في صيف عام 2006، تم نشر فرقة من رجال الشرطة العسكرية الأمريكية في العراق، كانوا فتيانًا أشداء، متحمسين للغاية للانضمام إلى الحرب. ينتمى الك...
في صيف عام 2006، تم نشر فرقة من رجال الشرطة العسكرية الأمريكية في العراق، كانوا فتيانًا أشداء، متحمسين للغاية للانضمام إلى الحرب. ينتمى الكثيرين منهم إلى المجتمعات الصغيرة المكونة من أبناء الطبقة العاملة المنتشرة في جميع أنحاء أمريكا، انضموا إلى الجيش لأسباب كثيرة شائعة منها: ارتفاع الحس الوطني بعد أحداث 11سبتمبر، وحب المغامرة، والأمل في حياة أفضل عند الانتهاء من أداء الخدمة العسكرية.
كان أفراد الفرقة مفعمين بالقوة والإصرار، فضلًا عن كونهم مدربين تدريبا جيدًا، ولكن أيًا منهم لم يتم تأهيله للمهمة التي أُسندت إليهم في غضون بضعة أشهر من وصولهم إلى بغداد. إذ تم تكليف الفرقة بحراسة “معتقل رفيع المستوى” – إنه صدام حسين، الرئيس السابق للعراق. وكان قد تم خلع هذا الديكتاتور الوحشي من خلال عملية غزو عسكري ضخم، ثم ألقي القبض عليه بعد تسعة أشهر من الهرب، ليصبح أشهر سجينًا في العالم.
وفور تلقي الأخبار، قال عدد قليل من أفراد فرقة الشرطة العسكرية مازحين: “يجب أن نقتله”. كان بعضهم يعرف أن هذا المعتقل الذي أُسندت إليهم مهمة حراسته كان قد قال ذات مرة: “أتمنى أن تأتي أمريكا بجيشها وتحتل العراق. أتمنى أن يفعلوا ذلك حتى نتمكن من قتل جميع الأميركيين. سنقوم بشيهم والتهامهم “.
من خلال السطور التالية، أقدم نظرة خاطفة حصرية داخل جدران قصر تحول إلى سجن ليُحتجز بداخله رجل واحد، كما أرصد بعض الملامح المحيرة للعلاقات المعقدة وغير المتوقعة التي نشأت وتطورت على مدى الأشهر الأربعة التالية التي سيقضيها هؤلاء الرجال معًا.
بغداد – سبتمبر 2006
مرة أخرى نجد الأخصائي ستيف هتشينسون يعمل ليلًا،
ولكنه هذه المرة يبعد مسافة نصف العالم تقريبًا عن منطقة ميدنايت روديو في وسط ولاية فلوريدا،
حيث كان يتطفل على مجموعة مشاكسين نصف مخمورين.
وذلك قبل بضعة أسابيع من تكليفه هو وزملاء فرقته ضمن سرية الشرطة العسكرية في شارع 551 – المعروفة باسم سوبر 12- بمهمة سرية للغاية: وهي حراسة صدام خلال فترة محاكمته أمام القضاء العراقي عن بعض الفظائع العديدة التي ارتكبها على مدى العقدين الماضيين، اللذين حكم خلالهما بلاده بوحشية مفرطة.
كانت الأوامر التي تلقاها هتش وفريقه سوبر 12 تقتضي عدم الكشف عن طبيعة المهمة لأى شخصٍ كان، حتى لأفراد أسرهم. ولم يُسمح لهم باقتناء دفتر يوميات، كما كانت جميع رسائلهم الإلكترونية تحت المراقبة، فضلًا عن أنهم كانوا يخضعون لعمليات تفتيش عشوائية للتأكد من أنهم لا يدونون ملاحظات حول ما كانوا يفعلونه أو يرونه أو يسمعونه أو حتى يفكرون به*
بدأت أول نوبة عمل لهتش في حراسة سجينه الشهير في منتصف الليل. كان كلاهما يقيمان داخل ثنايا المحكمة العراقية العليا، وهي محكمة بُنيت خصيصًا لمحاكمة صدام وسبعة من المدعي عليهم الآخرين بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية. وأسفل قاعة المحكمة كان يوجد صف من الزنازين تحت الأرض، عبارة عن غرف نصفها من الجدران والنصف الآخر من الزجاج المضاد للرصاص على غرار “غرفة الاستجواب في الأفلام” – حيث كان يقيم صدام وعدد من المدعى عليهم الآخرين عندما كانوا يُستدعون للمثول أمام المحكمة.
أطلق فريق سوبر 12 اسم “السرداب” على مقر الإقامة الخاص بهم تحت قاعة المحكمة. فالمكان مظلم 24 ساعة في اليوم لأنه في أي وقت من الأوقات يكون بعضهم نائمين، وقد تحولت حياتهم الآن إلى حلقة لا نهائية من نوبات حراسة لصدام مدة كلٍ منها ثماني ساعات. إذ كانت الأوامر تقتضي بقائه تحت المراقبة في جميع الأوقات للتأكد من عدم إلحاق أي ضرر به، سواء بيده أو بيد أي شخص آخر.
وكان الأمريكيون قد أنشأوا مبنى المحكمة العراقية العليا عقب الإطاحة بنظام صدام إثر غزو عسكري واسع النطاق، حيث كان المقر السابق للمحكمة يقع داخل مبنى حزب البعث السابق الذي كان عبارة عن مبنى ضخم قائم على أعمدة. وقد تم إنشاء المبنى الجديد للمحكمة العراقية العليا على غرار محاكم جرائم الحرب التابعة للأمم المتحدة، بينما تقرر أن تعمل المحكمة وفقًا لإجراءات المحكمة الجنائية العراقية. ورأت المحكمة استهلال محاكمة صدام بقضية قتل 148 شخصًا من الشيعة في بلدة الدجيل ردًا على محاولة اغتيال فاشلة تعرض لها عند زيارته لتلك البلدة في أوائل الثمانينيات. وقد بدا اختيار هذه القضية كجريمة أولى لمحاكمة صدام أمرًا غريبًا بالنسبة للكثيرين، بالنظر إلى عمليات القتل الأخرى المعروفة التي كان هو مسؤولًا عنها، وأبرزها الهجمات الكيميائية على الأكراد العراقيين خلال الحرب الإيرانية العراقية. وهي الهجمات التي أسفرت عن مقتل الآلاف بطريقة بشعة، بمن فيهم النساء والأطفال.
خلال عمليات الانتشار السابقة ضمن فرقة سوبر 12، كان هتش هو “المسؤول عن الصراخ بالأوامر والتعليمات في وجه المحتجزين” – كان مهمته هي توصيل رسالة إلى المحتجزين بأنه لن يتم التسامح مع أي تجاوز. يقول هتش: “عليك أن تعطيهم تلك الصدمة الأولية، حيث تقف في مواجهتهم مباشرةً، على بعد بوصة واحدة تقريبًا من وجوههم، وتصرخ مرددًا القواعد والتعليمات”. ويضيف “مهمتك هي إثبات أن الحارس له السيطرة المطلقة”. لكن هتش كان يعلم أنه لن يصرخ في وجه هذا السجين.
بينما كان هتش يجلس مرتخيًا على ذلك الكرسي المعدني العتيق خارج الزنزانة، كان بإمكانه رؤية صدام وهو مستسلم لنوم عميق. هذا الرجل الذي لطالما اعتقد أنه شيطان متوحش ها هو الآن على بعد بضعة أقدام منه، يستغرق في نوم هادئ.
فوجئ هتش بحالة من التوتر تنتابه فاقت شدتها توقعاته، فأخذ يذكر نفسه بأن عليه أن يكون حذرًا الليلة. إذ كانت هناك شائعات مستمرة تفيد بأن المتمردين العراقيين سيحاولون تحرير صدام، و قد تم إبلاغه كذلك بأن يحذر من احتمالية محاولة أحد الجنود غير المتزنين قتل الدكتاتور السابق، إما بدافع الانتقام وتحقيق القصاص أو سعيًا للشهرة.
ولتمضية الوقت، أخذ هتش يتصفح بنفاذ صبر الرواية المصورة الشر المُقيم :- الرمز “فيرونيكا” (على مدى عملية الانتشار هذه، تصفح هتش جميع كتب هاري بوتر، وروايات سلسلة “هانغر غايمز”، وذلك بغرض أن يجد ما يناقشه مع ابنتيه البالغتين من العمر 4 و 6 أعوام عند عودته إلى منزله.)
وفجأة، انطلق صوت بدد السكون: إذ بدأ علي حسن المجيد-أحد كبار مساعدي صدام السابقين – في رفع الآذان للصلاة. كان على الشهير ب- “علي الكيماوي” – متهمًا بأنه ساعد في شن حملة إبادة جماعية باستخدام أسلحة كيميائية وتقليدية لإبادة الأكراد العراقيين بحجة أنهم يمثلون تهديدًا لحكم صدام. وقد أدى هذا الهجوم الكيميائي إلى مقتل ما لا يقل عن 000 5 رجل وامرأة وطفل، وربما ارتفع العدد إلى 10,000 شخص. ومن خلال اضطهاده المنهجي للأكراد، قد يكون علي الكيماوي مسؤولًا عن وفاة أكثر من 100,000 شخص.
انتزع الصوت صدام من أحلامه، وبدأ في تمتمة الآذان في حين لا يزال مستلقيًا على فراشه. بدا لهتش أنه يحرك شفتيه بصورة روتينية وبدون أي مشاعر. فعلى الرغم من أن حزب البعث الذي كان يقوده صدام كان حزبًا مدنيًا من الناحية النظرية، إلا أن هذا الدكتاتور كان قد أطلق “حملة إيمانية” خلال فترة التسعينات من أجل دفع العراق في اتجاه أكثر تدينًا وورعًا. كما اعتاد التبرع بالدم بانتظام، حتى أن نسخة كاملة من القرآن الكريم كُتبت بدمه.
بغداد- أكتوبر 2006
عندما لم يكن صدام مطلوبًا للمثول أمام المحكمة العراقية العليا، كان فريق سوبر 12 المكون من أفراد من الشرطة العسكرية يتولى حراسته داخل قصر مفخخ بالقرب من المطار في جزيرة صغيرة لا يمكن الوصول إليها إلا بواسطة جسر متحرك. وقد أطلق فريق سوبر 12 على الجزيرة التي تم إنشاؤها وسط بحيرة صناعية اسم “الصخرة”، تيمنًا بفيلم عن سجن الكاتراز يحمل الاسم نفسه.
[caption id="attachment_6243" align="aligncenter" width="800"] احد قصور الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين المبني على جزيرة وبحيرة اصطناعيتين. واسمى الجنود الأميركيون المكان “الصخرة” تيمنا بسجن ألكتراز.[/caption]
كانت هذه الكوكبة الممتدة من المقار الحكومية السابقة والقصور، والتي كانت هذه الجزيرة جزءًا صغيرًا منها، هي المكان الذي كان يقضي فيه صدام ووزرائه المفضلين أوقاتًا ممتعة في نزهات الصيد التي يتبعها حفلات عشاء باهظة التكاليف. وهو أيضًا المكان الذي اعتاد فيه ابنه عدي على إقامة حفلات ماجنة سادية تقدم خلالها المشروبات الكحولية والمخدرات. وبعد أن تم الاستيلاء علي هذا المكان بعد فترة وجيزة من الغزو، أُطلق عليه الآن اسم كامب فيكتوري، إذ كان يشبه نموذجًا مصغرًا لأمريكا، حيث يوجد به فروع لمطاعم برجر كينغ وصبواي العالمية، كما كان يستضيف مجموعة واسعة من الفنانين، من نجم الأغاني الريفية توبي كيث إلى نجوم مصارعة المحترفين. (وكان الجنود مولعين بشكل خاص بنجمات المصارعة النسائية دبليو دبليو إي ديفا شبه العاريات.)
كانت هناك تعليمات لدى فريق سوبر 12 بتجنب التفاعل مع صدام أثناء القيام بكل ما من شأنه أن يبقيه آمنًا وراضيًا. فلم تكن القيادة الأمريكية تريد منح الفرصة لإثارة حتى مجرد الادعاء الخافت بأنه يتعرض لسوء المعاملة، إذ كانت ترى أنه كلما كان صدام يشعر بحالة من الرضا، كلما مرت المحاكمة بسلاسة. في البداية، كان أفراد فرقة الشرطة العسكرية حريصين على عدم الانخراط في أي محادثة معه، وعملوا على أن تقتصر تعاملاتهم معه على مجرد الردود الباردة “نعم يا سيدي” أو “لا، يا سيدي” . ولكنهم كانوا يقضون معه 24 ساعة في اليوم، فكان لابد من حدوث بعض التقارب على كلا الجانبين.
وكان هتش، بوصفه فرد شرطة عسكرية مخضرم، يرى أن حدوث أي تقارب مع المحتجزين هو فكرة سيئة، فضلًا عن أنه كان حذرًا جدًا من هذا السجين على وجه التحديد. فعلى أية حال فإن هذا هو الرجل الذي رد على طلب زوجة بتحرير زوجها – وهو وزير حكومي كان قد سُجن لتقديمه اقتراحًا لم يعجب صدام – عن طريق إرسال الوزير إلى منزل زوجته في حقيبة سوداء، مقطع الأوصال.
بالنسبة لهؤلاء الجنود الشباب، كانت مهمة حراسة صدام أشبه بمشاهدة أسد خلال زيارة لحديقة الحيوان ، فعلى الرغم من أن الأسد حيوان قاتل، إلا أنه نادرًا ما يفعل أي شيء سوى الجلوس وتناول الطعام والنوم، وفقط في بعض الأحيان يتفضل بالمشي عبر القفص لإثارة جمهوره. ولكن هذا الشعور بالحذر والتحفز الشديد الذي كان طبيعيًا في البداية، سرعان ما تراجعت حدته مع تتابع الأيام الهادئة التي تكاد لا تشهد أي أحداث تذكر. وبعد بضعة أسابيع من بدء مهمتهم، كان كلًا من هتش وبول سفار يجلسان أمام صدام في المنطقة الترفيهية المخصصة له في الهواء الطلق بالقرب من زنزانته. وعلى الرغم من أن طول هذه المنطقة لم يكن يتجاوز 15 قدمًا وعرضها 7 أقدام، وأنها كانت محاطة بجدران خرسانية طويلة مغطاة بأسلاك شائكة، إلا أنها كانت تقدم شيئًا ذو قيمة كبيرة لسجين يقضى معظم وقته داخل زنزانة بلا نوافذ: إذ كانت تعرض له لمحة من سماء بغداد الزرقاء.
جلس المترجم جوزيف** بجانب صدام على تلك الكراسي البلاستيكية التي تفترش الفناء المرصوف، على جانب واحد من طاولة بلاستيكية صغيرة. بينما جلسا سبار وهتش مقابلهما على الجانب الأخر. كان صدام وجوزيف يدخنان سيجار من نوع كوهيبا ويتبادلان الحديث كأنهما متقاعدان يحضران عشاء محلي ويتابعان أخبار النميمة المحلية. لم يكن هتش وسفار يفهمان اللغة العربية، ولكن صدام، كما كان الحال دائمًا، بدا هادئ الأعصاب على نحو لا يُصدق بالنسبة لرجل قيد المحاكمة ويواجه احتمال عقوبة الإعدام. وربما يرجع السبب وراء هذا الهدوء إلى أنه كان للمرة الأولى منذ عقود ينعم بالأمان داخل شرنقة واقية، معزولًا عن التهديدات الداخلية والخارجية التي كانت مصدر قلق دائم له منذ اللحظة التي استولى فيها على السلطة. لقد أحكم صدام قبضته على أمته بدافع الخوف وجنون الشك والاضطهاد، ولكن هذا الخوف تبدد الآن – كان صدام يدرك جيدًا أن الآلاف من العراقيين مستعدون للتضحية بحياتهم عن طيب خاطر مقابل الفوز بفرصة غرس سكين في صدره أو ذبحه وهو نائم.
ويبدو أن صدام كان يجد متعة هائلة حتى في أبسط الأشياء، مثل تدخين سيجاره الكوبي. فكان يسحب سيجاره من ماركة كوهيبا بعناية – تميل إلى الأسلوب المسرحي – من علبة المناديل المبللة الفارغة التي كان يحتفظ بالسجائر فيها. ثم يشعل السيجار، ويتلذذ بكل نفس قبل الزفير. (وقد أخبر حراسه بفخر أن الزعيم الكوبي فيدل كاسترو هو من جعله يدمن تدخين السيجار.)
تحول جوزيف فجأة من صدام إلى هتش قائلًا: إنه يريد أن يعرف من أين أنت، وما هي جنسيتك.
اندهش هتش من السؤال وقال. قل له أمريكا.
قال جوزيف: لا، لا، قبل ذلك.
– حسنًا، أعتقد من أوروبا …
فرد صدام قائلًا : لا، لا، هناك أكثر من ذلك، وهنا تبين أنه كان يتابع المحادثة من البداية. وكانت هذه إحدى المؤشرات الأولى التي بينّت لفرقة سوبر 12 أن إنجليزية صدام كانت جيدة بشكل مدهش، ولكنهم عرفوا أنه يستخدمها على نحو استراتيجي.
لم يكن هتش متأكدًا من غرض صدام من السؤال، فقال. ما الذي يريده مني تحديدًا؟
– إنه فقط يريد أن يعرف أصولك.
الآن أدرك هتش أن صدام لديه فضول بشأن عرقه، ربما لأن بشرته قد تحولت إلى لون داكن على نحو ملفت جرّاء التعرض المستمر لشمس العراق التي لا ترحم.
– ممم، حسنًا، أصولي تمتد إلى الأمريكيين الأصليين.
فإذا بصدام يضع أحد أصابعه خلف رأسه كأنها ريشة وآخر أمام فمه، محاكيًا صيحة الحرب لدى الهنود الحمر. فانفجر هتش ضاحكًا.
[caption id="attachment_6244" align="aligncenter" width="800"]
الباب المؤدي للزنزانة التي قبع فيها صدام حسين خلال محاكمته. -رويترز[/caption]
وكان صوت الراديو البدائي الذي يقتنيه صدام ينبعث بهدوء في الخلفية. وعلى الرغم من أنه كان قد عُرض عليه اقتناء وسائل تسلية أكثر عصريةً، مثل مشغل دي في دي متنقل، إلا أنه فضل جهاز الراديو القديم، المزود بهوائي لالتقاط الإشارة من سماء الصحراء. كان عادةً ما يتنقل بين المحطات العربية ومحطات موسيقى البوب الأمريكية، وأشار أحد الحراس الشباب إلى أنه كان يتوقف دائمًا إذا صادف ووجد إحدى أغنيات المغنية الأمريكية ماري جي بلايدج.
فتح صدام كتابًا كان قد وضعه أمامه على الطاولة البلاستيكية. وأخذ يقلب صفحاته بينما ينظر الجنديين من فوق كتفه، كان يتفحص كل صفحة بعناية من خلال نظارة القراءة التي كان يضعها، ويتوقف بين الحين والأخر عندما تظهر صورة تثير ذكرى معينة لديه. توقف وأشار إلى صورة لنفسه عندما كان صبي صغير في المدرسة. وحقيقة أنه استطاع الالتحاق بالمدرسة هي في الواقع إحدى القصص المزيفة التي تم ابتداعها ضمن جهود صنع أسطورة حزب البعث. كان صدام طفلًا طموحًا يتطلع باستماته للهروب من إساءات زوج أمه والمستقبل البائس الذي ينتظره كأحد مزارعي الكفاف في قرية العوجا ذات المياه الراكدة والفقر المدقع. وفي إحدى الليالي، تسلل صدام إلى خارج الكوخ الطيني الذي تعيش فيه والدته، وشق طريقه عبر الطرق المقفرة التي تأوي قطاع الطرق، متجهًا إلى منزل خاله خير الله طلفاح في تكريت. وكان خاله ضابطًا سابقًا في الجيش العراقي وقوميًا عراقيًا قضى عدة سنوات من حياته في السجن بسبب مشاركته في تمرد ضد البريطانيين. وبالفعل تبناه خاله وأدخله المدرسة.
قال صدام بينما لا يزال يحدق في الصورة: طردني مدير المدرسة عندما كنت صغيرًا!
ثم أوضح أن مدير المدرسة أثار غضب خاله بشدة عندما قام بطرد صدام خارج المدرسة، واعتبر خاله الأمر إهانة لجميع أفراد العائلة.
يقول صدام “دفع مدير المدرسة ثمنًا غاليًا لهذه الإهانة. فعندما سمع خالي بالأمر، أعطاني بندقية، وقال لي تأكد من أنهم سوف يسمحون لك بالعودة!”
تناول صدام رشفة من الشاي، وأخذ نفسًا من السيجار، ثم تراجع في جلسته إلى الخلف وقد علت وجهه ابتسامة ذات مغزى، تاركًا للجنود مساحة لتخيل مصير هذا المدير البائس.
بغداد-أكتوبر 2006،
“أيها المجرم شديد الأهمية، إننا سوف نتحرك الليلة”
وكانت قلة من الحراس هم من ينادونه أحيانًا بهذا اللقب “المجرم شديد الأهمية”، فمعظمهم كان ملتزم بمناداته بلقب ” سيدي”.
كان الحارس المختص آدم روجرسون كان قد تلقى تعليمات تفيد بأنه سيتم تسليم صدام إلى المحكمة العراقية العليا في وقت متأخر من تلك الليلة . وقد أراد روجيرسون إعطاء صدام إشعار مسبق بذلك حتى يكون لديه الوقت لحزم حقائبه.
بدأ صدام أداء طقوسه المعتادة قبل الانتقال. أولًا، خرج وسقى نباتاته بعناية، وهي فقط مجرد أعشاب وحشائش تنمو في قطعة صغيرة من التربة في المنطقة الترفيهية المخصصة له. بعد ذلك، بدأ في حزم أمتعته في حقيبة من الصوف الخشن ذات اللون الأخضر الزيتوني التي يصدرها الجيش. كان يحرص على وضع الأشياء التي كان يتوقع أن يحتاج إليها أولًا في الأعلى. وكان أحد الحراس قد وضع بدله التي كان الجيش ينظفها بالبخار بشكل منتظم في أكياس الملابس بعناية.
[caption id="attachment_6245" align="aligncenter" width="768"]
كان صدام دوما ما يشد قامته ليقف باستقامة بالرغم من آلام ظهره, بحسب الجنود الذين كانوا مولجين بحراسته.[/caption]
كانت آخر الأشياء التي وضعها في الحقيبة هي مفكرته وأقلامه، وعلبة المناديل المبللة الفارغة التي كان يحتفظ بالسجائر فيها، وكان يحرص أن تكون هذه الأشياء في أعلى حقيبته لكي يتمكن من الوصول إليها سريعًا عندما يصل إلى المحكمة. تقدم بعض الحراس إلى الأمام للمساعدة في حمل حقائبه الثقيلة، فضلاً عن حقيبة الملابس التي تحتوي على بدلاته. وعندما تقدم هتش لمساعدة صدام بحمل أحد الحقائب، وجدها ثقيلة جدًا فقال ممازحًا صدام، “ما هذا؟، هل وضعت علي في هذه الحقيبة؟” ضحك صدام من قلبه، وعندما وصل إلى المحكمة، شارك تلك المزحة مع علي الكيماوي.
بغداد- أواخر فصل الخريف، 2006
كان صدام يخطو داخل المنطقة الترفيهية في الهواء الطلق مرتديًا الدشداشة وحاملًا مسبحة صلاة، ويتمتم بسلسلة من الكلمات. وفي وقت لاحق يتذكر هتش أنه كان عندما يرى صدام يخطو ذهابًا وإيابًا على هذا النحو، كان يهمهم في نفسه قائلًا ، “لولا أنني أعرفه لظننت أنه فقد عقله”. وفي بعض الأحيان، كان أسلوبه وحركته يوحيان إلى حراسه بأنه يتدرب على الأشياء التي يعتزم قولها في المحكمة. إذ كان صدام ينتظر الحكم في قضية الدجيل بينما يعمل على تحضير دفاعه عن نفسه ضد اتهامات الإبادة الجماعية في حملة الأنفال الوحشية ضد الأكراد العراقيين خلال الحرب الإيرانية العراقية. ولابد أن صدام كان يدرك أن سلوكه يبدو غريبًا، فقد كان يرفع نظره في بعض الأحيان، ويرى عيني حارسه تلاحقانه، فيبتسم ابتسامة ذات مغزى.
كان هتش يتصفح إحدى نسخ مجلة بيبول كعادته خلال هذه المهمة، عندما لاحظ أن صدام قد توقف عن الحركة وأخذ ينظر إليه. قال هتش “هل من شيء سيدي؟ ” كان هتش يتوقع أن يطلب منه صدام شيئًا، ولكن، لدهشته، كان صدام يريد فقط التحدث معه.
قال صدام “أنا و برزان، كنا نصطاد بالقرب من هنا، أتعلم، كنا نصطاد سمك كبير جدًا هناك، لا يوجد الكثير منه،” واستمر صدام في التحدث واصفًا مختلف ثغرات الصيد في البحيرة القريبة.
كان حرس صدام يعرفون أن تلك الأسماك يمكن أن تنمو بدرجة كبيرة جدًا. والواقع أن الجنود الأمريكيين في بغداد اعتادوا تسمية سمك الشبوط الهائل الحجم باسم “سمك صدام” وذلك بعد أن سمعوا شائعات بأنه كان يملأ البحيرات بهذا النوع من السمك. وكما هو الحال مع معظم القصص التي تدور حول صدام، كان هناك جانب مظلم للقصة. إذ سمع فريق سوبر 12 أن أتباع صدام كانوا يلقون جثث الناس الذين يطلقون النار عليهم في تلك البحيرة، مما تسبب في اكتساب الأسماك الكبيرة طعم الدم البشري.
والآن حتى مع سجن صدام ومحاكمته، ما تزال أعمال العنف الوحشية منتشرة على نطاق واسع في العراق. الآن، بدلًا من معارضي النظام، أصبح ضحايا الحرب الأهلية المتفاقمة في العراق هم الذين يتم إلقاءهم في الماء. يذكر هتش أنه اصطاد ذات مرة “جثة عائمة” من البحيرة، حيث كانت الجثة المتحللة تتفكك في يده بينما كان يكافح لإخراجها.
[caption id="attachment_6246" align="aligncenter" width="768"]
بالرغم من كل شيء, يقول أحد الجنود المولجين بحراسة صدام, إنه هادئ الأعصاب على نحو لا يُصدق بالنسبة لرجل قيد المحاكمة ويواجه احتمال عقوبة الإعدام.[/caption]
ومع تصعيد فرق الموت الطائفية من عمليات التطهير العرقي التي تقوم بها في أحياء بغداد، أصبحت الاكتشافات المروعة في جميع أنحاء المدينة أمرًا روتينيًا. فعلى سبيل المثال، تم اكتشاف عشرات الجثث داخل الحواجز المعدنية التي تهدف إلى منع مخلفات البحيرة من الدخول إلى نهر دجلة. وكان الضحايا مقيدين ومعصوبي العينين وقد تم إطلاق النار على رؤوسهم. وبعد ثلاث سنوات من تصعيد العنف في العراق، أصبحت مثل هذه الاكتشافات المروعة أمرًا شائعًا.
بغداد – ديسمبر 2006
هب هواء ديسمبر البارد فوق البحيرة، مقتحمًا جدران المكان الذ كان في السابق قصر صدام والآن أصبح سجنه. وبين عشية وضحاها، انخفضت درجات الحرارة إلى ما فوق درجة التجمد بقليل.
بدا صدام هادئًا بشكل ملحوظ، على الرغم من أنه قد صدر بحقه حكمًا بالإعدام في قضية الدجيل قبل بضعة أسابيع فقط. وكان هو وحراسه يعرفون أن يوم إعدامه يقترب بسرعة، ما لم يتم قبول الاستئناف، وهو أمر لم يكن يتوقعه أحد.
وبينما كان روجرسون يجلس بالخارج مع صدام، الرجل الذي أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش أنه جزء من “محور الشر”، قال له صدام “هل تريد الجلوس بجانب النار معي؟” وأشار صدام إلى كرسي بلاستيكي بالقرب من المدفأة، التي كان يحب أن يطلق عليها “النار”. كان يحب أن يطلق تسميات على الأشياء الجامدة، فكان يشير إلى دراجة التمارين الصغيرة المتهالكة التي كان يركبها قبل فحوصاته الطبية اليومية على أنها “مهر”.
كانت نشأة روجرسون في كليفلاند، لذلك كان معتادًا على تلك الأجواء الشتوية القاسية، لكنه قبل بسعادة مشاركة صدام هذا القدر الضئيل من الدفء.
أشعل صدام أحد سجائره الكوبية الضخمة من ماركة كوهيبا، وبدأ الدخان المتصاعد من كل نفخة يتدفق بلطف في السماء ليلاً. كان روجرسون يتوق لتدخين سيجارة، لكنه كان لا يُسمح للحراس بالتدخين أثناء الخدمة. وبدلا من ذلك، فتح روجرسون طرد صغير كانت زوجته قد أرسلته له من ولاية أوهايو حيث يعيشان. كان الطرد يحتوي على بعض الشموع التي اشترتها زوجته من متجر وول مارت. ولاحظ روجرسون أن صدام يبدو مفتونًا بالشموع.
قال روجرسون: أرسلت لى زوجتي هذه الشموع.
– أرى ذلك. ماذا ستفعل بهم؟
– في الواقع، أنا لست بحاجة إليهم، وأضاف ضاحكًا “ولكنني أفكر في استخدامها لتحسين الرائحة في المكان. أنت تعرف كيف يكون الحال عندما يقضى كثير من الأشخاص وقتًا طويلًا معًا، تكون هناك رائحة مقززة جدًا.
ضحك الرجلين. وناول روجرسون أحد الشموع المعطرة لصدام حتى يتمكن من إلقاء نظرة فاحصة.
– هل يمكنني أن أحتفظ بواحدة؟
– بالتأكيد.
– اشكرك يا صديقي.
ثم التقط صدام قلمًا وبدأ ينقش على الشمعة بعض الكلمات بالعربية . وبعد بضع دقائق، قال: “لقد كتبت قصيدة لابنتي،” ثم طلب من روجرسون أن يعطيها للصليب الأحمر ليسلمها إليها.
بعد بضعة أسابيع، كان يوم عيد الميلاد، وكان صدام في “الصخرة”، في انتظار قرار بشأن الاستئناف. كان هناك عدد محدود من الزينة للاحتفال بموسم العطلات، بالإضافة إلى شجرة عيد الميلاد الصغيرة التي قام شخص ما بوضعها في غرفة الكمبيوتر في مقر إقامة فرقة سوبر 12. لا شيء آخر يميز اليوم عن أي يوم عادي، باستثناء عدد قليل من طرود الرعاية الإضافية التي تصل عبر البريد.
كان روجرسون يشعر بسعادة بالغة لسببين:
تحطيم قوة الخصم: أنفق صدام ونظامه الكثير من الوقت والجهد في خلق الأساطير حول الدكتاتور، وتصويره على أنه المخلص للناس وذلك بغرض إخضاعهم.
فتح طرد كبير خاص يحتوي على كمية كبيرة من حبوب عيد الميلاد كاب إن كرانش تكفي للفرقة بأكملها.
كان صدام بالخارج، يجلس بالقرب من “النار”، في ضوء المصباح الوحيد الموجود في الهواء الطلق، ممسكًا بقلمه، ومركزًا اهتمامه على شمعة أخرى من شموع روجرسون. وبعد أن انهمك في مهمته لفترة من الوقت، نظر إلى الجنرال جيمس مارتن، الذي كان يحاول البقاء دافئا على الجانب الآخر من المنطقة الترفيهية.
– هذه لزوجتي.
– حقًا؟
كان مارتن مندهشًا، لأن صدام نادرًا ما يأتي على سيرة زوجاته. كان كلما أُثير موضوع العائلة، يوجه دفة الحديث باتجاه أبنائه.
– نعم، لقد كان لدينا تقليد خاص في كل عام في عطلة عيد الميلاد، كنا نضيء شمعة. وقد كتبت هذه القصيدة لها بهذه المناسبة.
لم يكن هذا الحديث عن تقليد عيد الميلاد غير المتوقع هو المرة الأولى التي يُظهر فيها صدام تقاربًا مفاجئ لشيء يتعلق بالمسيحية. إذ كان قد سأل مؤخرا عما إذا كان بإمكانه مشاهدة فيلم آلام المسيح. وبعد انتهاء الفيلم، قال صدام إنه يشعر بالغضب من الطريقة التي تعاملت بها الشخصيات اليهودية في الفيلم مع المسيح. وقال “ربما كان العراقيين سيعاملونه على نحو أفضل”. كما قال إن فيلم “آلام المسيح” هو أفضل فيلم شاهده على الإطلاق.
في اليوم التالي، 26 ديسمبر 2006، تم رفض الاستئناف المقدم من صدام على الحكم الصادر بحقه في مذبحة الدجيل، بما يعني أنه سوف يتم تنفيذ عقوبة الإعدام بحقه قريبًا.
لم يكن قرار المحكمة برفض الاستئناف مفاجئًا لفرقة سوبر 12. فقد كانوا قد سمعوا بعض الشهادات المروعة حول هجماته على الأكراد باستخدام الأسلحة الكيميائية. ومع ذلك، فقد كافحوا للربط بين تلك التصرفات الوحشية وهذا الرجل اللطيف الذين يقضون معه 24 ساعة في اليوم سبعة أيام في الأسبوع على مدى الأشهر العديدة الماضية. يقول روجرسون في وقت لاحق محاولًا استعادة الأحداث: “كنت بينما أتابع المحاكمة، وأكتشف ما فعله بشعبه، أشعر بالاشمئزاز الشديد منه، لقد قتل أعدادًا هائلة من الناس، بل لقد دمر مدينة بأكملها هكذا ببساطة…. ولكن عندما كنت أراه بعد ذلك، كانت نظرتي إليه تختلف تمامًا، لأنه لم يكن هذا الشخص معي ….لقد كانت علاقتي به أشبه بالعلاقة بين جد وحفيده”.
[caption id="attachment_6247" align="aligncenter" width="800"]
كما حال أي ديكتاتور في العالم, كان صدام ينشر الصور التي تشير الى نسب قبول مرتفعة له بين شعبه, حيث الكل يهلل له.[/caption]
وفي نفس يوم عيد الميلاد هذا، نقش صدام قصيدة أخرى على شمعة، ولكنها كانت هذه المرة لفرقة سوبر 12. وبعد أن قام بترجمتها من العربية، قال لهم أنها تعبر عن أمنياته لهم بالعودة إلى ديارهم في أمريكا والاحتفال بعيد الميلاد مع أسرهم بدلًا من قضاء العيد في حراسته في العراق.
بغداد – 30 ديسمبر 2006
لقد حانت اللحظة.
تدثر الرجل العجوز بمعطفه الطويل الأسود، ثم وضع على رأسه قبعة من الفراء داكنة اللون لتحميه من البرد القارس. كانت تلك الليلة واحدة من أبرد الليالي التي مرت على فرقة سوبر 12 في العراق. وقف ستة منهم خارج القصر المفخخ، مسلحين بكامل معداتهم القتالية، يبدون أشبه بالأبطال الخارقين في ستراتهم وخوذاتهم الواقية من الرصاص المصنوعة من مادة الكيفلار، ونظارات الرؤية الليلية التي تشبه تلك التي يرتديها الضباط في سلاح الفرسان. ويحمل كلٍ منهم عدته القتالية كاملة والمكونة من مئات اللفات من الذخيرة.
وبينما كان هؤلاء الجنود الستة يمشطون المحيط الخارجي بحثًا عن أي شيء خارج عن المألوف، كان الجنود الستة الآخرين يقتادون سجينهم إلى سيارة همفي مصفحة لقطع مسافة قصيرة إلى منطقة هبوط المروحية.
تحرك السجين العجوز ذو اللحية رمادية اللون بتأنٍ وروية، وربما حتى بفخر واعتداد، محاولًا شد قامته للحفاظ على وضعية مستقيمة على الرغم من الحالة السيئة التي كان عليها ظهره. وفي مكان قريب، كانت هناك مروحيتين من طراز بلاك هوك تنتظران، وكانت الأجنحة الدوارة للمروحيتين قد أثارت سحبًا ضبابية للتمويه، من خلال الاحتكاك بركام الرمل والحصى. وقد أضاف الوهج الأخضر للنظارات الليلية التي يرتديها الجنود المزيد من حالة الإزعاج الناجمة عن تلك الدوامة من الصوت ودرجة الحرارة والضوء.
[caption id="attachment_6248" align="aligncenter" width="768"]
المخبأ السري لصدام حيث قالت القوات الأميركية إنها عثرت عليه.[/caption]
تحلّق الحراس الستة حول الرجل العجوز في طريقهم إلى إحدى مروحيتي بلاك هوك، انحنوا ليتفادوا الأجنحة الدوارة، ثم صعدوا على متن المروحية بحذر شديد، حرصًا على عدم تعثر أحدهم، إذ أن نظارات الرؤية الليلية التي يرتدونها تعيق إدراكهم العميق. وانضم إليهما طبيبان ومترجم، بما أسهم في رفع درجة حرارة جسم المروحية الضيق على نحو أشعر الجميع بمزيد من الدفء. وبمجرد صعود المجموعة الأولى على متن المروحية، سرعان ما استقل الحراس الباقون المروحية بلاك هوك الثانية.
بعد ذلك، شقّت المروحيتين طريقهما صعودًا، لتبدأ رحلتهما القصيرة إلى منشأة عراقية في حي الكاظمية الشيعي في بغداد. ظهرت لمحة خوف خاطفة على وجه الرجل العجوز عندما ارتدّت المروحية قليلا بفعل بعض التيارات الهوائية المضطربة. إنه دائمًا ما كان يشعر بالتوتر العصبي خلال رحلاته بالطائرة. ولكنه في هذه المرة يلتزم الهدوء والصمت.
وبمجرد هبوط المروحيتين، قاد الجنود صدام إلى مركبة من طراز “رينو”، وهو مركبة مدرعة ضخمة. ثم صعد الجنود، وكذلك المترجم. وساد صمت مهيب بينما المركبة رينو التي تزن 13 طن تشق طريقها عبر المجمع. لم يكن هناك أي نوع من المزاح العرضي الذي عادةً ما يسود الأجواء في مثل هذا النوع من المهمات؛ فقط صمت مطبق.
بعد رحلة قصيرة، حان الوقت لتسليم سجينهم. نهض صدام من مقعده وعدّل معطفه بعناية، ليتأكد من أنه لم يتجعد خلال هذه الرحلة القصيرة. (كان أحد الجنود قد نظفه باستخدام فرشاة إزالة الوبر قبل أن يغادروا زنزانته.)
ثم بدأ صدام في السير ببطء من مقعده في الخلف باتجاه الباب الأمامي للمركبة. وبينما كان يتقدم في طريقه إلى مقدمة المركبة المدرعة ذات الإضاءة الخافتة، توقف صدام ليصافح كل واحدٍ من حراسه الأمريكيين، وفي حالات قليلة كان يهمس لبعضهم بكلمات خاصة.
أدمعت عيون بعض الجنود.
وعندما وصل الرجل العجوز إلى مقدمة المركبة، استدار إليهم مرة أخيرة وقال: “ليكن الله معكم”.
ثم انحنى قليلا واستدار نحو الباب.
[caption id="attachment_6249" align="aligncenter" width="768"]
كان مشهد اعدام صدام يوم العيد, والذي تناقلته وسائل الإعلام حول العالم, صادما للبعض, خاصة عندما انقطع حبل الأنشوطة الملتفة حول رقبته عند أول محاولة.[/caption]
———————————-
* ملاحظة بشأن الروايات المذكورة: يستند هذا التقرير إلى ما يقرب من 100 مقابلة أجراها المؤلف مع مسؤولين حكوميين أمريكيين ودوليين، وكذلك مع جنود ومتخصصين ومراقبين ومحامين لديهم رؤى خاصة حول اعتقال صدام وسجنه وإعدامه، فضلًا عن مقابلات أجراها مؤرخو الجيش مع حراسه بعد بضعة أشهر من الإعدام. ونظرًا لالتزام الجنود بالتعليمات المتعلقة بسرية هذه المهمة، فلم يكن من الممكن الوصول إلى أي أدلة وثائقية بتوقيتات حقيقية، ولذلك كان من المستحيل تحديد تواريخ دقيقة لبعض الأحداث المذكورة هنا. كذلك نظرًا لأن هذا التقرير مستمدًا من الذكريات، فلم يتم وضع الجمل الحوارية بين علامات الاقتباس، إلا في الحالات القليلة التي كان فيها العديد من المشاركين يتشاركون نفس الذكرى لحدث معين.
** اُستخدمت أسماء مستعارة للجنود الذين لم يتم إجراء مقابلات معهم للإعداد للكتاب وذلك بهدف حماية هويتهم، والأمر نفسه حدث مع مترجم صدام. هذا المقال هو مقتطف من كتاب السجين في قصره.. صدام حسين وحراسه الأمريكيون وما لم يتحدث عنه التاريخ من تأليف ويل باردنويربر. حقوق النشر والتأليف © 2017، ويل باردنويربر. أُعيد طباعته بإذن من سكريبنر، ختم الناشر لشركة سيمون آند شوستر.
ويليام باردنويربر
المصدر: مجلة نيوزويك الشرق الأوسط
https://ar.newsweekme.com/
كان أفراد الفرقة مفعمين بالقوة والإصرار، فضلًا عن كونهم مدربين تدريبا جيدًا، ولكن أيًا منهم لم يتم تأهيله للمهمة التي أُسندت إليهم في غضون بضعة أشهر من وصولهم إلى بغداد. إذ تم تكليف الفرقة بحراسة “معتقل رفيع المستوى” – إنه صدام حسين، الرئيس السابق للعراق. وكان قد تم خلع هذا الديكتاتور الوحشي من خلال عملية غزو عسكري ضخم، ثم ألقي القبض عليه بعد تسعة أشهر من الهرب، ليصبح أشهر سجينًا في العالم.
وفور تلقي الأخبار، قال عدد قليل من أفراد فرقة الشرطة العسكرية مازحين: “يجب أن نقتله”. كان بعضهم يعرف أن هذا المعتقل الذي أُسندت إليهم مهمة حراسته كان قد قال ذات مرة: “أتمنى أن تأتي أمريكا بجيشها وتحتل العراق. أتمنى أن يفعلوا ذلك حتى نتمكن من قتل جميع الأميركيين. سنقوم بشيهم والتهامهم “.
من خلال السطور التالية، أقدم نظرة خاطفة حصرية داخل جدران قصر تحول إلى سجن ليُحتجز بداخله رجل واحد، كما أرصد بعض الملامح المحيرة للعلاقات المعقدة وغير المتوقعة التي نشأت وتطورت على مدى الأشهر الأربعة التالية التي سيقضيها هؤلاء الرجال معًا.
بغداد – سبتمبر 2006
مرة أخرى نجد الأخصائي ستيف هتشينسون يعمل ليلًا،
ولكنه هذه المرة يبعد مسافة نصف العالم تقريبًا عن منطقة ميدنايت روديو في وسط ولاية فلوريدا،
حيث كان يتطفل على مجموعة مشاكسين نصف مخمورين.
وذلك قبل بضعة أسابيع من تكليفه هو وزملاء فرقته ضمن سرية الشرطة العسكرية في شارع 551 – المعروفة باسم سوبر 12- بمهمة سرية للغاية: وهي حراسة صدام خلال فترة محاكمته أمام القضاء العراقي عن بعض الفظائع العديدة التي ارتكبها على مدى العقدين الماضيين، اللذين حكم خلالهما بلاده بوحشية مفرطة.
كانت الأوامر التي تلقاها هتش وفريقه سوبر 12 تقتضي عدم الكشف عن طبيعة المهمة لأى شخصٍ كان، حتى لأفراد أسرهم. ولم يُسمح لهم باقتناء دفتر يوميات، كما كانت جميع رسائلهم الإلكترونية تحت المراقبة، فضلًا عن أنهم كانوا يخضعون لعمليات تفتيش عشوائية للتأكد من أنهم لا يدونون ملاحظات حول ما كانوا يفعلونه أو يرونه أو يسمعونه أو حتى يفكرون به*
بدأت أول نوبة عمل لهتش في حراسة سجينه الشهير في منتصف الليل. كان كلاهما يقيمان داخل ثنايا المحكمة العراقية العليا، وهي محكمة بُنيت خصيصًا لمحاكمة صدام وسبعة من المدعي عليهم الآخرين بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية. وأسفل قاعة المحكمة كان يوجد صف من الزنازين تحت الأرض، عبارة عن غرف نصفها من الجدران والنصف الآخر من الزجاج المضاد للرصاص على غرار “غرفة الاستجواب في الأفلام” – حيث كان يقيم صدام وعدد من المدعى عليهم الآخرين عندما كانوا يُستدعون للمثول أمام المحكمة.
أطلق فريق سوبر 12 اسم “السرداب” على مقر الإقامة الخاص بهم تحت قاعة المحكمة. فالمكان مظلم 24 ساعة في اليوم لأنه في أي وقت من الأوقات يكون بعضهم نائمين، وقد تحولت حياتهم الآن إلى حلقة لا نهائية من نوبات حراسة لصدام مدة كلٍ منها ثماني ساعات. إذ كانت الأوامر تقتضي بقائه تحت المراقبة في جميع الأوقات للتأكد من عدم إلحاق أي ضرر به، سواء بيده أو بيد أي شخص آخر.
وكان الأمريكيون قد أنشأوا مبنى المحكمة العراقية العليا عقب الإطاحة بنظام صدام إثر غزو عسكري واسع النطاق، حيث كان المقر السابق للمحكمة يقع داخل مبنى حزب البعث السابق الذي كان عبارة عن مبنى ضخم قائم على أعمدة. وقد تم إنشاء المبنى الجديد للمحكمة العراقية العليا على غرار محاكم جرائم الحرب التابعة للأمم المتحدة، بينما تقرر أن تعمل المحكمة وفقًا لإجراءات المحكمة الجنائية العراقية. ورأت المحكمة استهلال محاكمة صدام بقضية قتل 148 شخصًا من الشيعة في بلدة الدجيل ردًا على محاولة اغتيال فاشلة تعرض لها عند زيارته لتلك البلدة في أوائل الثمانينيات. وقد بدا اختيار هذه القضية كجريمة أولى لمحاكمة صدام أمرًا غريبًا بالنسبة للكثيرين، بالنظر إلى عمليات القتل الأخرى المعروفة التي كان هو مسؤولًا عنها، وأبرزها الهجمات الكيميائية على الأكراد العراقيين خلال الحرب الإيرانية العراقية. وهي الهجمات التي أسفرت عن مقتل الآلاف بطريقة بشعة، بمن فيهم النساء والأطفال.
خلال عمليات الانتشار السابقة ضمن فرقة سوبر 12، كان هتش هو “المسؤول عن الصراخ بالأوامر والتعليمات في وجه المحتجزين” – كان مهمته هي توصيل رسالة إلى المحتجزين بأنه لن يتم التسامح مع أي تجاوز. يقول هتش: “عليك أن تعطيهم تلك الصدمة الأولية، حيث تقف في مواجهتهم مباشرةً، على بعد بوصة واحدة تقريبًا من وجوههم، وتصرخ مرددًا القواعد والتعليمات”. ويضيف “مهمتك هي إثبات أن الحارس له السيطرة المطلقة”. لكن هتش كان يعلم أنه لن يصرخ في وجه هذا السجين.
بينما كان هتش يجلس مرتخيًا على ذلك الكرسي المعدني العتيق خارج الزنزانة، كان بإمكانه رؤية صدام وهو مستسلم لنوم عميق. هذا الرجل الذي لطالما اعتقد أنه شيطان متوحش ها هو الآن على بعد بضعة أقدام منه، يستغرق في نوم هادئ.
فوجئ هتش بحالة من التوتر تنتابه فاقت شدتها توقعاته، فأخذ يذكر نفسه بأن عليه أن يكون حذرًا الليلة. إذ كانت هناك شائعات مستمرة تفيد بأن المتمردين العراقيين سيحاولون تحرير صدام، و قد تم إبلاغه كذلك بأن يحذر من احتمالية محاولة أحد الجنود غير المتزنين قتل الدكتاتور السابق، إما بدافع الانتقام وتحقيق القصاص أو سعيًا للشهرة.
ولتمضية الوقت، أخذ هتش يتصفح بنفاذ صبر الرواية المصورة الشر المُقيم :- الرمز “فيرونيكا” (على مدى عملية الانتشار هذه، تصفح هتش جميع كتب هاري بوتر، وروايات سلسلة “هانغر غايمز”، وذلك بغرض أن يجد ما يناقشه مع ابنتيه البالغتين من العمر 4 و 6 أعوام عند عودته إلى منزله.)
وفجأة، انطلق صوت بدد السكون: إذ بدأ علي حسن المجيد-أحد كبار مساعدي صدام السابقين – في رفع الآذان للصلاة. كان على الشهير ب- “علي الكيماوي” – متهمًا بأنه ساعد في شن حملة إبادة جماعية باستخدام أسلحة كيميائية وتقليدية لإبادة الأكراد العراقيين بحجة أنهم يمثلون تهديدًا لحكم صدام. وقد أدى هذا الهجوم الكيميائي إلى مقتل ما لا يقل عن 000 5 رجل وامرأة وطفل، وربما ارتفع العدد إلى 10,000 شخص. ومن خلال اضطهاده المنهجي للأكراد، قد يكون علي الكيماوي مسؤولًا عن وفاة أكثر من 100,000 شخص.
انتزع الصوت صدام من أحلامه، وبدأ في تمتمة الآذان في حين لا يزال مستلقيًا على فراشه. بدا لهتش أنه يحرك شفتيه بصورة روتينية وبدون أي مشاعر. فعلى الرغم من أن حزب البعث الذي كان يقوده صدام كان حزبًا مدنيًا من الناحية النظرية، إلا أن هذا الدكتاتور كان قد أطلق “حملة إيمانية” خلال فترة التسعينات من أجل دفع العراق في اتجاه أكثر تدينًا وورعًا. كما اعتاد التبرع بالدم بانتظام، حتى أن نسخة كاملة من القرآن الكريم كُتبت بدمه.
بغداد- أكتوبر 2006
عندما لم يكن صدام مطلوبًا للمثول أمام المحكمة العراقية العليا، كان فريق سوبر 12 المكون من أفراد من الشرطة العسكرية يتولى حراسته داخل قصر مفخخ بالقرب من المطار في جزيرة صغيرة لا يمكن الوصول إليها إلا بواسطة جسر متحرك. وقد أطلق فريق سوبر 12 على الجزيرة التي تم إنشاؤها وسط بحيرة صناعية اسم “الصخرة”، تيمنًا بفيلم عن سجن الكاتراز يحمل الاسم نفسه.
[caption id="attachment_6243" align="aligncenter" width="800"] احد قصور الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين المبني على جزيرة وبحيرة اصطناعيتين. واسمى الجنود الأميركيون المكان “الصخرة” تيمنا بسجن ألكتراز.[/caption]
كانت هذه الكوكبة الممتدة من المقار الحكومية السابقة والقصور، والتي كانت هذه الجزيرة جزءًا صغيرًا منها، هي المكان الذي كان يقضي فيه صدام ووزرائه المفضلين أوقاتًا ممتعة في نزهات الصيد التي يتبعها حفلات عشاء باهظة التكاليف. وهو أيضًا المكان الذي اعتاد فيه ابنه عدي على إقامة حفلات ماجنة سادية تقدم خلالها المشروبات الكحولية والمخدرات. وبعد أن تم الاستيلاء علي هذا المكان بعد فترة وجيزة من الغزو، أُطلق عليه الآن اسم كامب فيكتوري، إذ كان يشبه نموذجًا مصغرًا لأمريكا، حيث يوجد به فروع لمطاعم برجر كينغ وصبواي العالمية، كما كان يستضيف مجموعة واسعة من الفنانين، من نجم الأغاني الريفية توبي كيث إلى نجوم مصارعة المحترفين. (وكان الجنود مولعين بشكل خاص بنجمات المصارعة النسائية دبليو دبليو إي ديفا شبه العاريات.)
كانت هناك تعليمات لدى فريق سوبر 12 بتجنب التفاعل مع صدام أثناء القيام بكل ما من شأنه أن يبقيه آمنًا وراضيًا. فلم تكن القيادة الأمريكية تريد منح الفرصة لإثارة حتى مجرد الادعاء الخافت بأنه يتعرض لسوء المعاملة، إذ كانت ترى أنه كلما كان صدام يشعر بحالة من الرضا، كلما مرت المحاكمة بسلاسة. في البداية، كان أفراد فرقة الشرطة العسكرية حريصين على عدم الانخراط في أي محادثة معه، وعملوا على أن تقتصر تعاملاتهم معه على مجرد الردود الباردة “نعم يا سيدي” أو “لا، يا سيدي” . ولكنهم كانوا يقضون معه 24 ساعة في اليوم، فكان لابد من حدوث بعض التقارب على كلا الجانبين.
وكان هتش، بوصفه فرد شرطة عسكرية مخضرم، يرى أن حدوث أي تقارب مع المحتجزين هو فكرة سيئة، فضلًا عن أنه كان حذرًا جدًا من هذا السجين على وجه التحديد. فعلى أية حال فإن هذا هو الرجل الذي رد على طلب زوجة بتحرير زوجها – وهو وزير حكومي كان قد سُجن لتقديمه اقتراحًا لم يعجب صدام – عن طريق إرسال الوزير إلى منزل زوجته في حقيبة سوداء، مقطع الأوصال.
بالنسبة لهؤلاء الجنود الشباب، كانت مهمة حراسة صدام أشبه بمشاهدة أسد خلال زيارة لحديقة الحيوان ، فعلى الرغم من أن الأسد حيوان قاتل، إلا أنه نادرًا ما يفعل أي شيء سوى الجلوس وتناول الطعام والنوم، وفقط في بعض الأحيان يتفضل بالمشي عبر القفص لإثارة جمهوره. ولكن هذا الشعور بالحذر والتحفز الشديد الذي كان طبيعيًا في البداية، سرعان ما تراجعت حدته مع تتابع الأيام الهادئة التي تكاد لا تشهد أي أحداث تذكر. وبعد بضعة أسابيع من بدء مهمتهم، كان كلًا من هتش وبول سفار يجلسان أمام صدام في المنطقة الترفيهية المخصصة له في الهواء الطلق بالقرب من زنزانته. وعلى الرغم من أن طول هذه المنطقة لم يكن يتجاوز 15 قدمًا وعرضها 7 أقدام، وأنها كانت محاطة بجدران خرسانية طويلة مغطاة بأسلاك شائكة، إلا أنها كانت تقدم شيئًا ذو قيمة كبيرة لسجين يقضى معظم وقته داخل زنزانة بلا نوافذ: إذ كانت تعرض له لمحة من سماء بغداد الزرقاء.
جلس المترجم جوزيف** بجانب صدام على تلك الكراسي البلاستيكية التي تفترش الفناء المرصوف، على جانب واحد من طاولة بلاستيكية صغيرة. بينما جلسا سبار وهتش مقابلهما على الجانب الأخر. كان صدام وجوزيف يدخنان سيجار من نوع كوهيبا ويتبادلان الحديث كأنهما متقاعدان يحضران عشاء محلي ويتابعان أخبار النميمة المحلية. لم يكن هتش وسفار يفهمان اللغة العربية، ولكن صدام، كما كان الحال دائمًا، بدا هادئ الأعصاب على نحو لا يُصدق بالنسبة لرجل قيد المحاكمة ويواجه احتمال عقوبة الإعدام. وربما يرجع السبب وراء هذا الهدوء إلى أنه كان للمرة الأولى منذ عقود ينعم بالأمان داخل شرنقة واقية، معزولًا عن التهديدات الداخلية والخارجية التي كانت مصدر قلق دائم له منذ اللحظة التي استولى فيها على السلطة. لقد أحكم صدام قبضته على أمته بدافع الخوف وجنون الشك والاضطهاد، ولكن هذا الخوف تبدد الآن – كان صدام يدرك جيدًا أن الآلاف من العراقيين مستعدون للتضحية بحياتهم عن طيب خاطر مقابل الفوز بفرصة غرس سكين في صدره أو ذبحه وهو نائم.
ويبدو أن صدام كان يجد متعة هائلة حتى في أبسط الأشياء، مثل تدخين سيجاره الكوبي. فكان يسحب سيجاره من ماركة كوهيبا بعناية – تميل إلى الأسلوب المسرحي – من علبة المناديل المبللة الفارغة التي كان يحتفظ بالسجائر فيها. ثم يشعل السيجار، ويتلذذ بكل نفس قبل الزفير. (وقد أخبر حراسه بفخر أن الزعيم الكوبي فيدل كاسترو هو من جعله يدمن تدخين السيجار.)
تحول جوزيف فجأة من صدام إلى هتش قائلًا: إنه يريد أن يعرف من أين أنت، وما هي جنسيتك.
اندهش هتش من السؤال وقال. قل له أمريكا.
قال جوزيف: لا، لا، قبل ذلك.
– حسنًا، أعتقد من أوروبا …
فرد صدام قائلًا : لا، لا، هناك أكثر من ذلك، وهنا تبين أنه كان يتابع المحادثة من البداية. وكانت هذه إحدى المؤشرات الأولى التي بينّت لفرقة سوبر 12 أن إنجليزية صدام كانت جيدة بشكل مدهش، ولكنهم عرفوا أنه يستخدمها على نحو استراتيجي.
لم يكن هتش متأكدًا من غرض صدام من السؤال، فقال. ما الذي يريده مني تحديدًا؟
– إنه فقط يريد أن يعرف أصولك.
الآن أدرك هتش أن صدام لديه فضول بشأن عرقه، ربما لأن بشرته قد تحولت إلى لون داكن على نحو ملفت جرّاء التعرض المستمر لشمس العراق التي لا ترحم.
– ممم، حسنًا، أصولي تمتد إلى الأمريكيين الأصليين.
فإذا بصدام يضع أحد أصابعه خلف رأسه كأنها ريشة وآخر أمام فمه، محاكيًا صيحة الحرب لدى الهنود الحمر. فانفجر هتش ضاحكًا.
[caption id="attachment_6244" align="aligncenter" width="800"]

وكان صوت الراديو البدائي الذي يقتنيه صدام ينبعث بهدوء في الخلفية. وعلى الرغم من أنه كان قد عُرض عليه اقتناء وسائل تسلية أكثر عصريةً، مثل مشغل دي في دي متنقل، إلا أنه فضل جهاز الراديو القديم، المزود بهوائي لالتقاط الإشارة من سماء الصحراء. كان عادةً ما يتنقل بين المحطات العربية ومحطات موسيقى البوب الأمريكية، وأشار أحد الحراس الشباب إلى أنه كان يتوقف دائمًا إذا صادف ووجد إحدى أغنيات المغنية الأمريكية ماري جي بلايدج.
فتح صدام كتابًا كان قد وضعه أمامه على الطاولة البلاستيكية. وأخذ يقلب صفحاته بينما ينظر الجنديين من فوق كتفه، كان يتفحص كل صفحة بعناية من خلال نظارة القراءة التي كان يضعها، ويتوقف بين الحين والأخر عندما تظهر صورة تثير ذكرى معينة لديه. توقف وأشار إلى صورة لنفسه عندما كان صبي صغير في المدرسة. وحقيقة أنه استطاع الالتحاق بالمدرسة هي في الواقع إحدى القصص المزيفة التي تم ابتداعها ضمن جهود صنع أسطورة حزب البعث. كان صدام طفلًا طموحًا يتطلع باستماته للهروب من إساءات زوج أمه والمستقبل البائس الذي ينتظره كأحد مزارعي الكفاف في قرية العوجا ذات المياه الراكدة والفقر المدقع. وفي إحدى الليالي، تسلل صدام إلى خارج الكوخ الطيني الذي تعيش فيه والدته، وشق طريقه عبر الطرق المقفرة التي تأوي قطاع الطرق، متجهًا إلى منزل خاله خير الله طلفاح في تكريت. وكان خاله ضابطًا سابقًا في الجيش العراقي وقوميًا عراقيًا قضى عدة سنوات من حياته في السجن بسبب مشاركته في تمرد ضد البريطانيين. وبالفعل تبناه خاله وأدخله المدرسة.
قال صدام بينما لا يزال يحدق في الصورة: طردني مدير المدرسة عندما كنت صغيرًا!
ثم أوضح أن مدير المدرسة أثار غضب خاله بشدة عندما قام بطرد صدام خارج المدرسة، واعتبر خاله الأمر إهانة لجميع أفراد العائلة.
يقول صدام “دفع مدير المدرسة ثمنًا غاليًا لهذه الإهانة. فعندما سمع خالي بالأمر، أعطاني بندقية، وقال لي تأكد من أنهم سوف يسمحون لك بالعودة!”
تناول صدام رشفة من الشاي، وأخذ نفسًا من السيجار، ثم تراجع في جلسته إلى الخلف وقد علت وجهه ابتسامة ذات مغزى، تاركًا للجنود مساحة لتخيل مصير هذا المدير البائس.
بغداد-أكتوبر 2006،
“أيها المجرم شديد الأهمية، إننا سوف نتحرك الليلة”
وكانت قلة من الحراس هم من ينادونه أحيانًا بهذا اللقب “المجرم شديد الأهمية”، فمعظمهم كان ملتزم بمناداته بلقب ” سيدي”.
كان الحارس المختص آدم روجرسون كان قد تلقى تعليمات تفيد بأنه سيتم تسليم صدام إلى المحكمة العراقية العليا في وقت متأخر من تلك الليلة . وقد أراد روجيرسون إعطاء صدام إشعار مسبق بذلك حتى يكون لديه الوقت لحزم حقائبه.
بدأ صدام أداء طقوسه المعتادة قبل الانتقال. أولًا، خرج وسقى نباتاته بعناية، وهي فقط مجرد أعشاب وحشائش تنمو في قطعة صغيرة من التربة في المنطقة الترفيهية المخصصة له. بعد ذلك، بدأ في حزم أمتعته في حقيبة من الصوف الخشن ذات اللون الأخضر الزيتوني التي يصدرها الجيش. كان يحرص على وضع الأشياء التي كان يتوقع أن يحتاج إليها أولًا في الأعلى. وكان أحد الحراس قد وضع بدله التي كان الجيش ينظفها بالبخار بشكل منتظم في أكياس الملابس بعناية.
[caption id="attachment_6245" align="aligncenter" width="768"]

كانت آخر الأشياء التي وضعها في الحقيبة هي مفكرته وأقلامه، وعلبة المناديل المبللة الفارغة التي كان يحتفظ بالسجائر فيها، وكان يحرص أن تكون هذه الأشياء في أعلى حقيبته لكي يتمكن من الوصول إليها سريعًا عندما يصل إلى المحكمة. تقدم بعض الحراس إلى الأمام للمساعدة في حمل حقائبه الثقيلة، فضلاً عن حقيبة الملابس التي تحتوي على بدلاته. وعندما تقدم هتش لمساعدة صدام بحمل أحد الحقائب، وجدها ثقيلة جدًا فقال ممازحًا صدام، “ما هذا؟، هل وضعت علي في هذه الحقيبة؟” ضحك صدام من قلبه، وعندما وصل إلى المحكمة، شارك تلك المزحة مع علي الكيماوي.
بغداد- أواخر فصل الخريف، 2006
كان صدام يخطو داخل المنطقة الترفيهية في الهواء الطلق مرتديًا الدشداشة وحاملًا مسبحة صلاة، ويتمتم بسلسلة من الكلمات. وفي وقت لاحق يتذكر هتش أنه كان عندما يرى صدام يخطو ذهابًا وإيابًا على هذا النحو، كان يهمهم في نفسه قائلًا ، “لولا أنني أعرفه لظننت أنه فقد عقله”. وفي بعض الأحيان، كان أسلوبه وحركته يوحيان إلى حراسه بأنه يتدرب على الأشياء التي يعتزم قولها في المحكمة. إذ كان صدام ينتظر الحكم في قضية الدجيل بينما يعمل على تحضير دفاعه عن نفسه ضد اتهامات الإبادة الجماعية في حملة الأنفال الوحشية ضد الأكراد العراقيين خلال الحرب الإيرانية العراقية. ولابد أن صدام كان يدرك أن سلوكه يبدو غريبًا، فقد كان يرفع نظره في بعض الأحيان، ويرى عيني حارسه تلاحقانه، فيبتسم ابتسامة ذات مغزى.
كان هتش يتصفح إحدى نسخ مجلة بيبول كعادته خلال هذه المهمة، عندما لاحظ أن صدام قد توقف عن الحركة وأخذ ينظر إليه. قال هتش “هل من شيء سيدي؟ ” كان هتش يتوقع أن يطلب منه صدام شيئًا، ولكن، لدهشته، كان صدام يريد فقط التحدث معه.
قال صدام “أنا و برزان، كنا نصطاد بالقرب من هنا، أتعلم، كنا نصطاد سمك كبير جدًا هناك، لا يوجد الكثير منه،” واستمر صدام في التحدث واصفًا مختلف ثغرات الصيد في البحيرة القريبة.
كان حرس صدام يعرفون أن تلك الأسماك يمكن أن تنمو بدرجة كبيرة جدًا. والواقع أن الجنود الأمريكيين في بغداد اعتادوا تسمية سمك الشبوط الهائل الحجم باسم “سمك صدام” وذلك بعد أن سمعوا شائعات بأنه كان يملأ البحيرات بهذا النوع من السمك. وكما هو الحال مع معظم القصص التي تدور حول صدام، كان هناك جانب مظلم للقصة. إذ سمع فريق سوبر 12 أن أتباع صدام كانوا يلقون جثث الناس الذين يطلقون النار عليهم في تلك البحيرة، مما تسبب في اكتساب الأسماك الكبيرة طعم الدم البشري.
والآن حتى مع سجن صدام ومحاكمته، ما تزال أعمال العنف الوحشية منتشرة على نطاق واسع في العراق. الآن، بدلًا من معارضي النظام، أصبح ضحايا الحرب الأهلية المتفاقمة في العراق هم الذين يتم إلقاءهم في الماء. يذكر هتش أنه اصطاد ذات مرة “جثة عائمة” من البحيرة، حيث كانت الجثة المتحللة تتفكك في يده بينما كان يكافح لإخراجها.
[caption id="attachment_6246" align="aligncenter" width="768"]

ومع تصعيد فرق الموت الطائفية من عمليات التطهير العرقي التي تقوم بها في أحياء بغداد، أصبحت الاكتشافات المروعة في جميع أنحاء المدينة أمرًا روتينيًا. فعلى سبيل المثال، تم اكتشاف عشرات الجثث داخل الحواجز المعدنية التي تهدف إلى منع مخلفات البحيرة من الدخول إلى نهر دجلة. وكان الضحايا مقيدين ومعصوبي العينين وقد تم إطلاق النار على رؤوسهم. وبعد ثلاث سنوات من تصعيد العنف في العراق، أصبحت مثل هذه الاكتشافات المروعة أمرًا شائعًا.
بغداد – ديسمبر 2006
هب هواء ديسمبر البارد فوق البحيرة، مقتحمًا جدران المكان الذ كان في السابق قصر صدام والآن أصبح سجنه. وبين عشية وضحاها، انخفضت درجات الحرارة إلى ما فوق درجة التجمد بقليل.
بدا صدام هادئًا بشكل ملحوظ، على الرغم من أنه قد صدر بحقه حكمًا بالإعدام في قضية الدجيل قبل بضعة أسابيع فقط. وكان هو وحراسه يعرفون أن يوم إعدامه يقترب بسرعة، ما لم يتم قبول الاستئناف، وهو أمر لم يكن يتوقعه أحد.
وبينما كان روجرسون يجلس بالخارج مع صدام، الرجل الذي أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش أنه جزء من “محور الشر”، قال له صدام “هل تريد الجلوس بجانب النار معي؟” وأشار صدام إلى كرسي بلاستيكي بالقرب من المدفأة، التي كان يحب أن يطلق عليها “النار”. كان يحب أن يطلق تسميات على الأشياء الجامدة، فكان يشير إلى دراجة التمارين الصغيرة المتهالكة التي كان يركبها قبل فحوصاته الطبية اليومية على أنها “مهر”.
كانت نشأة روجرسون في كليفلاند، لذلك كان معتادًا على تلك الأجواء الشتوية القاسية، لكنه قبل بسعادة مشاركة صدام هذا القدر الضئيل من الدفء.
أشعل صدام أحد سجائره الكوبية الضخمة من ماركة كوهيبا، وبدأ الدخان المتصاعد من كل نفخة يتدفق بلطف في السماء ليلاً. كان روجرسون يتوق لتدخين سيجارة، لكنه كان لا يُسمح للحراس بالتدخين أثناء الخدمة. وبدلا من ذلك، فتح روجرسون طرد صغير كانت زوجته قد أرسلته له من ولاية أوهايو حيث يعيشان. كان الطرد يحتوي على بعض الشموع التي اشترتها زوجته من متجر وول مارت. ولاحظ روجرسون أن صدام يبدو مفتونًا بالشموع.
قال روجرسون: أرسلت لى زوجتي هذه الشموع.
– أرى ذلك. ماذا ستفعل بهم؟
– في الواقع، أنا لست بحاجة إليهم، وأضاف ضاحكًا “ولكنني أفكر في استخدامها لتحسين الرائحة في المكان. أنت تعرف كيف يكون الحال عندما يقضى كثير من الأشخاص وقتًا طويلًا معًا، تكون هناك رائحة مقززة جدًا.
ضحك الرجلين. وناول روجرسون أحد الشموع المعطرة لصدام حتى يتمكن من إلقاء نظرة فاحصة.
– هل يمكنني أن أحتفظ بواحدة؟
– بالتأكيد.
– اشكرك يا صديقي.
ثم التقط صدام قلمًا وبدأ ينقش على الشمعة بعض الكلمات بالعربية . وبعد بضع دقائق، قال: “لقد كتبت قصيدة لابنتي،” ثم طلب من روجرسون أن يعطيها للصليب الأحمر ليسلمها إليها.
بعد بضعة أسابيع، كان يوم عيد الميلاد، وكان صدام في “الصخرة”، في انتظار قرار بشأن الاستئناف. كان هناك عدد محدود من الزينة للاحتفال بموسم العطلات، بالإضافة إلى شجرة عيد الميلاد الصغيرة التي قام شخص ما بوضعها في غرفة الكمبيوتر في مقر إقامة فرقة سوبر 12. لا شيء آخر يميز اليوم عن أي يوم عادي، باستثناء عدد قليل من طرود الرعاية الإضافية التي تصل عبر البريد.
كان روجرسون يشعر بسعادة بالغة لسببين:
تحطيم قوة الخصم: أنفق صدام ونظامه الكثير من الوقت والجهد في خلق الأساطير حول الدكتاتور، وتصويره على أنه المخلص للناس وذلك بغرض إخضاعهم.
فتح طرد كبير خاص يحتوي على كمية كبيرة من حبوب عيد الميلاد كاب إن كرانش تكفي للفرقة بأكملها.
كان صدام بالخارج، يجلس بالقرب من “النار”، في ضوء المصباح الوحيد الموجود في الهواء الطلق، ممسكًا بقلمه، ومركزًا اهتمامه على شمعة أخرى من شموع روجرسون. وبعد أن انهمك في مهمته لفترة من الوقت، نظر إلى الجنرال جيمس مارتن، الذي كان يحاول البقاء دافئا على الجانب الآخر من المنطقة الترفيهية.
– هذه لزوجتي.
– حقًا؟
كان مارتن مندهشًا، لأن صدام نادرًا ما يأتي على سيرة زوجاته. كان كلما أُثير موضوع العائلة، يوجه دفة الحديث باتجاه أبنائه.
– نعم، لقد كان لدينا تقليد خاص في كل عام في عطلة عيد الميلاد، كنا نضيء شمعة. وقد كتبت هذه القصيدة لها بهذه المناسبة.
لم يكن هذا الحديث عن تقليد عيد الميلاد غير المتوقع هو المرة الأولى التي يُظهر فيها صدام تقاربًا مفاجئ لشيء يتعلق بالمسيحية. إذ كان قد سأل مؤخرا عما إذا كان بإمكانه مشاهدة فيلم آلام المسيح. وبعد انتهاء الفيلم، قال صدام إنه يشعر بالغضب من الطريقة التي تعاملت بها الشخصيات اليهودية في الفيلم مع المسيح. وقال “ربما كان العراقيين سيعاملونه على نحو أفضل”. كما قال إن فيلم “آلام المسيح” هو أفضل فيلم شاهده على الإطلاق.
في اليوم التالي، 26 ديسمبر 2006، تم رفض الاستئناف المقدم من صدام على الحكم الصادر بحقه في مذبحة الدجيل، بما يعني أنه سوف يتم تنفيذ عقوبة الإعدام بحقه قريبًا.
لم يكن قرار المحكمة برفض الاستئناف مفاجئًا لفرقة سوبر 12. فقد كانوا قد سمعوا بعض الشهادات المروعة حول هجماته على الأكراد باستخدام الأسلحة الكيميائية. ومع ذلك، فقد كافحوا للربط بين تلك التصرفات الوحشية وهذا الرجل اللطيف الذين يقضون معه 24 ساعة في اليوم سبعة أيام في الأسبوع على مدى الأشهر العديدة الماضية. يقول روجرسون في وقت لاحق محاولًا استعادة الأحداث: “كنت بينما أتابع المحاكمة، وأكتشف ما فعله بشعبه، أشعر بالاشمئزاز الشديد منه، لقد قتل أعدادًا هائلة من الناس، بل لقد دمر مدينة بأكملها هكذا ببساطة…. ولكن عندما كنت أراه بعد ذلك، كانت نظرتي إليه تختلف تمامًا، لأنه لم يكن هذا الشخص معي ….لقد كانت علاقتي به أشبه بالعلاقة بين جد وحفيده”.
[caption id="attachment_6247" align="aligncenter" width="800"]

وفي نفس يوم عيد الميلاد هذا، نقش صدام قصيدة أخرى على شمعة، ولكنها كانت هذه المرة لفرقة سوبر 12. وبعد أن قام بترجمتها من العربية، قال لهم أنها تعبر عن أمنياته لهم بالعودة إلى ديارهم في أمريكا والاحتفال بعيد الميلاد مع أسرهم بدلًا من قضاء العيد في حراسته في العراق.
بغداد – 30 ديسمبر 2006
لقد حانت اللحظة.
تدثر الرجل العجوز بمعطفه الطويل الأسود، ثم وضع على رأسه قبعة من الفراء داكنة اللون لتحميه من البرد القارس. كانت تلك الليلة واحدة من أبرد الليالي التي مرت على فرقة سوبر 12 في العراق. وقف ستة منهم خارج القصر المفخخ، مسلحين بكامل معداتهم القتالية، يبدون أشبه بالأبطال الخارقين في ستراتهم وخوذاتهم الواقية من الرصاص المصنوعة من مادة الكيفلار، ونظارات الرؤية الليلية التي تشبه تلك التي يرتديها الضباط في سلاح الفرسان. ويحمل كلٍ منهم عدته القتالية كاملة والمكونة من مئات اللفات من الذخيرة.
وبينما كان هؤلاء الجنود الستة يمشطون المحيط الخارجي بحثًا عن أي شيء خارج عن المألوف، كان الجنود الستة الآخرين يقتادون سجينهم إلى سيارة همفي مصفحة لقطع مسافة قصيرة إلى منطقة هبوط المروحية.
تحرك السجين العجوز ذو اللحية رمادية اللون بتأنٍ وروية، وربما حتى بفخر واعتداد، محاولًا شد قامته للحفاظ على وضعية مستقيمة على الرغم من الحالة السيئة التي كان عليها ظهره. وفي مكان قريب، كانت هناك مروحيتين من طراز بلاك هوك تنتظران، وكانت الأجنحة الدوارة للمروحيتين قد أثارت سحبًا ضبابية للتمويه، من خلال الاحتكاك بركام الرمل والحصى. وقد أضاف الوهج الأخضر للنظارات الليلية التي يرتديها الجنود المزيد من حالة الإزعاج الناجمة عن تلك الدوامة من الصوت ودرجة الحرارة والضوء.
[caption id="attachment_6248" align="aligncenter" width="768"]

تحلّق الحراس الستة حول الرجل العجوز في طريقهم إلى إحدى مروحيتي بلاك هوك، انحنوا ليتفادوا الأجنحة الدوارة، ثم صعدوا على متن المروحية بحذر شديد، حرصًا على عدم تعثر أحدهم، إذ أن نظارات الرؤية الليلية التي يرتدونها تعيق إدراكهم العميق. وانضم إليهما طبيبان ومترجم، بما أسهم في رفع درجة حرارة جسم المروحية الضيق على نحو أشعر الجميع بمزيد من الدفء. وبمجرد صعود المجموعة الأولى على متن المروحية، سرعان ما استقل الحراس الباقون المروحية بلاك هوك الثانية.
بعد ذلك، شقّت المروحيتين طريقهما صعودًا، لتبدأ رحلتهما القصيرة إلى منشأة عراقية في حي الكاظمية الشيعي في بغداد. ظهرت لمحة خوف خاطفة على وجه الرجل العجوز عندما ارتدّت المروحية قليلا بفعل بعض التيارات الهوائية المضطربة. إنه دائمًا ما كان يشعر بالتوتر العصبي خلال رحلاته بالطائرة. ولكنه في هذه المرة يلتزم الهدوء والصمت.
وبمجرد هبوط المروحيتين، قاد الجنود صدام إلى مركبة من طراز “رينو”، وهو مركبة مدرعة ضخمة. ثم صعد الجنود، وكذلك المترجم. وساد صمت مهيب بينما المركبة رينو التي تزن 13 طن تشق طريقها عبر المجمع. لم يكن هناك أي نوع من المزاح العرضي الذي عادةً ما يسود الأجواء في مثل هذا النوع من المهمات؛ فقط صمت مطبق.
بعد رحلة قصيرة، حان الوقت لتسليم سجينهم. نهض صدام من مقعده وعدّل معطفه بعناية، ليتأكد من أنه لم يتجعد خلال هذه الرحلة القصيرة. (كان أحد الجنود قد نظفه باستخدام فرشاة إزالة الوبر قبل أن يغادروا زنزانته.)
ثم بدأ صدام في السير ببطء من مقعده في الخلف باتجاه الباب الأمامي للمركبة. وبينما كان يتقدم في طريقه إلى مقدمة المركبة المدرعة ذات الإضاءة الخافتة، توقف صدام ليصافح كل واحدٍ من حراسه الأمريكيين، وفي حالات قليلة كان يهمس لبعضهم بكلمات خاصة.
أدمعت عيون بعض الجنود.
وعندما وصل الرجل العجوز إلى مقدمة المركبة، استدار إليهم مرة أخيرة وقال: “ليكن الله معكم”.
ثم انحنى قليلا واستدار نحو الباب.
[caption id="attachment_6249" align="aligncenter" width="768"]

———————————-
* ملاحظة بشأن الروايات المذكورة: يستند هذا التقرير إلى ما يقرب من 100 مقابلة أجراها المؤلف مع مسؤولين حكوميين أمريكيين ودوليين، وكذلك مع جنود ومتخصصين ومراقبين ومحامين لديهم رؤى خاصة حول اعتقال صدام وسجنه وإعدامه، فضلًا عن مقابلات أجراها مؤرخو الجيش مع حراسه بعد بضعة أشهر من الإعدام. ونظرًا لالتزام الجنود بالتعليمات المتعلقة بسرية هذه المهمة، فلم يكن من الممكن الوصول إلى أي أدلة وثائقية بتوقيتات حقيقية، ولذلك كان من المستحيل تحديد تواريخ دقيقة لبعض الأحداث المذكورة هنا. كذلك نظرًا لأن هذا التقرير مستمدًا من الذكريات، فلم يتم وضع الجمل الحوارية بين علامات الاقتباس، إلا في الحالات القليلة التي كان فيها العديد من المشاركين يتشاركون نفس الذكرى لحدث معين.
** اُستخدمت أسماء مستعارة للجنود الذين لم يتم إجراء مقابلات معهم للإعداد للكتاب وذلك بهدف حماية هويتهم، والأمر نفسه حدث مع مترجم صدام. هذا المقال هو مقتطف من كتاب السجين في قصره.. صدام حسين وحراسه الأمريكيون وما لم يتحدث عنه التاريخ من تأليف ويل باردنويربر. حقوق النشر والتأليف © 2017، ويل باردنويربر. أُعيد طباعته بإذن من سكريبنر، ختم الناشر لشركة سيمون آند شوستر.
ويليام باردنويربر
المصدر: مجلة نيوزويك الشرق الأوسط
https://ar.newsweekme.com/