لقد كانت مفاجأة سارة بالنسبة للسيد بول بادون منتج القطن بمنطقة "بوبوت ديولاسو"، ببوركينا فاسو: منذ قرابة عام، أخبره صديق له بأنه ل...
لقد كانت مفاجأة سارة بالنسبة للسيد بول بادون منتج القطن بمنطقة "بوبوت ديولاسو"، ببوركينا فاسو: منذ قرابة عام، أخبره صديق له بأنه لن يكون مطالبا في المستقبل بزراعة" قطن ساتاني بي تي: (Staneé coto, Bt)، الذي تفرضه عليه منذ عدة أعوام الشركة البوركينية لألياف النسيج (سوفيتاكس Sofitex). تعني كلمة "بي تي Bt" وهي مختصر لمصطلح "باسيلوس ثورينجيانسيس" (Bacillus thuringiensis)، بكتريا تقوي قدرة النباتات على مقاومة بعض الحشرات. كان بادون وجمع من أصدقائه يجلسون متراصين على مصطبة تقع في أعالي قرية "كونكوليكان"، الملاصقة للطريق الذي يربط العاصمة واجادوجو، ب" بوب ديولاسو"، لا ينقطع حديثهم انتقادا ورفضا للقطن المحور جينيا (أو المعدل وراثيا)، فهم يعتبرونه باهظ الثمن، كما أجبرهم على الاستدانة، فضلا عن كونه لم يحقق المردود الموعود من قبل "سوفيتاكس". فهذا القطن يتسبب في أمراض للنساء اللائي يجمعنه، ويقتل الحيوانات التي تأكل أوراقه. والقرية، التي تعيش أساسا من زراعة القطن وتربية الماشية، وجدت نفسها في وضع صعب. لكن مستقبلا؟، وفي وقت زال فيه القطن المعدل وراثيا من حقول "بوركينا فاسو"، فإن "كل شيء يسير على ما يرام في كونكحوليكان"، مثلما يردد ذلك بغبطة السيد بادون. وأضاف: "لقد أضحى القطن أكثر ثقلا، واصبحت الماشية في صحة جيدة. نحن لا نريد البتة هذه المنتجات المعدلة وراثيا مطلقا".
فبعد سبع سنوات من تبنيها لقطن "بي تي" المنتج من قبل شركة البذور الأمريكية "مونساتنو" (Monsanto) قررت الشركات الثلاث التي تهيمن على القطاع في بوركينا فاسو، وفي شركات "سوفيتاكس" وشركة "جورما للقطن": سوكوما (Socoma) وشركة "قطن فاسو" (Faso Coton)، في منتصف مايو 2016، مقاطعة هذا المنتج ذي المردود المخيب للآمال وذي الجودة المتدنية. وقد نزلت حصته من الإنتاج الوطني من 70%م إلى لا شيء.

وعبر السيد كومباوري، مدير مشركة "سوكوما" عن استبشاره بالأمر قائلا: "نحن غير نادمين على أي شيء. فحصيلة موسم 2016-2017 و100% منها تقليدية، كانت جيدة جداً، فقد حصد المنتجون البوركينيون 683 الف طن من القطن، مقابل 586 الف طن خلال السنة السابقة، أي بزيادة قدرها 16% عما كانت عليه الكميات عندما كانت نصف البذور تأتي من معامل "مونسانتو" ومن معهد البيئة والبحوث الزراعية ببوركينا فاسو "إينيرا Inera"، كما أرتفع متوسط المردود من 885 كيلوجرام في الهكتار الواحد إلى 922 كيلوجرام (زائد 4%) وذكرت الجمعية المهنية للقطن ببوركينا (AICB)، وهي جهاز يجمع مجمل العاملين في القطاع (1)، أن "جودة الألياف تحسنت بشكل كبير من حيث طولها".
ويعمل 20% من مواطني بوركينا فاسو مباشرة في إنتاج القطن، الذي يسهم بأكثر من 4% من الناتج المحلي الإجمالي، والقطن، الذي ظل لوقت طويل أكبر صادرات هذا البلد الواقع غرب إفريقيا تراجعت مكانته، ليحل محله الذهب منذ بداية سنوات الألفية الثانية، ويضم القطاع 350 ألف نتج و250 ألف منشأة زراعية ذات حجم صغير، ويشير تقرير لوزارة البيئة صادر سنة 2011 (2)، إلى أنه تبين أن "القطن يمثل أداة دفاع ضد الفقر ووسيلة لتحسين ظروف معيشة السكان في الوسط الريفي"، وتمثل النتائج السيئة لفصيلة القطن المعدل وراثياً عامل إضرار بهذا القطاع الحيوي(3).
وإذا ما سلمنا بالرواية الرسمية، فإن تجربة بوركينا فاسو كانت تجربة ناجحة، ومثلت نموذجاً للعالم أجمع، إذ كان المردود إستثنائي وتحسنت صحة المزارعين، كما زاد الإنتاج ... وبعد قرابة السنة من أول حصيلة من القطن "بي تي" سنة 2010، يمكننا أن نطالع في دراسة أنجزها باحثون يتم تمويل أعمالهم بإنتظام من قبل "مونسانتو": "توفر تجربة بوركينا فاسو نموذجاً مميزاً للمسارات والتدابير المطلوبة من أجل إستخدام ناجح لمنتجات البيوتكنولوجيا (4)". ورغم ذلك، كانت المؤشرات سلبية بالكامل، وفي هذا الصدد، كشف أحد الفاعلين الأساسيين في القطاع، ملزم بتعهد ينص على إلتزام السرية أنه "منذ التجارب الأولى، وقف الباحثون البوركينيون على أنه هناك مشكلة"، مضيفاً أن ما كان يقال داخل شركة "مونسانتو"، هو أنه يتعين علينا عدم القلق، مع طمأنة الجميع بأن البذور ستتحسن، غير أنه في سنة 2010، وإزاء ما سجل من صعوبات، صارحت شركات القطن "مونسانتو" بتأكيدها: "نعطيكم مهلة ثلاث سنوات لتسوية المشكلة"، ويتابع المتحدث "لم يتغير أي شيء، حيث إنتهج مسئولو الشركة أسلوب التسويف".
فألياف القطن من نوع "بي تي"، وهي ذات جودة أدنى، ما فتئت تراكم النتائج السيئة، فقبل إستخدام البذور المعدلة جينياً، كانت ألياف القطن الطويلة تمثل 93% من إنتاج بوركينا فاسو مقابل 0.44% بالنسبة للألياف القصيرة، وفي عام 2015، إنعكست هذه النسب لتكون على التوالي في حدود 56.21% (5)، وكانت نتيجة ذلك فقدان قطن بوركينا فاسو لجزء من سمعته التي كانت جيدة سابقاً، ومن ثم تراجع أسعاره.

والآن بعد أن أطلقت الألسن من عقالها، أضحينا نعرف المزيد حول أسباب الفشل، لقد أنجزت شركة "مونسانتو" ومعمل "إينيرا" عمليات التعديل الوراثية بشكل سريع وعشوائي، وفي هذا الخصوص يقول المختص في علم الجينات، جان ديدييه دي زونجو، وهو أحد وجوه المعركة ضد الكائنات المحولة جينياً في بوركينا فاسو: "بصورة طبيعية، يتطلب الأمر ست إلى سبعة عمليات تهجين (وهي عملية تتمثل في مزج عنصر مهجن من أصوله الجينية بهدف الحصول على نتيجة جينية قريبة من جينات الأصل، غير أنهم لم ينجزوا سوى عمليتي تهجين"، كما لايخفي عاملون في معامل "إينيرا"، الأمر، وفي هذا الشأن يقول أحد العاملين في المعمل "كان هناك ضغط بحكم عامل الوقت، وكان القطاع يخسر الأموال، كما كان هناك الناس الذين يريدون نتائج في الحال".
وفي بداية تسعينات القرن الماضي، غزت اليرقات المزارع، وتراجع الإنتاج، وعندها إختار المزارعون المثقلون بالديون الإستعاضة عن القطن بمنتجات أخرى، ويذكر السيد فرانسوا تراوري، الذي أسس إتحاد منتجي القطن، أن "القطاع كان يعيش وضعاً كارثياً، ولم يمن بمقدورنا معرفة ما الذي يتوجب علينا عمله"، عندها جاءت شركة "مونسانتو"، "بحلها السحري": تكنولوجيا الكائنات المحورة جينياً، وفي هذا السياق، يقول السيد جورج ياميجو، الأمين العام للجمعية المهنية للقطن ببوركينا فاسو: "لم يكن لدينا شيء نخسره، وكان علينا أن ننطلق في الأمر سريعاً".
وقد أغلقت الشركة الأمريكية العملاقة مكاتبها في بوبو ديولاسو في سبتمبر 2016، بعد أن كانت إفتتحتها سنة 2009 في كنف السرية، ومن مظاهر فداحة فشل هذه الشركة ببوركينا فاسو، كونها جعلت من هذا البلد الصغير في منطقة الساحل الإفريقي، قاعدة إنطلاقها نحو القارة الإفريقية، ونقرأ في دراسة نشرتها "إينيرا" و "مونسانتو" سنة 2011: "إذا كان النجاح حليف الشركة، فإن ذلك سيفتح الطريق أمام إدخال وتطوير منتجات أخرى محولة جينياً إلى إفريقيا، وبذلك تكون بوركينا فاسو قد برهنت للأخرين على أنه بالإمكان زراعة منتجات معدلة وراثياً (6). غير أن الخيبة التي منيت بها في بوركينا فاسو، أصابت الحماسة في بلدان الإقليم في مقتل، دون أن تلغي تماماً المطامح الإفريقية لأنصار المنتجات المعدلة وراثياً.
وقد ظلت جنوب أفريقيا، التي أنطلقت منذ 1997 في هذا المجال، لسنوات طويلة البلد الإفريقي الوحيد الذي يحتضن الزراعات المحولة جينياً، أما اليوم، فإن 80% من منتجاتها من الذرة و 85% من إنتاجها من فول الصويا، وحوالي 100% من إنتاج القطن، جميعها نتاج بذور محولة جينياً، وكان يتعين إنتظار نهاية السنوات العشر الأولى من الألفية الثانية، كي تنخرط بلدان أخرى في المغامرة، وفي عام 2008، أعلنت مصر إنتاج الذرة المعدلة وراثياً، وفي نفس العام، أوضحت بوركينا فاسو، بعد عدة سنوات من التجارب، أنها ستزرع القطن "بي تي"، وفي سنة 2012، جاء دور السودان كي تفتح الباب أيضاً لزراعة قطن "بي تي"، مصنوع في الصين، ولم تحقق هذه التجارب الثلاث بدورها النتائج المرجوة، ففي عام 2017، لا تزال السودان وحدها تواصل التجربة، رغم شح المعلومات ذات الصلة التي يمكن الحصول عليها.

ورغم كل شيء، فإن "قلعة الرفض بدأت في التداعي"، مثلما صرح بذلك مستبشراً قسم الشراءات الدولية لتطبيقات الزراعات البيوتكنولوجية (Isaaa)، ويعتبر هذا الهيكل الخاص، الذي أنشئ للدعاية للمنتجات المحولة جينياً في القارة الإفريقية، أن "موجة جديدة من القبول بصدد البروز (7)". فقد تمت المصادقة في عديد البلدان على قوانين حول "الأمن البيولوجي" موجهة مبدئياً لتنظيم الإنتاج والتسويق، لكن عدداً من هذه القوانين يجيز الإنتاج، بعد القيام بتجارب على أراضي هذه الدول في أماكن محصورة ثم في حقول مفتوحة، ومن أمثلة ذلك، حالة بوركينا فاسو، رغم تجربتها المخيبة مع القطن، بالنسبة لزراعات الذرة واللوبيا، والكاميرون بالنسبة للقطن، وكذلك غانا (القطن والأرز واللوبيا)، أو كينيا (الذرة والقطن والبطاطا والمانيوك والذرة البيضاء) ومالاوي (القطن واللوبيا)وموزمبيق (القمح) ونيجيريا (المانيوك، اللوبيا، الذرة البيضاء، الأرز، الذرة الصفراء) وأوغندا (الذرة الصفراء والموز والمانيوك والأرز والبطاطا) وأيضاً تنزانيا (القمح).
ويحتل بلدان ناطقة بالإنجليزية، المراتب الأولى في حركة تطوير زراعات النباتات المعدلة وراثياً، وتأتي كينيا في المقام الأول، وهي تعد القاطرة الإقتصادية لشرق إفريقيا، والتي تحتضن المقرات الرئيسية لعدد من المنظمات الداعمة لإستخدام النباتات المحولة جينياً، على غرار هيئة (Isaaa)، فقد نقلت شركة "مونسانتو"، في يناير 2015 مقرها في القارة إلى نيروبي، بعد أن كان في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، ويمكن أن ترخص الحكومة قريباً جداً إنتاج القطن والذرة الصفراء المعدلين وراثياً، أما القوة الإقتصادية الثانية في القارة وراء جنوب إفريقيا، وهي نيجيريا، فإنها تحظى بدورها بدعم الأطراف المسوقة للزراعات المعدلة وراثياً، وهي تعد سوقاً ضخمة، ذلك أنه يتوقع أن تصبح في عام 2050 ثالث بلد في العالم من حيث عدد السكان بما يقدر بنحو 400 مليون نسمة.
وفي عام 2015، رخص البرلمان الوطني النيجيري لأولى الزراعات التجريبية، بعد نقاشات تم فيها طرح تجربة بوركينا فاسو كنموذج، علماً بأن فشل تلك التجربة لم يكن معروفاً آنذاك، وفي خريف 2016، صرحت أكاديمية العلوم النيجيرية بأن الأغذية المحورة جينياً لا تكتسي خطورة عند الإستهلاك.
إلا أن "خصخصة الكائنات الحية"، هي أبعد ما تكون عن حيازة الإجماع في هذين البلدين، ففي مارس 2016، وجهت زهاء 100 منظمة نيجيرية، من بينها نقابات فلاحين وحركات طلابية وجمعيات، عريضة إلى السلطات العمومية إحتجاجاً على مشاريع شركة "مونسانتو"، ويستنكر السيد جبرين إبراهيم، المسئول عن "المركز من أجل الديموقراطية والتنمية"، وأحد الوجوه البارزة للحركة المناهضة للزراعات المحورة جينياً، إستراتيجية شركة البذور الأمريكية والتي قد تكون جعلت من نيجيريا "جسرها" الجديد نحو إفريقيا (8).
وفي نفس الوقت، أطلقت زهاء 300 من المنظمات من إفريقيا الغربية قافلة قادتها خلال 2016 من بوركينا فاسو إلى السنغال مروراً بمالي، ويقول السيد عثمان تياندريبيوجو، أن "الهدف من القافلة، توعية أهم الأطراف المعنية، أي المزارعين، وأيضاً السلطات العمومية، تجاه المخاطر التي تمثلها الزراعات المحورة جينياً، سواء على الإقتصاد الريفي، أو على التنوع البيولوجي"، وقد شارك السيد عثمان، الذي يعد من أعمدة المنظمات المناضلة للمزارعين في بوركينا فاسو، في جلسات "المحكمة الدولية ضد مونسانتو"، التي أقيمت في لاهاي، من قبل إئتلاف جمعيات في أكتوبر 2016، وقد أفضت هذه "المحاكمة المواطنية" إلى إدانة رمزية لشركة البذور الأمريكية.
وعلى كامل أراضي القارة، يشهد النضال ضد الكائنات المحورة جينياً، المزيد من التنظيم، ففي عام 2012 بالكاميرون، وحال إعلان مؤسسة "سوديكوتون" Sodecoton (معادل سوفيتاكس) عن نيتها إنتاج قطن "بي تي"، تم تكوين إئتلاف تحت إسم ينم عن أهدافه: "إحذر الكائنات المحورة جينياً" (Attention OGM)، ومن بين قيادات هذا الإئتلاف، السيد بيرنار نيونجا، الذي يستنكر سلوكيات "السرية" و"غياب الشفافية" التي تحيط بمشروع مؤسسة "سيوديكوتون"، ويقول في هذا الصدد "إننا مقرون العزم على أن نراقب المسار، فنحن لسنا معارضين بشكل قاطع للمنتجات المحورة جينياً لكننا نطلب ببساطة أن يتم إطلاع العموم علماً بكل المعلومات والمعطيات، حتي يتسنى للمواطنين الكاميرونيين إتخاذ القرار عن دراية تامة، غير أنه لا يتم مدّنا بأية معلومات، كما أنهم لم يسلمونا أية بيانات، أما على الأرض، فإن مؤسسة "سوديكوتون" توزع السراب على المزارعين، بالحديث عن مردوديات أعلى، وعن إستخدام أقل للأدوية ...".
ويتعين على المعارضين للمنتجات المعدلة وراثياً، أن يجابهوا آلة حرب قوية، فبالإضافة إلى "مونسانتو" التي تفطنت إلى المقدرات العالية الكامنة في إفريقيا منذ نهايات التسعينات، فإن شركات مثل "باير" Bayer الألمانية (التي هي بصدد شراء شركة "مونسانتو")، والأمريكية "دوبون بيونير" Dupont Pioneer، أو أيضاً الشركة السويسرية "سينجانتا" Singenta(التي أستحوذت على الشركة الصينية شامشاينا Chem China)، قد ألقت أيضاً بثقلها في القارة، وسيكون الأمر وفق عبارة معهد Isaaa، "الحاجز الأخير"، الذي يتعين كسبه، ذلك أن إفريقيا تقع بها نسبة 60% من الأراضي القابلة للزراعة في العالم و3% من المساحات المزروعة فيها مخصصة للزراعات المحورة جينياً (2.6 مليون هكتار، وفق معهد (Isaaa) مقابل 70% مليون هكتار في الولايات المتحدة).
وبالإضافة لمقرها في نيروبي، فتحت شركة "مونسانتو" مكاتب لها في كل من مالاوي ونيجيريا وجنوب إفريقيا وتنزانيا وزامبيا، ومدير عام شركة البذور هذه، هو السيد جيانندرا شوكلا، المولود في الهند، حيث أستحوذت الزراعات المحورة جينياً على سوق القطن، وقد صرح بإرتياح لدى حلوله في يناير 2015 بنيروبي قائلاً "هناك قدرات هائلة في القارة، والسكان الأفارقة سيرتفع عددهم من 1.1 مليار نسمة حالياً إلى 4مليارات نسمة في عام 2100، ويتعين إزاء ذلك، توفير الغذاء اللازم"، وأضاف أن 95% من الأراضي في البلدان الواقعة جنوب الصحراء تظل بمنأى عن الإستغلال الزراعي لأغراض تجارية، مؤكداً أن هدفه هو العمل كما الحال في بلده "مع صغار المزارعين"(9).

ويحدو نفس الطموح شركة "باير"، التي يعد دخولها إلى القارة حديثاً غير أنه قوي، فالشركة الألمانية أفتتحت مكاتب لها في كل من كينيا وجنوب إفريقيا، وهي التي بصدد غزو إفريقيا الغربية وإفريقيا الوسطى، مع فتح فرع إقليمي لها وهو "باير واست أند سنترال أفريكا"، الذي أقام مقره في كوت ديفوار، وفتح مكاتب بكل من غانا ونيجيريا والكاميرون والسنغال ومالي.
وفي المراحل الأولى من مقدمهم، توجهت شركات البذور هذه نحو الأنظمة "القوية" في القارة، على غرار مصر تحت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، والسودان برئاسة عمر البشير، وأوغندا بقيادة يوري موسيفيني، أو أيضاً بوركينا فاسو، تحت حكم بليز كومباوري (الذي تم الإنقلاب عليه في أكتوبر 2014)، كما نجحت هذه الشركات في الإستفادة من هشاشة جنوب إفريقيا، التي كانت وقتها في طور الخروج من حقبة التفرقة العنصرية، عندما إستجابت لإغراءات الزراعات المحورة جينياً، كما أستندت الشركات العملاقة العاملة في تكنولوجيا الزراعات المحورة جينياً على قطاعات هرمية الإدارة، ليس فيها للمزارع سلطة قرار، إذ يكتفي بأخذ البذور والأدوية التي تسلم له، ومثلما هو الحال في الكاميرون، حيث تتم أحياناً مقارنة مزارعي القطن "بالأقنان"، الذين يعيشون في تبعية كلية لشركات القطن.
ومن أجل التغلب على مظاهر الرفض، رفعت شركات صناعة البذور هدفين/شعارين، لا يمكن ظاهرياً التشكيك فيهما، أولهما مكافحة الجوع في ظل وضع ديموغرافي قوي، وثانيهما الحد من إستخدام الأسمدة المضادة للحشرات، وهي كارثة تهدد القارة، لكن مثلما يلفت إلى ذلك السيد جان بول سيلكي، السكرتير التنفيذي للإئتلاف من أجل حماية الموروث الجيني الإفريقي (كابيجان)، فإن "الزراعات المحورة جينياً لم يتم وضعها من أجل مكافحة إنعدام الأمن الغذائي في العالم، بل على العكس من ذلك من أجل خدمة المصالح التجارية الربحية للشركات الكبرى العاملة في مجالات البيوتكنولوجيا والزراعة"، وبشكل عملي، فإن معظم النباتات المحورة جينياً المزروعة في إفريقيا (القطن والذرة الصفراء بالخصوص) غير موجهة لتغذية السكان، أما فيما يتعلق بتعويض المنتجات الكيميائية، فإن مركز التعاون الدولي في مجال البحوث الزراعية من أجل التنمية (سيراد)، يذكر بأنه توجد حلول أخرى عوضاً عن اللجوء إلى المنتجات المعدلة وراثياً، مثلما تشهد على ذلك التجارب المطبقة في توجو.
وبغية "كسب القلوب والعقول"، وقفت شركات البذور وراء ظهور عدد كبير من الجمعيات والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي تناصر قضية البيوتكنولوجيا، ومن بين هذه المنظمات والمؤسسات "أفريكا هارفست" و ""أفريكان بايوسايفتي ناتوورك للخبرة"، وهي جهاز تم إطلاقة في نطاق الشراكة الإقتصادية الجديدة (10)، و"أفريكابيو" ومؤسسة التكنولوجيات الزراعية الإفريقية أو مؤسسة "ISAAA"، وتنظم هذه الأخيرة بالخصوص رحلات للمزارعين وأصحاب القرار عبر بلدان القارة وحتى خارجها من أجل إقناعهم، ويشير السيد كريستوف نوازيت، مدير الموقع الإلكتروني "آنفوجي آم" إلى أن "هذه الشركات تتسم بقدرات هائلة أكبر بكثير من قدرات المؤسسات ذاتها، لأنها تقدم نفسها على أنها هيئات طوعية"، وهذه الهياكل ممولة من قبل شركات البذور، وفي مقدمتها شركة "مونسانيتو"، تجد كذلك الدعم من مؤسسات كبرى، على غرار مؤسسة "بيل وماليندا جايتس" ومؤسسة "روكفلر"، وكذلك من قبل الدبلوماسية الأمريكية، عبر الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي.

وتقود مؤسسة التكنولوجيا الزراعية الإفريقية (AATF) الجهود التي تشنها شركات البذور، فهذه المؤسسة، التي يوجد مقرها الرئيسي بكينيا، تناضل لدى السلطات العامة الإفريقية، كي تعتمد القوانين المتصلة بالأمن البيولوجي، الضرورية للنهوض بالزراعات المعدلة وراثياً، كما أنها تنسج روابط بين الشركات الكبرى ومختلف البرامج التي تقدم على أنها برامج إنسانية على غرار "لوبيا بي تي"، وبرنامج "الذرة الصفراء المقتصدة للمياه من أجل إفريقيا" (ويما)، ويهدف البرنامج الأول إلى تجربة ثم (قريباً) ترويج بذور لوبيا محورة جينياً قادرة على الصمود إزاء حشرة شديدة التدمير، وذلك في ثلاثة بلدان، هي بوركينا فاسو وغانا ونيجيريا، وهذا النوع من الفاصولياء، الذي يعد من المصادر المهمة للبروتينات، يحوز الإعجاب الكبير لدى المستهلكين في غرب إفريقيا، خاصة في فترة نهاية الموسم، أما البرنامج الثاني، والذي يجري تنفيذه في كل من كينيا وتنزانيا وجنوب إفريقيا وموزمبيق وأوغندا، فإنه يشمل إحداث علامات جينية أو تحويرات جينية، لإنتقاء نوعيات جديدة من الذرة الصفراء المقاومة للجفاف، وهذا المشروع، الذي ينظر إليه على أنه بمثابة كابوس، تتم مقارنته غالباً "بالأرز المذهب" الذي أطلق في التسعينات وسط حملة إعلامية ضخمة، وإنتهى إلى فشل ذريع (11)، ولكن هذا المشروع، يمكنه، في حالة نجاحه أن "يقنع الجميع" وفق السيد نوازيت.
وهذه البرامج التي ترفع لافتة مكافحة الجوع والفقر، تندمج وتنخرط ضمن قائمة المبادرات "الإنسانية"، وفي هذا السياق، وفي نطاق مد تضامني نادر، قامت شركة "مونسانتو" بكل سخاء، بإهداء هذه التكنولوجيا إلى المؤسسة الإفريقية للزراعة التكنولوجية وإلى البلدان المشاركة في التجربة، وأفاد السيد دولاي تراوري في العام الماضي، وكان وقتها يشغل منصب ممثل المؤسسة الأمريكية في غرب إفريقيا، الأمر بقوله "نحن نوفر الأدوات والجينات، دون الحصول على هدايا أو مقابل، ومعاهد البحث الوطنية، على غرار "إينيرا"، هي التي تقوم بالتجارب". لكن، وحسب السيد نوازيت "فإن ذلك هدفه الأساسي صنع خبراء مهادنين مواليين تدربهم هذه الشركات لنجدهم لاحقاً داخل الوكالات الوطنية للأمن البيولوجي".
ويقر بذلك أحد القيادات السابقة في منطقة غرب إفريقيا في شركة "مونسانتو"، حيث يصرح، دون الإفصاح عن هويته، بقوله "هذه المنتجات ليس لها أية أهمية إقتصادية بالنسبة للمؤسسات، فنبتة اللوبيا لا تمثل شيئاً يذكر على مستوى نشاط شركة مونسانتو، لكن ذلك يتيح لها بالخصوص تلميع صورتها لدى أصحاب القرار، الذين يتسمون غالباً بعدم إيلاء إهتمام كبير لهذا النوع من الزراعات المحلية، ويجنحون بالمقابل بإتجاه دعم القوانين التي تفتح الأبواب أمام الزراعات المحورة جينياً، وأيضاً خلق علاقات وروابط مع الباحثين".
وتبرهن دراسة قام بها قبل الباحثين الكنديين ماتيو شنور وكريستوفير جور، على أن عرض (شركات البذور والمنظمات المناصرة للزراعات المعدله جينياً) قد سبق في أوغندا الطلب (طلب الدولة والمزارعين). وكتب الباحثان (12): "ينظر إلى الإستثمار في العلوم والبحوث على إعتباره عنصراً محورياً لإقناع الحكومات المترددة"، ومن أجل كسب الأسواق الإفريقية، أدركت الشركات العاملة في صناعة البذور مبكراً أن العلماء الذين تقتضي أبحاثهم توفير إعتمادات كبيرة من العسير تجميعها، يمثلون حلقة ضعيفة، ففي الكاميرون، حيث تجري مؤسسة "سوديكوتون" منذ خمس سنوات تجارب على قطن محور جينياً "تقوم شركة "باير" بتمويل الأبحاث بشكل كامل"، حسب ما أفاد به مصدر من داخل شركة القطن هذه.
ورغم التحذيرات، فإن بعض البلدان تعتزم التحول نحو القطن "بي تي"، على غرار كوت ديفوار، البلد الجار لبوركينا فاسو، ففي يوليو 2016، صادق برلمان كوت ديفوار بالإجماع على قانون حول الأمن البيولوجي. وفي هذا الصدد، صرح السيد سيلوي كاسوم، المدير العام لفيدرالية منتجي القطن بقوله "ما يهمنا نحن هو الحد من الصعوبات والمتاعب، في الإنتاج، فذاك من شأنه أن يغير كل شيء إذ سنقتصر على علاجين إثنين بدلاً من ستة أو سبعة".
وحتى بوركينا فاسو لم يتم فيها إغلاق ملف المنتجات المعدلة جينياً. وفي هذا الخصوص، يقول السيد ويلفريد يام يوجو، مدير عام مؤسسة "سوفيتاكس" محذراً: "صحيح أننا أوقفنا التعاون مع شركة مونسانتو في مجال القطن المحور جينياً، غير أننا لم نفقد الأمل في العودة إلى الزراعات البيوتكنولوجية".

وفي هذا السياق، شرع الفاعلون في القطاع في نقاشات مع شركة "باير"، وفي إنتظار ذلك، تواصل مؤسسة "إينيرا"، التي حصلت على 220 مليون فرنك إفريقي (340 ألف يورو) من شركة "مونسانتو" سنة 2015، تجاربها على القطن وكذلك الذرة الصفراء واللوبيا، وضمن الإتجاه ذاته، وبإصرار كبير، يمضي السيد سير باييم ويدراوجو، رئيس شبكة الإتصاليين بغرب إفريقيا في البيوتكنولوجيات ببوركينا فاسو (روكواد) في معركته، فكل 15يوماً، يدافع السيد ويدراوجو في مجلة علمية – وهذا نادر في أفريقيا – (أنفوساينس كالتشار)، التي يديرها، والتي صدرت سنة 2015، عن فلسفة فحواها "إن ما يتعين علينا مكافحته، هو ليس الزراعات المحورة جينياً، وإنما الإنزلاقات الناجمة عنها"، ويضيف في تحقيق صحفي نشر بتاريخ 6 أغسطس 2017 وأنجز في الوسط الريفي بتقديم بيوجرافيا "مزارعين شجعان يتطلع أغلبهم إلى تجديد العهد في مستقبل قريب مع قطن محور جينياً ذي جودة عالية، من أجل رفع معدلات إنتاجهم، وتحقيق أرباح أكبر، مع الحفاظ على صحتهم".
وبالنسبة للوبي المناصر للمنتجات المحورة جينياً، فإن الفشل الحاصل في بوركينا فاسو يعتبر مجرد حادث عرضي سببه تسرع شركة "مونسانتو". ورغم ذلك، تكشف دراسة تمت لدى 203 منتج في ثلاث جهات غرب البلاد من قبل مؤسسة "كوباجان"، حجم الخسائر: لقد أدى إستخدام البلاد بذور "بي تي" إلى زيادة في كلفة الإنتاج بنسبة 7% للمزارعين، في حين تراجعت المردودية بحوالي 7% (13)، وتؤكد مؤسسة "كوباجان" أنه من بين الوعود العديدة التي أطلقتها "مونسانتو"، تم فقط إحترام الوعد المرتبط بالحد من عدد المعالجات بالمبيدات الحشرية، وتستنكر المؤسسة أيضاً "الخلل في متابعة تسلسل المنتج": قرابة أربعة منتجين من بين عشرة يقولون بأنهم يخلطون القطن "بي تي" والقطن التقليدي عند الشراء أو في نهاية موسم الحصاد، وبشكل من الصعب تصديقه، سجلت الدراسة أنه بعد ثمانية سنوات من إدخاله "لايعرف معظم المنتجين ماذا يعني المنتج المحور جينياً، ويعتبرون ببساطة أن القطن بي تي مجرد تفريعة لبذور محسنة".
وبصورة واقعية، وبالرغم من كونهم الأكثر عرضة للمحاذير القائمة، فإن المزارعين في مجمل القارة يظلون الغائب الأكبر عن النقاشات المتصلة بالموضوع، فبحكم تدني درجة تعليمهم، فإنهم لا يملكون الأدوات الضرورية، لفرض وجهة نظرهم، ويشير الباحثان شنور وجور، إلى أن القرارات في المرحلة الأولى لإعتماد النباتات المحورة جينياً، يتم إتخاذها من قبل لجان محدودة العدد، بمنأى عن الأنظار، من قبل الممولين من القطاعين الخاص والعام وسلطات الرقابة والسلطات العلمية.
ويرى السيد سيكيلي، أن الخطر يكمن هنا بالذات، ذلك أن النباتات المعدلة جينياً يمكن أن تحدث تحولاً على صعيد الزراعة الإفريقية، تحول يكون على حساب الفلاحين، يقول في هذا الصدد "في إفريقيا يقوم المزارعون عموماً بزراعة قطع أراض صغيرة، عبر المزج بين زراعات متعددة، مع إدماج تربية الماشية في الفلاحة، وهو أمر مفيد جداً بالنسبة للبيئة والتنوع البيولوجي والتربة، أما زراعة النباتات المحورة جينياً، فهي تؤدي إلى إنتهاج مسلك معاكس تماماً، لأنها تترافق مع تعميم زراعة صنف واحد من المنتجات على مساحات أرض شاسعة"، ووفق المتحدث، فإن هذه الظاهرة تنطوى على خطر التسبب في بروز "مزارعين دون أرض"، أو جعل هؤلاء المزارعين مجرد عَملة فلاحيين، وهذا بالضبط ما لم يتردد أحد قيادات مؤسسة "سوفيتاكس" في الإفصاح عنه في أحد أيام يناير 2006 مخاطباً عدداً من مزارعي القطن بقوله "سيأتي أناس من ذوي القدرة والعزم، وسيتولون زرع آلاف الهكتارات، وستصبحون عَملة فلاحيين".
ريمي كاريالو Rémi Carayol
صحفي
الهوامش:
المصدر: مجلة لوموند ديبلوماتيك ملحق الأهرام المصري
فبعد سبع سنوات من تبنيها لقطن "بي تي" المنتج من قبل شركة البذور الأمريكية "مونساتنو" (Monsanto) قررت الشركات الثلاث التي تهيمن على القطاع في بوركينا فاسو، وفي شركات "سوفيتاكس" وشركة "جورما للقطن": سوكوما (Socoma) وشركة "قطن فاسو" (Faso Coton)، في منتصف مايو 2016، مقاطعة هذا المنتج ذي المردود المخيب للآمال وذي الجودة المتدنية. وقد نزلت حصته من الإنتاج الوطني من 70%م إلى لا شيء.

وعبر السيد كومباوري، مدير مشركة "سوكوما" عن استبشاره بالأمر قائلا: "نحن غير نادمين على أي شيء. فحصيلة موسم 2016-2017 و100% منها تقليدية، كانت جيدة جداً، فقد حصد المنتجون البوركينيون 683 الف طن من القطن، مقابل 586 الف طن خلال السنة السابقة، أي بزيادة قدرها 16% عما كانت عليه الكميات عندما كانت نصف البذور تأتي من معامل "مونسانتو" ومن معهد البيئة والبحوث الزراعية ببوركينا فاسو "إينيرا Inera"، كما أرتفع متوسط المردود من 885 كيلوجرام في الهكتار الواحد إلى 922 كيلوجرام (زائد 4%) وذكرت الجمعية المهنية للقطن ببوركينا (AICB)، وهي جهاز يجمع مجمل العاملين في القطاع (1)، أن "جودة الألياف تحسنت بشكل كبير من حيث طولها".
ويعمل 20% من مواطني بوركينا فاسو مباشرة في إنتاج القطن، الذي يسهم بأكثر من 4% من الناتج المحلي الإجمالي، والقطن، الذي ظل لوقت طويل أكبر صادرات هذا البلد الواقع غرب إفريقيا تراجعت مكانته، ليحل محله الذهب منذ بداية سنوات الألفية الثانية، ويضم القطاع 350 ألف نتج و250 ألف منشأة زراعية ذات حجم صغير، ويشير تقرير لوزارة البيئة صادر سنة 2011 (2)، إلى أنه تبين أن "القطن يمثل أداة دفاع ضد الفقر ووسيلة لتحسين ظروف معيشة السكان في الوسط الريفي"، وتمثل النتائج السيئة لفصيلة القطن المعدل وراثياً عامل إضرار بهذا القطاع الحيوي(3).
وإذا ما سلمنا بالرواية الرسمية، فإن تجربة بوركينا فاسو كانت تجربة ناجحة، ومثلت نموذجاً للعالم أجمع، إذ كان المردود إستثنائي وتحسنت صحة المزارعين، كما زاد الإنتاج ... وبعد قرابة السنة من أول حصيلة من القطن "بي تي" سنة 2010، يمكننا أن نطالع في دراسة أنجزها باحثون يتم تمويل أعمالهم بإنتظام من قبل "مونسانتو": "توفر تجربة بوركينا فاسو نموذجاً مميزاً للمسارات والتدابير المطلوبة من أجل إستخدام ناجح لمنتجات البيوتكنولوجيا (4)". ورغم ذلك، كانت المؤشرات سلبية بالكامل، وفي هذا الصدد، كشف أحد الفاعلين الأساسيين في القطاع، ملزم بتعهد ينص على إلتزام السرية أنه "منذ التجارب الأولى، وقف الباحثون البوركينيون على أنه هناك مشكلة"، مضيفاً أن ما كان يقال داخل شركة "مونسانتو"، هو أنه يتعين علينا عدم القلق، مع طمأنة الجميع بأن البذور ستتحسن، غير أنه في سنة 2010، وإزاء ما سجل من صعوبات، صارحت شركات القطن "مونسانتو" بتأكيدها: "نعطيكم مهلة ثلاث سنوات لتسوية المشكلة"، ويتابع المتحدث "لم يتغير أي شيء، حيث إنتهج مسئولو الشركة أسلوب التسويف".
فألياف القطن من نوع "بي تي"، وهي ذات جودة أدنى، ما فتئت تراكم النتائج السيئة، فقبل إستخدام البذور المعدلة جينياً، كانت ألياف القطن الطويلة تمثل 93% من إنتاج بوركينا فاسو مقابل 0.44% بالنسبة للألياف القصيرة، وفي عام 2015، إنعكست هذه النسب لتكون على التوالي في حدود 56.21% (5)، وكانت نتيجة ذلك فقدان قطن بوركينا فاسو لجزء من سمعته التي كانت جيدة سابقاً، ومن ثم تراجع أسعاره.

والآن بعد أن أطلقت الألسن من عقالها، أضحينا نعرف المزيد حول أسباب الفشل، لقد أنجزت شركة "مونسانتو" ومعمل "إينيرا" عمليات التعديل الوراثية بشكل سريع وعشوائي، وفي هذا الخصوص يقول المختص في علم الجينات، جان ديدييه دي زونجو، وهو أحد وجوه المعركة ضد الكائنات المحولة جينياً في بوركينا فاسو: "بصورة طبيعية، يتطلب الأمر ست إلى سبعة عمليات تهجين (وهي عملية تتمثل في مزج عنصر مهجن من أصوله الجينية بهدف الحصول على نتيجة جينية قريبة من جينات الأصل، غير أنهم لم ينجزوا سوى عمليتي تهجين"، كما لايخفي عاملون في معامل "إينيرا"، الأمر، وفي هذا الشأن يقول أحد العاملين في المعمل "كان هناك ضغط بحكم عامل الوقت، وكان القطاع يخسر الأموال، كما كان هناك الناس الذين يريدون نتائج في الحال".
وفي بداية تسعينات القرن الماضي، غزت اليرقات المزارع، وتراجع الإنتاج، وعندها إختار المزارعون المثقلون بالديون الإستعاضة عن القطن بمنتجات أخرى، ويذكر السيد فرانسوا تراوري، الذي أسس إتحاد منتجي القطن، أن "القطاع كان يعيش وضعاً كارثياً، ولم يمن بمقدورنا معرفة ما الذي يتوجب علينا عمله"، عندها جاءت شركة "مونسانتو"، "بحلها السحري": تكنولوجيا الكائنات المحورة جينياً، وفي هذا السياق، يقول السيد جورج ياميجو، الأمين العام للجمعية المهنية للقطن ببوركينا فاسو: "لم يكن لدينا شيء نخسره، وكان علينا أن ننطلق في الأمر سريعاً".
وقد أغلقت الشركة الأمريكية العملاقة مكاتبها في بوبو ديولاسو في سبتمبر 2016، بعد أن كانت إفتتحتها سنة 2009 في كنف السرية، ومن مظاهر فداحة فشل هذه الشركة ببوركينا فاسو، كونها جعلت من هذا البلد الصغير في منطقة الساحل الإفريقي، قاعدة إنطلاقها نحو القارة الإفريقية، ونقرأ في دراسة نشرتها "إينيرا" و "مونسانتو" سنة 2011: "إذا كان النجاح حليف الشركة، فإن ذلك سيفتح الطريق أمام إدخال وتطوير منتجات أخرى محولة جينياً إلى إفريقيا، وبذلك تكون بوركينا فاسو قد برهنت للأخرين على أنه بالإمكان زراعة منتجات معدلة وراثياً (6). غير أن الخيبة التي منيت بها في بوركينا فاسو، أصابت الحماسة في بلدان الإقليم في مقتل، دون أن تلغي تماماً المطامح الإفريقية لأنصار المنتجات المعدلة وراثياً.
وقد ظلت جنوب أفريقيا، التي أنطلقت منذ 1997 في هذا المجال، لسنوات طويلة البلد الإفريقي الوحيد الذي يحتضن الزراعات المحولة جينياً، أما اليوم، فإن 80% من منتجاتها من الذرة و 85% من إنتاجها من فول الصويا، وحوالي 100% من إنتاج القطن، جميعها نتاج بذور محولة جينياً، وكان يتعين إنتظار نهاية السنوات العشر الأولى من الألفية الثانية، كي تنخرط بلدان أخرى في المغامرة، وفي عام 2008، أعلنت مصر إنتاج الذرة المعدلة وراثياً، وفي نفس العام، أوضحت بوركينا فاسو، بعد عدة سنوات من التجارب، أنها ستزرع القطن "بي تي"، وفي سنة 2012، جاء دور السودان كي تفتح الباب أيضاً لزراعة قطن "بي تي"، مصنوع في الصين، ولم تحقق هذه التجارب الثلاث بدورها النتائج المرجوة، ففي عام 2017، لا تزال السودان وحدها تواصل التجربة، رغم شح المعلومات ذات الصلة التي يمكن الحصول عليها.

ورغم كل شيء، فإن "قلعة الرفض بدأت في التداعي"، مثلما صرح بذلك مستبشراً قسم الشراءات الدولية لتطبيقات الزراعات البيوتكنولوجية (Isaaa)، ويعتبر هذا الهيكل الخاص، الذي أنشئ للدعاية للمنتجات المحولة جينياً في القارة الإفريقية، أن "موجة جديدة من القبول بصدد البروز (7)". فقد تمت المصادقة في عديد البلدان على قوانين حول "الأمن البيولوجي" موجهة مبدئياً لتنظيم الإنتاج والتسويق، لكن عدداً من هذه القوانين يجيز الإنتاج، بعد القيام بتجارب على أراضي هذه الدول في أماكن محصورة ثم في حقول مفتوحة، ومن أمثلة ذلك، حالة بوركينا فاسو، رغم تجربتها المخيبة مع القطن، بالنسبة لزراعات الذرة واللوبيا، والكاميرون بالنسبة للقطن، وكذلك غانا (القطن والأرز واللوبيا)، أو كينيا (الذرة والقطن والبطاطا والمانيوك والذرة البيضاء) ومالاوي (القطن واللوبيا)وموزمبيق (القمح) ونيجيريا (المانيوك، اللوبيا، الذرة البيضاء، الأرز، الذرة الصفراء) وأوغندا (الذرة الصفراء والموز والمانيوك والأرز والبطاطا) وأيضاً تنزانيا (القمح).
ويحتل بلدان ناطقة بالإنجليزية، المراتب الأولى في حركة تطوير زراعات النباتات المعدلة وراثياً، وتأتي كينيا في المقام الأول، وهي تعد القاطرة الإقتصادية لشرق إفريقيا، والتي تحتضن المقرات الرئيسية لعدد من المنظمات الداعمة لإستخدام النباتات المحولة جينياً، على غرار هيئة (Isaaa)، فقد نقلت شركة "مونسانتو"، في يناير 2015 مقرها في القارة إلى نيروبي، بعد أن كان في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، ويمكن أن ترخص الحكومة قريباً جداً إنتاج القطن والذرة الصفراء المعدلين وراثياً، أما القوة الإقتصادية الثانية في القارة وراء جنوب إفريقيا، وهي نيجيريا، فإنها تحظى بدورها بدعم الأطراف المسوقة للزراعات المعدلة وراثياً، وهي تعد سوقاً ضخمة، ذلك أنه يتوقع أن تصبح في عام 2050 ثالث بلد في العالم من حيث عدد السكان بما يقدر بنحو 400 مليون نسمة.
وفي عام 2015، رخص البرلمان الوطني النيجيري لأولى الزراعات التجريبية، بعد نقاشات تم فيها طرح تجربة بوركينا فاسو كنموذج، علماً بأن فشل تلك التجربة لم يكن معروفاً آنذاك، وفي خريف 2016، صرحت أكاديمية العلوم النيجيرية بأن الأغذية المحورة جينياً لا تكتسي خطورة عند الإستهلاك.
إلا أن "خصخصة الكائنات الحية"، هي أبعد ما تكون عن حيازة الإجماع في هذين البلدين، ففي مارس 2016، وجهت زهاء 100 منظمة نيجيرية، من بينها نقابات فلاحين وحركات طلابية وجمعيات، عريضة إلى السلطات العمومية إحتجاجاً على مشاريع شركة "مونسانتو"، ويستنكر السيد جبرين إبراهيم، المسئول عن "المركز من أجل الديموقراطية والتنمية"، وأحد الوجوه البارزة للحركة المناهضة للزراعات المحورة جينياً، إستراتيجية شركة البذور الأمريكية والتي قد تكون جعلت من نيجيريا "جسرها" الجديد نحو إفريقيا (8).
وفي نفس الوقت، أطلقت زهاء 300 من المنظمات من إفريقيا الغربية قافلة قادتها خلال 2016 من بوركينا فاسو إلى السنغال مروراً بمالي، ويقول السيد عثمان تياندريبيوجو، أن "الهدف من القافلة، توعية أهم الأطراف المعنية، أي المزارعين، وأيضاً السلطات العمومية، تجاه المخاطر التي تمثلها الزراعات المحورة جينياً، سواء على الإقتصاد الريفي، أو على التنوع البيولوجي"، وقد شارك السيد عثمان، الذي يعد من أعمدة المنظمات المناضلة للمزارعين في بوركينا فاسو، في جلسات "المحكمة الدولية ضد مونسانتو"، التي أقيمت في لاهاي، من قبل إئتلاف جمعيات في أكتوبر 2016، وقد أفضت هذه "المحاكمة المواطنية" إلى إدانة رمزية لشركة البذور الأمريكية.
وعلى كامل أراضي القارة، يشهد النضال ضد الكائنات المحورة جينياً، المزيد من التنظيم، ففي عام 2012 بالكاميرون، وحال إعلان مؤسسة "سوديكوتون" Sodecoton (معادل سوفيتاكس) عن نيتها إنتاج قطن "بي تي"، تم تكوين إئتلاف تحت إسم ينم عن أهدافه: "إحذر الكائنات المحورة جينياً" (Attention OGM)، ومن بين قيادات هذا الإئتلاف، السيد بيرنار نيونجا، الذي يستنكر سلوكيات "السرية" و"غياب الشفافية" التي تحيط بمشروع مؤسسة "سيوديكوتون"، ويقول في هذا الصدد "إننا مقرون العزم على أن نراقب المسار، فنحن لسنا معارضين بشكل قاطع للمنتجات المحورة جينياً لكننا نطلب ببساطة أن يتم إطلاع العموم علماً بكل المعلومات والمعطيات، حتي يتسنى للمواطنين الكاميرونيين إتخاذ القرار عن دراية تامة، غير أنه لا يتم مدّنا بأية معلومات، كما أنهم لم يسلمونا أية بيانات، أما على الأرض، فإن مؤسسة "سوديكوتون" توزع السراب على المزارعين، بالحديث عن مردوديات أعلى، وعن إستخدام أقل للأدوية ...".
ويتعين على المعارضين للمنتجات المعدلة وراثياً، أن يجابهوا آلة حرب قوية، فبالإضافة إلى "مونسانتو" التي تفطنت إلى المقدرات العالية الكامنة في إفريقيا منذ نهايات التسعينات، فإن شركات مثل "باير" Bayer الألمانية (التي هي بصدد شراء شركة "مونسانتو")، والأمريكية "دوبون بيونير" Dupont Pioneer، أو أيضاً الشركة السويسرية "سينجانتا" Singenta(التي أستحوذت على الشركة الصينية شامشاينا Chem China)، قد ألقت أيضاً بثقلها في القارة، وسيكون الأمر وفق عبارة معهد Isaaa، "الحاجز الأخير"، الذي يتعين كسبه، ذلك أن إفريقيا تقع بها نسبة 60% من الأراضي القابلة للزراعة في العالم و3% من المساحات المزروعة فيها مخصصة للزراعات المحورة جينياً (2.6 مليون هكتار، وفق معهد (Isaaa) مقابل 70% مليون هكتار في الولايات المتحدة).
وبالإضافة لمقرها في نيروبي، فتحت شركة "مونسانتو" مكاتب لها في كل من مالاوي ونيجيريا وجنوب إفريقيا وتنزانيا وزامبيا، ومدير عام شركة البذور هذه، هو السيد جيانندرا شوكلا، المولود في الهند، حيث أستحوذت الزراعات المحورة جينياً على سوق القطن، وقد صرح بإرتياح لدى حلوله في يناير 2015 بنيروبي قائلاً "هناك قدرات هائلة في القارة، والسكان الأفارقة سيرتفع عددهم من 1.1 مليار نسمة حالياً إلى 4مليارات نسمة في عام 2100، ويتعين إزاء ذلك، توفير الغذاء اللازم"، وأضاف أن 95% من الأراضي في البلدان الواقعة جنوب الصحراء تظل بمنأى عن الإستغلال الزراعي لأغراض تجارية، مؤكداً أن هدفه هو العمل كما الحال في بلده "مع صغار المزارعين"(9).

ويحدو نفس الطموح شركة "باير"، التي يعد دخولها إلى القارة حديثاً غير أنه قوي، فالشركة الألمانية أفتتحت مكاتب لها في كل من كينيا وجنوب إفريقيا، وهي التي بصدد غزو إفريقيا الغربية وإفريقيا الوسطى، مع فتح فرع إقليمي لها وهو "باير واست أند سنترال أفريكا"، الذي أقام مقره في كوت ديفوار، وفتح مكاتب بكل من غانا ونيجيريا والكاميرون والسنغال ومالي.
وفي المراحل الأولى من مقدمهم، توجهت شركات البذور هذه نحو الأنظمة "القوية" في القارة، على غرار مصر تحت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، والسودان برئاسة عمر البشير، وأوغندا بقيادة يوري موسيفيني، أو أيضاً بوركينا فاسو، تحت حكم بليز كومباوري (الذي تم الإنقلاب عليه في أكتوبر 2014)، كما نجحت هذه الشركات في الإستفادة من هشاشة جنوب إفريقيا، التي كانت وقتها في طور الخروج من حقبة التفرقة العنصرية، عندما إستجابت لإغراءات الزراعات المحورة جينياً، كما أستندت الشركات العملاقة العاملة في تكنولوجيا الزراعات المحورة جينياً على قطاعات هرمية الإدارة، ليس فيها للمزارع سلطة قرار، إذ يكتفي بأخذ البذور والأدوية التي تسلم له، ومثلما هو الحال في الكاميرون، حيث تتم أحياناً مقارنة مزارعي القطن "بالأقنان"، الذين يعيشون في تبعية كلية لشركات القطن.
ومن أجل التغلب على مظاهر الرفض، رفعت شركات صناعة البذور هدفين/شعارين، لا يمكن ظاهرياً التشكيك فيهما، أولهما مكافحة الجوع في ظل وضع ديموغرافي قوي، وثانيهما الحد من إستخدام الأسمدة المضادة للحشرات، وهي كارثة تهدد القارة، لكن مثلما يلفت إلى ذلك السيد جان بول سيلكي، السكرتير التنفيذي للإئتلاف من أجل حماية الموروث الجيني الإفريقي (كابيجان)، فإن "الزراعات المحورة جينياً لم يتم وضعها من أجل مكافحة إنعدام الأمن الغذائي في العالم، بل على العكس من ذلك من أجل خدمة المصالح التجارية الربحية للشركات الكبرى العاملة في مجالات البيوتكنولوجيا والزراعة"، وبشكل عملي، فإن معظم النباتات المحورة جينياً المزروعة في إفريقيا (القطن والذرة الصفراء بالخصوص) غير موجهة لتغذية السكان، أما فيما يتعلق بتعويض المنتجات الكيميائية، فإن مركز التعاون الدولي في مجال البحوث الزراعية من أجل التنمية (سيراد)، يذكر بأنه توجد حلول أخرى عوضاً عن اللجوء إلى المنتجات المعدلة وراثياً، مثلما تشهد على ذلك التجارب المطبقة في توجو.
وبغية "كسب القلوب والعقول"، وقفت شركات البذور وراء ظهور عدد كبير من الجمعيات والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي تناصر قضية البيوتكنولوجيا، ومن بين هذه المنظمات والمؤسسات "أفريكا هارفست" و ""أفريكان بايوسايفتي ناتوورك للخبرة"، وهي جهاز تم إطلاقة في نطاق الشراكة الإقتصادية الجديدة (10)، و"أفريكابيو" ومؤسسة التكنولوجيات الزراعية الإفريقية أو مؤسسة "ISAAA"، وتنظم هذه الأخيرة بالخصوص رحلات للمزارعين وأصحاب القرار عبر بلدان القارة وحتى خارجها من أجل إقناعهم، ويشير السيد كريستوف نوازيت، مدير الموقع الإلكتروني "آنفوجي آم" إلى أن "هذه الشركات تتسم بقدرات هائلة أكبر بكثير من قدرات المؤسسات ذاتها، لأنها تقدم نفسها على أنها هيئات طوعية"، وهذه الهياكل ممولة من قبل شركات البذور، وفي مقدمتها شركة "مونسانيتو"، تجد كذلك الدعم من مؤسسات كبرى، على غرار مؤسسة "بيل وماليندا جايتس" ومؤسسة "روكفلر"، وكذلك من قبل الدبلوماسية الأمريكية، عبر الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي.

وتقود مؤسسة التكنولوجيا الزراعية الإفريقية (AATF) الجهود التي تشنها شركات البذور، فهذه المؤسسة، التي يوجد مقرها الرئيسي بكينيا، تناضل لدى السلطات العامة الإفريقية، كي تعتمد القوانين المتصلة بالأمن البيولوجي، الضرورية للنهوض بالزراعات المعدلة وراثياً، كما أنها تنسج روابط بين الشركات الكبرى ومختلف البرامج التي تقدم على أنها برامج إنسانية على غرار "لوبيا بي تي"، وبرنامج "الذرة الصفراء المقتصدة للمياه من أجل إفريقيا" (ويما)، ويهدف البرنامج الأول إلى تجربة ثم (قريباً) ترويج بذور لوبيا محورة جينياً قادرة على الصمود إزاء حشرة شديدة التدمير، وذلك في ثلاثة بلدان، هي بوركينا فاسو وغانا ونيجيريا، وهذا النوع من الفاصولياء، الذي يعد من المصادر المهمة للبروتينات، يحوز الإعجاب الكبير لدى المستهلكين في غرب إفريقيا، خاصة في فترة نهاية الموسم، أما البرنامج الثاني، والذي يجري تنفيذه في كل من كينيا وتنزانيا وجنوب إفريقيا وموزمبيق وأوغندا، فإنه يشمل إحداث علامات جينية أو تحويرات جينية، لإنتقاء نوعيات جديدة من الذرة الصفراء المقاومة للجفاف، وهذا المشروع، الذي ينظر إليه على أنه بمثابة كابوس، تتم مقارنته غالباً "بالأرز المذهب" الذي أطلق في التسعينات وسط حملة إعلامية ضخمة، وإنتهى إلى فشل ذريع (11)، ولكن هذا المشروع، يمكنه، في حالة نجاحه أن "يقنع الجميع" وفق السيد نوازيت.
وهذه البرامج التي ترفع لافتة مكافحة الجوع والفقر، تندمج وتنخرط ضمن قائمة المبادرات "الإنسانية"، وفي هذا السياق، وفي نطاق مد تضامني نادر، قامت شركة "مونسانتو" بكل سخاء، بإهداء هذه التكنولوجيا إلى المؤسسة الإفريقية للزراعة التكنولوجية وإلى البلدان المشاركة في التجربة، وأفاد السيد دولاي تراوري في العام الماضي، وكان وقتها يشغل منصب ممثل المؤسسة الأمريكية في غرب إفريقيا، الأمر بقوله "نحن نوفر الأدوات والجينات، دون الحصول على هدايا أو مقابل، ومعاهد البحث الوطنية، على غرار "إينيرا"، هي التي تقوم بالتجارب". لكن، وحسب السيد نوازيت "فإن ذلك هدفه الأساسي صنع خبراء مهادنين مواليين تدربهم هذه الشركات لنجدهم لاحقاً داخل الوكالات الوطنية للأمن البيولوجي".
ويقر بذلك أحد القيادات السابقة في منطقة غرب إفريقيا في شركة "مونسانتو"، حيث يصرح، دون الإفصاح عن هويته، بقوله "هذه المنتجات ليس لها أية أهمية إقتصادية بالنسبة للمؤسسات، فنبتة اللوبيا لا تمثل شيئاً يذكر على مستوى نشاط شركة مونسانتو، لكن ذلك يتيح لها بالخصوص تلميع صورتها لدى أصحاب القرار، الذين يتسمون غالباً بعدم إيلاء إهتمام كبير لهذا النوع من الزراعات المحلية، ويجنحون بالمقابل بإتجاه دعم القوانين التي تفتح الأبواب أمام الزراعات المحورة جينياً، وأيضاً خلق علاقات وروابط مع الباحثين".
وتبرهن دراسة قام بها قبل الباحثين الكنديين ماتيو شنور وكريستوفير جور، على أن عرض (شركات البذور والمنظمات المناصرة للزراعات المعدله جينياً) قد سبق في أوغندا الطلب (طلب الدولة والمزارعين). وكتب الباحثان (12): "ينظر إلى الإستثمار في العلوم والبحوث على إعتباره عنصراً محورياً لإقناع الحكومات المترددة"، ومن أجل كسب الأسواق الإفريقية، أدركت الشركات العاملة في صناعة البذور مبكراً أن العلماء الذين تقتضي أبحاثهم توفير إعتمادات كبيرة من العسير تجميعها، يمثلون حلقة ضعيفة، ففي الكاميرون، حيث تجري مؤسسة "سوديكوتون" منذ خمس سنوات تجارب على قطن محور جينياً "تقوم شركة "باير" بتمويل الأبحاث بشكل كامل"، حسب ما أفاد به مصدر من داخل شركة القطن هذه.
ورغم التحذيرات، فإن بعض البلدان تعتزم التحول نحو القطن "بي تي"، على غرار كوت ديفوار، البلد الجار لبوركينا فاسو، ففي يوليو 2016، صادق برلمان كوت ديفوار بالإجماع على قانون حول الأمن البيولوجي. وفي هذا الصدد، صرح السيد سيلوي كاسوم، المدير العام لفيدرالية منتجي القطن بقوله "ما يهمنا نحن هو الحد من الصعوبات والمتاعب، في الإنتاج، فذاك من شأنه أن يغير كل شيء إذ سنقتصر على علاجين إثنين بدلاً من ستة أو سبعة".
وحتى بوركينا فاسو لم يتم فيها إغلاق ملف المنتجات المعدلة جينياً. وفي هذا الخصوص، يقول السيد ويلفريد يام يوجو، مدير عام مؤسسة "سوفيتاكس" محذراً: "صحيح أننا أوقفنا التعاون مع شركة مونسانتو في مجال القطن المحور جينياً، غير أننا لم نفقد الأمل في العودة إلى الزراعات البيوتكنولوجية".

وفي هذا السياق، شرع الفاعلون في القطاع في نقاشات مع شركة "باير"، وفي إنتظار ذلك، تواصل مؤسسة "إينيرا"، التي حصلت على 220 مليون فرنك إفريقي (340 ألف يورو) من شركة "مونسانتو" سنة 2015، تجاربها على القطن وكذلك الذرة الصفراء واللوبيا، وضمن الإتجاه ذاته، وبإصرار كبير، يمضي السيد سير باييم ويدراوجو، رئيس شبكة الإتصاليين بغرب إفريقيا في البيوتكنولوجيات ببوركينا فاسو (روكواد) في معركته، فكل 15يوماً، يدافع السيد ويدراوجو في مجلة علمية – وهذا نادر في أفريقيا – (أنفوساينس كالتشار)، التي يديرها، والتي صدرت سنة 2015، عن فلسفة فحواها "إن ما يتعين علينا مكافحته، هو ليس الزراعات المحورة جينياً، وإنما الإنزلاقات الناجمة عنها"، ويضيف في تحقيق صحفي نشر بتاريخ 6 أغسطس 2017 وأنجز في الوسط الريفي بتقديم بيوجرافيا "مزارعين شجعان يتطلع أغلبهم إلى تجديد العهد في مستقبل قريب مع قطن محور جينياً ذي جودة عالية، من أجل رفع معدلات إنتاجهم، وتحقيق أرباح أكبر، مع الحفاظ على صحتهم".
وبالنسبة للوبي المناصر للمنتجات المحورة جينياً، فإن الفشل الحاصل في بوركينا فاسو يعتبر مجرد حادث عرضي سببه تسرع شركة "مونسانتو". ورغم ذلك، تكشف دراسة تمت لدى 203 منتج في ثلاث جهات غرب البلاد من قبل مؤسسة "كوباجان"، حجم الخسائر: لقد أدى إستخدام البلاد بذور "بي تي" إلى زيادة في كلفة الإنتاج بنسبة 7% للمزارعين، في حين تراجعت المردودية بحوالي 7% (13)، وتؤكد مؤسسة "كوباجان" أنه من بين الوعود العديدة التي أطلقتها "مونسانتو"، تم فقط إحترام الوعد المرتبط بالحد من عدد المعالجات بالمبيدات الحشرية، وتستنكر المؤسسة أيضاً "الخلل في متابعة تسلسل المنتج": قرابة أربعة منتجين من بين عشرة يقولون بأنهم يخلطون القطن "بي تي" والقطن التقليدي عند الشراء أو في نهاية موسم الحصاد، وبشكل من الصعب تصديقه، سجلت الدراسة أنه بعد ثمانية سنوات من إدخاله "لايعرف معظم المنتجين ماذا يعني المنتج المحور جينياً، ويعتبرون ببساطة أن القطن بي تي مجرد تفريعة لبذور محسنة".
وبصورة واقعية، وبالرغم من كونهم الأكثر عرضة للمحاذير القائمة، فإن المزارعين في مجمل القارة يظلون الغائب الأكبر عن النقاشات المتصلة بالموضوع، فبحكم تدني درجة تعليمهم، فإنهم لا يملكون الأدوات الضرورية، لفرض وجهة نظرهم، ويشير الباحثان شنور وجور، إلى أن القرارات في المرحلة الأولى لإعتماد النباتات المحورة جينياً، يتم إتخاذها من قبل لجان محدودة العدد، بمنأى عن الأنظار، من قبل الممولين من القطاعين الخاص والعام وسلطات الرقابة والسلطات العلمية.
ويرى السيد سيكيلي، أن الخطر يكمن هنا بالذات، ذلك أن النباتات المعدلة جينياً يمكن أن تحدث تحولاً على صعيد الزراعة الإفريقية، تحول يكون على حساب الفلاحين، يقول في هذا الصدد "في إفريقيا يقوم المزارعون عموماً بزراعة قطع أراض صغيرة، عبر المزج بين زراعات متعددة، مع إدماج تربية الماشية في الفلاحة، وهو أمر مفيد جداً بالنسبة للبيئة والتنوع البيولوجي والتربة، أما زراعة النباتات المحورة جينياً، فهي تؤدي إلى إنتهاج مسلك معاكس تماماً، لأنها تترافق مع تعميم زراعة صنف واحد من المنتجات على مساحات أرض شاسعة"، ووفق المتحدث، فإن هذه الظاهرة تنطوى على خطر التسبب في بروز "مزارعين دون أرض"، أو جعل هؤلاء المزارعين مجرد عَملة فلاحيين، وهذا بالضبط ما لم يتردد أحد قيادات مؤسسة "سوفيتاكس" في الإفصاح عنه في أحد أيام يناير 2006 مخاطباً عدداً من مزارعي القطن بقوله "سيأتي أناس من ذوي القدرة والعزم، وسيتولون زرع آلاف الهكتارات، وستصبحون عَملة فلاحيين".
ريمي كاريالو Rémi Carayol
صحفي
الهوامش:
- ندوة صحفية، واجادوجو، 22أبريل 2017.
- "تحليل القطاع الإقتصادي للقطن، الروابط بين الفقر والبيئة"، وزارة البيئة وإطار العيش، وجادوجو، أغسطس 2011.
- إقرأ مقال أندريه لينارد، "كارثة تحل بالقطن الإفريقي"، لوموند دبلوماتيك، سبتمبر 2003.
- جيفري فيتال وجاسبار فونيان ومارك واتارا وأولا تراوري، "التطبيقات التجارية للمنتجات المحورة جينياً في إفريقيا: عشر سنوات من تجربة بوركينا فاسو مع القطن بي تي"، مجلة "أجبيوفوروم"، المجلد 13، العدد 4، كولومبيا (ميسوري)، يناير 2010.
- "مذكرة حول إنتاج وتسويق القطن المحور جينياً في بوركينا فاسو"، AICB، واجادوجو، 2015.
- جيفري فيتال ومارك واتارا وجاسبار فونيان، "تحسين التنمية المستدامة لنظام إنتاج القطن في غرب إفريقيا: ملخص عن تجربة بوركينا فاسو"، 2011، http//www.mdpi.com.
- isaaa.sustainability.org.
- جيبرين إبراهيم، "مؤامرة مونسانتو للسيطرة على الزراعة في نيجيريا"، "صحيفة "ديلي تراست"، أبوجا، 25 يوليو 2016.
- جاكو فيسار، "مونسانتو تستهدف صغار المزارعين"، مجلة المزارع الأسبوعية، بينجوري، (جنوب أفريقيا)، 8يناير 2015.
- إقرأ مقال توم أمادو ساك، "خدع الشراكة الإقتصادية الجديدة من أجل إفريقيا" لوموند دبلوماتيك، نوفمبر 2004.
- إقرأ مقال أنياس سيناي، "كيف تبيع شركة مونسانتو الزراعات المحورة جينياً"، لوموند دبلوماتيك، يوليو 2001.
- ماتيو شنور وكريستوفير جور، "كيف يمكن الإقناع بإستخدام البذور المعدلة وراثياً في أوغندا"، صحيفة "التنمية الدولية"، المجلد 27، رقم 1، شيفيلد، يناير 2015.
- "نحن والقطن المحور جينياً، حقيقة حقولنا"، الإئتلاف من أجل الموروث الجيني الإفريقي (كوباجان)، copagen.org.
المصدر: مجلة لوموند ديبلوماتيك ملحق الأهرام المصري