسة على فاعلين أفراد يتم إستغلال فاعليتهم إلى الحد الأقصى، كما تتميز عن النظريات والممارسات المتصلبة المنسوبة إلى الأنظمة القيادية الشيوعية.
[caption id="attachment_5714" align="aligncenter" width="1000"]

ولقد وصفت هذه الدولة الأسيوية المطورة بأنها مخطط عقلاني لم تكن يده المرئيه النافذه في السوق تلغي الأسواق ولكنها كانت تضبط الأهداف الكبرى باعثة لذلك أو معززة لقطاعات إستراتيجية من خلال وضع الأطر المؤسساتية وأدوات التدخل الملائمة لمختلف مراحل التصنيع، ويشير عالم الإقتصاد الفرنسي روبار بواياي (Robert Boyer) إلى أن النظام التوجيهي الفرنسي بعد عام 1945 كان يتوفر على خصائص مماثلة، كما يلاحظ أن "الإسهام الأكثر حسماً في الديناميكية الصناعية يعود إلى الدور الحاسم الذي تلعبه الدولة في إعادة إعمار البنية التحتية وتحفيز الإنتاج المكثف عبر التأميم، وفي السيطرة على الإئتمان من خلال القطاع المؤمم مثل بنك فرنسا، وختاماً في بعث نظام تغطية إجتماعية على نطاق لم يسبق له مثيل لأنها تهم المعاشات والصحة والتعليم والإسكان" (9).
[caption id="attachment_5712" align="aligncenter" width="900"]

ترى السلطة الصينية أن تحرير الأسواق وإنشاءها دون فقدان السيطرة السياسية وفتح الإقتصاد على العالم دون فقدان الإستقلالية قصد تجنب نشوء علاقات تبعية خاصة من صنف العلاقات الغير متماثلة بين الشمال والجنوب، كلها قضايا مركزية، ففي المرحلة الإنتقالية الأولى التي أنطلقت من إعلان الإصلاحات (1978) وصولاً إلى أزمة تياننمان وما صاحبها من قمع (1989) أتسمت سياسة الإنفتاح بالتدرج لاسيما مع إنشاء المناطق الإقتصادية التجريبية الخاصة داخل المناطق البحرية التي تعتبر من أكثر المناطق عولمة وذلك سنة 1979 خلال سنوات 1980 أجتذبت هذه المناطق الإقتصادية الخاصة الإستثمار العالمي الأسيوي الخاص بدءاً بأهل الشتات الصيني ثم الياباني مع تنام سريع إنطلاقاً من سنتي 1984 – 1985.
تركز الإستثمار المباشر الوافد من هونج كونج وماكاو وتايوان وسنغافورة في صناعات كثيرة العمالة ضعيفة المحتوى التكنولوجي (النسيج، اللعب ... إلخ) ولكنه شكل بداية حركية نمو محلية آخذة في التكاثف، أما الإستثمارات اليابانية في قطاع الصناعات التحويلية التي كان نصفها مشاريع مشتركة تنتج للأسواق الصينية قدر ما تنتج للأسواق الإقليمية أو أكثر فقد لعبت دوراً مهماً بداية من سنة 1985 ومرت نسبتها من مجموع الإستثمارات اليابانية في شرق أسيا من 4.5% الى 44.7% بعد ذلك بعشر سنوات. ويقول هو فونج منج Ho-Fung Hung أن تدفق الإستثمارات الوافدة من اليابان والنمور الاسيوية في قطاع الصناعات التحويلية الموجهة للتصدير إلى إندماج الصين الجنوبية في النظام الإقتصادي الإقليمي "الذي تتزعمه اليابان" (10).
[caption id="attachment_5719" align="aligncenter" width="683"]

خلال سنوات 1990 حدث تطور كبير، فبعد توقف دام ثلاث سنوات أملته الصراعات السياسية في قمة السلطة التي تبعت أحداث "تياننمن" عملت المجموعة المسيطرة على السلطة حول "دنج" على تسريع وتعميق إعادة الهيكلة الليبرالية الداخلية وتدويل الإقتصاد على المستوى العالمي وليس الإقليمي، وقد تأثر هذا الخيار بالتقلبات المعاصرة التي شهدتها العلاقات الدولية - إنهيار الإتحاد السوفيتي، حرب الخليج لسنة 1990، التأرجح ثم الركود الطويل اللذان عرفهما الإقتصاد الياباني إثر الأزمة المالية – وهي تقلبات دعمت دور الغلبة الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية، مواجهة لهذا الوضع الجديد تمام الجدة كان الخيار حسب "دنج" نفسه هو: "الإنخراط الحازم في البناء الإقتصادي ومواصلة نفس النهج ما لم يكن هناك عدوان أجنبي واسع النطاق، يجب علينا ألا نحول إهتمامنا عن هذه المهمة الأساسية" (11).
تمثلت اللّازمة الجيوسياسية للإندماج في الإقتصاد الرأسمالي العالمي في الحاجة إلى تطور سلمي في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك وقعت الصين عام 1992 مذكرة تفاهم معها إستجابة لمطالبها حول التعريفات الجمركية وبراءات الإختراع وحقوق الملكية الفكرية، وقد أعتبر إنخراط الجمهورية الشعبية في الإقتصاد العالمي من زاوية النظر الأمريكية فتحاً لباب جديد وشاسع للإستثمار، كما يوفر لها في ذات الآن فرصة لرسم مسارها الإقتصادي والسياسي.
[caption id="attachment_5720" align="aligncenter" width="825"]

طرح التشكيل العالمي على الصين معضلة تشترك فيها مع كل دول الجنوب: فكيف السبيل إلى تسلق سلم التنمية من خلال الإندماج في سوق عالمية نظمتها مؤسسات عابرة للقوميات وأملت موادها وأنظمتها المؤسسية دول معروفة تاريخياً بالهيمنة؟
فعلاً، لقد كان الحصول على التكنولوجيا وإمتلاكها واحداً من الحوافز الأساسية على الإنفتاح، وقد صرح دنج سنة 1980 بقوله: "إن التكنولوجيا والعلوم وحتى التصرف السليم في الإنتاج هي أيضاً نوع من العلم، وستكون مفيدة في كل مجتمع وفي أي دولة، نحن نعتزم الحصول على المهارات التكنولوجية والعلمية وحسن التصرف خدمة لإنتاجنا الإشتراكي" (12).
ولكن، وحتى تتمكن من الإنخراط في منظمة التجارة العالمية أخضعت الصين لشروط أشد صرامة من تلك المفروضة على البلدان الأخرى التي طلبت الإنتماء إلى المنظمة، فبينما تركت لليابان وكوريا الجنوبية وتايوان حرية إختيار سياساتها التوجيهية التي تحمي أسواقها الوطنية، بل وزادت الولايات المتحدة الأمريكية فدعمتها في ذلك في سياق الحرب الباردة، فتحت السوق الصينية، طبقاً لشروط، في وجه المستثمرين الأجانب سواء في شكل شركات مشتركة أو في شركات مملوكة بالكامل لمؤسسات أجنبية، فإرتفعت الإستثمارات المباشرة التابعة لمؤسسات أجنبية من 2.2 مليار دولار كمعدل سنوي بين 1984 و 1989 إلى معدل سنوي قدره 30.8 مليار دولار بين عامي 1992 و 2000 ثم إلى 170 مليار دولار بين سنتي 2000 و 2013.
[caption id="attachment_5721" align="aligncenter" width="772"]

خلال سنوات 1990 لم تكن النتائج المسجلة في باب إمتلاك التكنولوجيا وتوزيع القيمة مقنعة، فلقد تبين أن المكاسب النوعية الوطنية ضعيفة نسبياً بسبب تجزئة الإنتاج – تصميم، تزود بالمواد الأولية، إنتاج المكونات، التركيب النهائي، التسويق والبيع بالتفصيل – وإستحواذ الشركات صاحبة حقوق الملكية الفكرية على الجزء الأوفر من القيمة، عند ذاك أرتفع كثير من الأصوات المتشككة لتسجل أن الدولة فشلت في برنامج التحديث، ففي نقده العنيف والدقيق لإختيارات الزعماء الذين تلوا ماو "تسي تونج" ذهب جيانيونج يو (Jianyong Yue) خاصة إلى أن "التفاعل بين "إشتراكية "السوق الصينية والرأسمالية العالمية ولد عملية تعزيز للذات قوية وضعت الصين وحبستها في مسار تنموي يتميز بتصنيع خال من التقدم التكنولوجي" (13).
ما يزال هذا النقاش قائماً في بعض المجالات، ولكننا لاحظنا منذ خمس عشرة سنة توجها تصحيحياً تزامن مع وضع السيدين هو جنتاو (Hu Jintao) ووان جيابا(2002) (2012 – Wen Jiabao) لسياسة صناعية وطنية طموحة ذات برامج مركزية تمتد على سنوات وتشمل عديد القطاعات مع "جهد شامل في التوجيه والتنسيق الكاملين للتحديث الصناعي والتكنولوجي للصين" (14)، وقد أمكن بفضل إنشاء شبكة هامة من مؤسسات البحث والتنمية الترفيع في النسبة بين نفقات البحث والتطوير والناتج المحلي الخام من 0.5% سنة 1995 إلى 1.98% سنة 2012، وهي نسبة مكافئة للمعدلات المسجلة في البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية، لقد أصبحت الصين تحتل المرتبة الرابعة بعد الولايات المتحدة واليابان والإتحاد الأوروبي في عدد براءات الإختراع المودعه، وتشير المؤسسة الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة إلى أنه "لئن كانت الصين لم تقترب بعد من ذلك التكافؤ مع البلدان المنتجة الرئيسية للعلوم في مجال البحث العلمي الأساسي" فإنه لا يمكننا إلا أن نسجل "السرعة غير المسبوقة التي بها أنبثق هذا البلد كفاعل رئيسي" علمياً وتكنولوجياً (15)، في سنة 2012 وفي مقال عنوانه "الدولة تتقدم" عبرت الأسبوعية البريطانية "ذو أكومنست " عن أسفها لأن" إنسحاب الدولة الذي لوحظ خلال سنوات 1990 قد اخذ في التباطؤ، بل ربما أتخذ إتجاهاً معاكساً في بعض القطاعات الرئيسية مثل الطاقة والإتصالات وصناعة السفن وكذلك السكك الحديدية السريعة بسبب إعادة بعث المركزية وإعادة تحفيز السياسات الصناعية والتكنولوجية" (16).
[caption id="attachment_5718" align="aligncenter" width="750"]

في الواقع، تواصل الصين الإرتقاء في سلم القيمة، فحصة القيمة المضافة المنتجة على عين المكان في إزدياد مطرد. ففي سنة 2014 أشار جاري جيريفي (Gary Gereffi) وهو واحد من أبرز المختصين في دراسة سلاسل القيمة العالمية وفي إقتسام الإنتاج بين القوميات أن "إزدياد نفوذ المراكز البديلة للقوة الإقتصادية والسياسية" وكذلك "نهاية إتفاق واشنطن" (خصخصة، إلغاء القيود) يمثلان تغيراً نظامياً، ذلك أن "التدعيم الجغرافي والتركز الجديد للقيمة" يغيران التوازنات بين المؤسسات العابرة للقوميات وبعض كبرى الدول الصاعدة: "إن أقطاب النمو الأوفر نشاطاً في الإقتصاد العالمي مكونة من عدد متزايد من القوى الصاعدة التي تجمع بين أسواق وطنية هامة نسبياً وقوى عاملة ماهرة ومنتجين مقتدرين ودفع نحو الإبتكار المحلي" لم تكتفي هذه البلدان بالترقي في سلسلة القيمة ولكنها مرت كذلك من تصنيع قائم على الطلب الخارجي إلى مقاربات تركز على الأسواق الداخلية والإقليمية (17). لقد عمدت الصين منذ بضع سنوات إلى تدويل عملتها المحلية" ("الرنمنبي") بهدف التنويع في مصادر تمويل تجارتها والإستقلال التدريجي عن الدولار (18). إن الصين، بفضل وجود دولة قوية ساعية إلى التطوير، ووريثة تقليد طويل من البناء البيروقراطي، بصدد تحقيق مشروعها التحديثي الذي يفوق عمره المائة عام، وخلافاً لبلدان أخرى أكثر هشاشة تقتصر فيها السلطة العمومية على أداء دور "عامل تكييف الإقتصاد الوطني لمتطلبات الإقتصاد العالمي" (19) عرفت الصين، بنجاح حيناً وبدونه حيناً آخر وعن طريق تكاليف إجتماعية وبيئية باهظة، كيف تدمج هذا الإقتصاد الوطني مع ضمان إستقلاليته. إن هذه التجربة وإن كان من الصعب تكررها، توفر مجالاً هاماً للتفكير في العلاقات بين الدولة والعولمة.
فيليب إس. جلوب
أستاذ بالجامعة الأمريكية بباريس، مؤلف كتاب "إنبعاث شرق أسيا من جديد" بوليسي بريس، كمبريدج، 2016.
الهوامش:
- أقرأ: الصين تعيد كتابة الضوابط العالمية، لوموند دبلوماتيك، النسخة الإنجليزية، يناير/ كانون الثاني 2016.
- أنظر على سبيل المثال طوماس ريس (Thomas Risse) (تحت إشراف): الحوكمة دون دولة؟ الإستراتيجيات والسياسة في المناطق المحدودة التدخل من طرف الدولة)، مطابع جامعة كولومبيا، نيويورك، 2011.
- أنظر: ساسكيا ساسن (Saskia Sassen): "الفرز الفظ للفائزين والخاسرين: إصدارات معاصرة من التراكم البدائي "، جلوباليزايشن "شئون العولمة"، مج.7، عدد2010، مايكل هاردت (Michael Hardt) وأنطونيو نجري (Antonio Negri): "الإمبراطوريات"، أكزيل، باريس، 2000، جيري هاريس (Jerry Harris) وميليم روبنسن (William Robinson): "نحو طبقة حاكمة عالمية؟ العولمة والطبقة الرأسمالية عابرة للقوميات"، العلم والمجتمع، مج64، عدد1، نيويورك، 2000.
- حسب عبارة بيتر نولان (Peter Nolan): في الصين المتحولة، العولمة والإنتقال والتنمية" أنثرن براس، لندن، 2004.
- فيليب كهن (Philip Kuhn): "أصول الدولة الصينية الحديثة"، أرمان كولان، باريس، 1999.
- سبستيان هيلمان (Sebastian Heilmann) وليا شيه (Lea Shih): "إنبثاق السياسة الصناعية في الصين، 1978 – 2012"، هارفارد، 2013.
- المرجع نفسه.
- شالمرس جنسن (Chalmers Johnson): "وزارة التجارة العالمية والصناعة والمعجزة اليابانية: تطور السياسة الصناعية "، نشر جامعة ستنفورد، 1982.
- روبار بواياي (Robar Boyer): "نعيم وبؤس الصناعة الفرنسية: 1945 – 1955، إذدهار وأزمة نموذج حكومي للنمط الفوردي"، مركز البحث الإقتصادي وتطبيقاته، باريس، 1998.
- هو – فنج منج (Hu-Fung hung) (إشراف): "الصين وتحول الرأسمالية الشاملة" نشر جامعة جونس هوبكنز، بالتيمور، 2009.
- ذكره سويشنج زهاو (Suisheng Zhao): " جولة دنج سياوبنج الجنوبية: سياسة النخبة فيما بعد تياننمان بالصين"، دراسات إستقصائية أسيوية، ج33، عدد 8 بركلي، أغسطس/آب 1993.
- أورده ياشنج هونج (Yasheng Huang): "دور شركات الإستثمار الأجنبية في الإقتصاد الصيني: مقاربة مؤسسية "، ضمن شكسون شان () وشارلز وولف () (إشراف): "الصين والولايات المتحدة والإقتصاد المعولم"، رند كربوريشن، سانتا مونيكا، 2011.
- جيانيوزنج يو (Jianyong Yue): "معضلة التنمية الوطنية في العولمة، السياسات وراء إنضمام الصين إلى المنظمة العالمية للتجارة"، أطروحة دكتوراه، معهد لندن للإقتصاد، 2011.
- هيلمان وشيه (مرجع مذكور أعلاه).
- المؤسسة الوطنية للعلوم: "إنبثاق العلوم والتكنولوجيا في أسيا: مؤشرات مقارنة بين أسيا والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة"، أرلنجتن، أغسطس/آب، 2007.
- "الشركات العمومية: الدولة تتقدم، ذي إيكونوميست، لندن، 19 أكتوبر/تشرين الأول 2012.
- جري جريفي (Gary Gereffi): "سلاسل القيمة العالمية في مرحلة ما بعد إتفاق واشنطن "، مجلة الإقتصاد السياسي العالمي، ج.21، عدد 1، 2014.
- "الصين تعيد صياغة الضوابط العالمية"، مذكور أعلاه.
- جريجوري شين (Gregory Chin): "بين الخارج في الداخل والداخل في الخارج: تدويل الدولة الصينية" ضمن: دافيد زفيق (David zweig) وشان زهيمين (Chen Zhimin) (إشراف): "الإصلاحات الصينية والإقتصاد السياسي الدولي"، روتلادج، نيويورك، 2007.
المصدر: مجلة لوموند ديبلوماتيك ملحق الأهرام المصري