وكانت النقطة المركزية لإستراتيجية تل أبيب تتمثل في عقد لقاء قمّة إسرائيلي إفريقي نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2017 بمدينة لومي عاصمة توجو، ...
وكانت النقطة المركزية لإستراتيجية تل أبيب تتمثل في عقد لقاء قمّة إسرائيلي إفريقي نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2017 بمدينة لومي عاصمة توجو، وهو لقاء كان موجه إلى كل رؤساء دول القارة السمراء، وكان ينتظر منه أن يسلط الأضواء على التعاون في مجالات الهندسة والعلوم الزراعية والري والأمن وغير ذلك.
لكن التوترات ظلت تتراكم طيلة سنة 2017، ففي بداية شهر يونيو / حزيران أثار حضور نتنياهو القمة الواحدة والخمسين للمجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا المنعقدة في مونروفيا (عاصمة ليبيريا) إنتقاد كل من السنغال والنيجر ونيجيريا. كما عمدت المملكة المغربية التي كانت تستعد للعودة إلى هذه المنظمة بقوة إلى إلغاء مشاركتها في آخر لحظة خشية أن يعتبر حضورها تطبيعاً مع إسرائيل. والحال أن البلدين قد قطعا علاقتهما الدبلوماسية منذ سنة 2000، لقد أعتبرت ردود الفعل هذه بمثابة الفأل السيئ بالنسبة إلى إنعقاد قمة أكتوبر / تشرين الأول. وبدون أن يكون الأمر مفاجئاً، توالى خلال الصيف عن حضور قمة "لومي" المزمعة، وفي مطلع شهر سبتمبر / أيلول، أطلقت دولة جنوب أفريقيا رصاصة الرحمة على مبادرة نتنياهو، عند ذاك أصبح إلغاء القمة أمراً ضرورياً خاصة وأن المظاهرات التي ينظمها المعارضون لرئيس توجو تسببت في شلل البلد المضيف.
لقد ظلت العلاقات بين إسرائيل وإفريقيا منذ البداية تتراوح بين التردد ومنطق التقارب، فعندما أصدرت منظمة الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين يوم 29 نوفمبر / تشرين الثاني 1947 كانت القارة السمراء لا تزال ترزح تحت الهيمنة الإستعمارية، وقد صوتت الدولتان الإفريقتان الوحيدتان المستقلتان في ذلك الوقت وهما ليبيريا وأثيوبيا تصويتاً مختلفاً، فالأولى صوتت بنعم أما الثانية فقد أمتنعت عن التصويت. بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى سنة 1948 وتوقيع معاهدات الهدنة خلال شهر فبراير / شباط 1949 بين إسرائيل وجيرانها العرب (مصر، الأردن، لبنان، سوريا) تواترت الحوادث على خطوط المواجهة وخاصة على الحدود المصرية، خلال سنة 1955 تم إقصاء إسرائيل من حضور مؤتمر دول عدم الإنحياز المنعقد في "باندونج" بأندونسيا والذي شارك فيه الرئيس جمال عبد الناصر بعد الإتفاق على إنسحاب القوات البريطانية من الأراضي المصرية، وقد أدى العدوان الثلاثي سنة 1956 إلى زيادة حدة التوتر بين القاهرة وتل أبيب التي أحتلت سيناء لمدة محدودة في خضم التدخل الفرنسي البريطاني قبل أن تحول أنظارها صوب أفريقيا جنوب الصحراء والتركيز على "المجموعة المضطهدة"، وقد شهدت بداية سنوات الستينات من القرن الماضي توافد عدد كبير من القادة الأفارقة على إسرائيل في زيارات تفقدية دراسية للكيبوتزات (التعاونيات الزراعية)(1).

إن إسرائيل لا تغفل أبداً عن مصالحها الإستراتيجية، فقد كان إفتتاح أول قنصلية في أثيوبيا عام 1956 شاهداً على أهمية مضيق عدن، فبفضل النفاذ إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي وعبر خليج العقبة كانت تل أبيب تخطط لتكون جسراً مع البلدان المتقدمة، ولتروج لنفسها كنموذج في مجالات كثيرة: التربية، الصحة، الجيش، المخابرات، إلخ. وقد ساندت هذه الدولة الناشئة تكوين هيئات إستصلاح زراعي في نيجيريا، كما ساعدت عديد من البلدان (السنغال، مدغشقر، كينيا، فولتا العليا (بوركينا فاسو لاحقاً)، مالي، داهوماي (بنين لاحقاً)، الكاميرون، كوت ديفوار، غانا، نيجيريا، تنزانيا، غينيا) على إنشاء منظمات شبابية للإستغلال الزراعي على شاكلة المنظمات الإسرائيلية للشباب المقاتل.
خلال سنة 1958قامت جولدا مائير (Golda Meir) وزيرة الشئون الخارجية الإسرائيلية آنذاك بجولة أفريقية أصبحت مرجعاً للعمل الدبلوماسي في إسرائيل، تقول هذه المرأة التي ستصبح رئيسة للوزراء سنة 1969 مفسرة: " إذا كنا قد زرنا أفريقيا، أليس ذلك بقصد حشد مزيد من الأصوات لدى منظمة الأمم المتحدة؟ نعم، طبعاً، هذا واحد من أهدافنا، وهو هدف مشرف تماماً "(2). ثم إن هذه العلاقات تكتسي بعداً إقتصادياً كبيراً إذ تم توقيع إتفاقيات تعاون مع كل من أثيوبيا وأوغندا وزائير وكينيا ورواندا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى.
ورغم ذلك فقد قررت غينيا – كوناكري وهي الدولة المقربة من مصر قطع علاقاتها مع تل أبيب إثر حرب يونيو 1967. وستزداد التوترات حدة مع حرب أكتوبر / تشرين الأول 1973، إذ عمدت الأغلبية الساحقة من الدول الإفريقية (بإستثناء مالاوي وبوتسوانا وسوازيلاند وليسوتو وجنوب أفريقيا) إلى النسج على منوال غينيا. ولقد نظمت جامعة الدول العربية عزلة إسرائيل مستفيدة في نفس الوقت من عامل الإسلام داخل البلدان الإسلامية وعامل المكسب النفطي، كما جاءت العلاقات القائمة بين تل أبيب وبريتوريا اللتين تعتبران نفسيهما مواليتين للغرب وفي مقدمة المتصدين للشيوعية لتغذي أعداء عواصم القارة السمراء "لإسرائيل". ورغم الحظر العالمي المفروض على نظام التفرقة العنصرية فقد تواصل توريد ألماس من جنوب أفريقيا إلى إسرائيل، كما أدى التعاون العسكري الوثيق إلى مساندة إسرائيلية "لجنوب أفريقيا" في مقاومتها لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي (بزعامة نلسون مانديلا الذي كان يقاوم ضد نظام التفرقة العنصرية) وضد الحركات الثورية في كل من أنجولا وموزمبيق وناميبيا.

على الرغم من معاهدة السلام الموقعة في كامب ديفيد مع مصر سنة 1978 فإن إسرائيل لم تفلح في إستعادة موقعها ، وإذا كان الجلاء عن سيناء الذي تم خلال شهر أبريل / نيسان 1982 قد أسقط واحدة من حجج خصومها، فإن القضية الفلسطينية التي أعتبرت مسألة تحرر وطني ظلت أولوية بالنسبة إلى حكومات القارة، فقد واصلت هذه الدول دعمها المستمر للفلسطينيين داخل الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة منذ أنضمت إليها منظمة التحرير الفلسطينية بصفة عضو مراقب سنة 1974: الإقرار بحق تقرير المصير سنة 1975، التصويت يوم 10 نوفمبر / تشرين الثاني من نفس السنة على القرار رقم 3379 الذي يؤكد إن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية (قبل أن يتم إلغاؤه لاحقاً سنة 1991)، إلخ. هناك حدثان متناقضان سيقعان لاحقاً ليطبعا العلاقات الإفريقية الإسرائيلية، أولهما هو التوقيع على إتفاقيات أوسلو سنة 1993 وهو حدث سيؤدي تدريجياً إلى إعتراف حوالي أربعين دولة أفريقية من منطقة جنوب الصحراء بإسرائيل حتى لقد أصبح لديها اليوم عشرة بعثات في القارة (3). الحدث الثاني هو نهاية نظام التفرقة العنصرية والنصر الإنتخابي الذي حققه المؤتمر الوطني الإفريقي سنة 1994، وهو حدث سيؤدي إلى تحول موقف جنوب أفريقيا إلى طليعة المساندين للقضية الفلسطينية.
كما أدانت البلدان الإفريقية والعربية السياسة التي تنتهجها إسرائيل داخل الأراضي المحتلة وذلك بمناسبة إنعقاد مؤتمر منظمة الأمم المتحدة حول العنصرية الذي أحتضنته مدينة "دوربان" في جنوب أفريقيا سنة 2001، وفي سنة 2002 فقدت إسرائيل موقع المراقب داخل الإتحاد الإفريقي، وهي صفة ظلت تتمتع بها منذ سنة 1993، وفي سنة 2009 ساند الأفارقة لجنة التحقيق الأممية التي رأسها القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد جولدستون (Richard Goldstone) والتي تتهم إسرائيل بإرتكاب جرائم في غزة أثناء عملية "الرصاص المصهور". خلال سنة 2011 صوتت كل البلدان الإفريقية تقريباً لصالح إنضمام فلسطين إلى منظمة اليونسكو (بإستثناء بوروندي والكاميرون والرأس الأخضر وكوت ديفوار ورواندا وتوجو وأوغندا وزامبيا التي أمتنعت عن التصويت).
كما أنتظمت مظاهرات شعبية حاشدة في كل من دكار (السنغال) وكيب تاون (جنوب أفريقيا) وزاريا (نيجيريا) والرباط (المغرب) تأكيداً لتضامن الشعوب مع الفلسطينيين أثر تدخل الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة خلال شهري يوليو وأغسطس / تموز – آب 2014. في عام 2016 بعد أن عرضت السنغال (بالإشتراك مع ماليزيا ونيوزيلاندا وفنزويلا) على التصويت أمام منظمة الأمم المتحدة القرار رقم 2334 الذي يقضي بإدانة إحتلال الأراضي الفلسطينية عمدت تل أبيب إلى إستدعاء سفيرها بدكار (قبل إستئناف العلاقات بين البلدين خلال شهر يونيو / حزيران 2017).

لكن هذه التوترات التي سببتها الأراضي المحتلة لم تمنع إسرائيل من التطبيع التدريجي لعلاقاتها مع العواصم الإفريقية خاصة وأن السلطة الفلسطينية أصبح ينظر إليها في عديد من دول القارة على أنها مجرد سلطة سياسية عادية وأن مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة لم يعد يطرح من زاوية التحرر الوطني، وقد زاد سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011 بإعتباره من أنصار التيار المتشدد، وتفاقم المنافسة الإقتصادية في تفكيك الجبهة الإفريقية "المعارضة لإسرائيل"، ويذهب نعيم جيناه المدير التنفيذي لمركز أفريقيا والشرق الأوسط إلى تفسير ذلك بقوله: "إن بعض بلدان القارة بصدد إستبدال مفهوم التضامن بمفهوم المصالح الخاصة" (4).
مع مرور الوقت أصبحت إسرائيل كذلك مرجعاً في المجال الأمني، ففي الوقت الذي يتفاقم فيه الإرهاب في منطقة الساحل والقرن الإفريقي صارت إسرائيل تحتل موقعاً ملائماً على خارطة بيع الأسلحة ومجال المخابرات، فقد عمدت كينيا بحكم ما تعرضت له خلال السنوات الأخيرة من هجمات إرهابية إلى تدعيم تعاونها مع تل أبيب في مجال مكافحة الإرهاب، وهو تعاون أنطلق من خلال عملية إحتجاز رهائن مشهودة جرت في مطار عنتيبي (أوغندا) سنة 1976، كما تلقت نيروبي دعماً قوياً من أجهزة الأمن الإسرائيلية خلال المجزرة التي أرتكبت في مركز وست جيت التجاري سنة 2013، أما في شرق إفريقيا فتعتبر كينيا وأوغندا أبرز المحطات الإسرائيلية في التصدي لتوسع العمليات الإرهابية، إذ توفر لهما "إسرائيل" خدمات مستشارين خاصين ووحدات قتالية صغيرة وطائرات بدون طيار وتجهيزات مراقبة وزوارق بحرية سريعة، أما جنوب السودان فقد أصبح بعد إستقلالة سنة 2013 على لائحة حلفاء إسرائيل الجدد في المنطقة، ذلك أن البلدين يتقاسمان نفس العداء الموجه ضد النظام القائم في الخرطوم والمساند لحركة "حماس" الفلسطينية.
وإذا كانت منطقة القرن الإفريقي تكتسي أهمية إستراتيجية بسبب حركة الملاحة البحرية في خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر فإن العمليات الإرهابية التي ترتكب في الساحل وفي غرب أفريقيا (بوركينا فاسو، مالي، النيجر، كوت ديفوار) من شأنها أن توسع من مجال التدخل المحتمل لتل أبيب فيوم 14 أبريل / نيسان 2014 أتخذ الجنرال ماهر هيريس (Maher Heres)، المكلف بتكوين كتيبة التدخل السريع بالكاميرون، من مدينة مروى العاصمة الإقليمية لمنطقة أقصى الشمال، قاعدة له بقصد إدارة الأزمات المرتبطة بتنظيم "بوكو حرام الإرهابي"، وتذهب وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى أن إتفاقيات التسليح من البلدان الإفريقية أخذت في الإرتفاع المتواصل منذ سنة 2009 حتى تجاوزت المائة مليون دولار في السنة (5).

فضلاً عن مبيعات الأسلحة والإتجار في الحجارة الكريمة تغطي العلاقات الإقتصادية مجالاً واسعاً يمتد من أنشطة المناجم إلى الأعمال التجارية الزراعية مروراً بالتكنولوجيا البيئية، فشركة مجموعة باني شتاينمتز للموارد تساهم في إستخراج النحاس والكوبالت والنفط والغاز من ناميبيا وأنجولا وبوتسوانا وجنوب أفريقيا وسيراليون وغيرها، أما في كينيا، فإن الشركات الإسرائيلية تستثمر في مجال البنية التحتية للفنادق، وأما في كوت ديفوار فإن مجموعة تيليمانيا بصدد بناء محطة مركزية لتوليد الطاقة الحرارية تعمل بالغاز الطبيعي بسونجن داجبي بضواحي أبيدجان، كما تضمن صناعة الأحجار الكريمة تدفق الأموال الإسرائيلية نحو جنوب إفريقيا وبوتسوانا، ويسوق الإسرائيليون خبرتهم بالبيئات القاحلة بقصد عرض ما لهم من دراية في مجال الطاقة الشمسية وتطهير المياه والزراعة، ففي كل سنة تدرب الوكالة الإسرائيلية للتعاون الدولي (ماشاف) حوالي مائة خبير إفريقي خاصة في مجال الزراعات الغذائية والصناعات الزراعية، وقد أعلن المعهد الإسرائيلي للصادرات والتعاون الدولي أن كلاً من جنوب أفريقيا وأنجولا وبوتسوانا وكينيا ونيجيريا وتوجو تعد من ضمن الشركاء التجاريين المنتظمين. وبالجملة فإن الصادرات الإسرائيلية نحو القارة الإفريقية قد تجاوزت المليار دولار منذ سنة 2015، ولئن كانت أفريقيا لا تمثل سوى نسبة 2 بالمائة من التجارة الخارجية الإسرائيلية فإن إمكانية تطور المبادلات تبقى بالغة الأهمية (6).
إن فلسطين العضو المراقب في الإتحاد الإفريقي لتنظر بعين الخشية إلى عملية الإستدراج الدبلوماسي التي تقوم بها تل أبيب في الوقت الذي تراوح فيه عملية السلام مكانها، وقد عمد وفد من "فتح" خلال شهر أكتوبر / تشرين الأول 2017 إلى القيام بجولة في العواصم الإفريقية، لكن هناك دول لها مواقف أخرى، فرئيس راوندا بول كاجامي الذي ستتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي بداية من يناير / كانون الثاني 2018 صرح خلال شهر مارس / آذار الماضي أثناء زيارة إلى واشنطن" "إن راوندا هي بلا شك صديقة لإسرائيل "التي" لها الحق في الوجود والإزدهار بصفتها عضواً كامل العضوية في المجتمع الدولي"، وعلى الرغم من إلغاء قمة "لومي"، فإن العودة الدبلوماسية القوية لإسرائيل إلى القارة الإفريقية قد لا تكون سوى مسألة وقت.
الحاجي بوبا نوحو
باحث مشترك في مركز مونتسكيو للبحوث السياسية (جامعة بوردو – مونتاني).
الهوامش:
المصدر: مجلة لوموند ديبلوماتيك ملحق الأهرام المصري
لكن التوترات ظلت تتراكم طيلة سنة 2017، ففي بداية شهر يونيو / حزيران أثار حضور نتنياهو القمة الواحدة والخمسين للمجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا المنعقدة في مونروفيا (عاصمة ليبيريا) إنتقاد كل من السنغال والنيجر ونيجيريا. كما عمدت المملكة المغربية التي كانت تستعد للعودة إلى هذه المنظمة بقوة إلى إلغاء مشاركتها في آخر لحظة خشية أن يعتبر حضورها تطبيعاً مع إسرائيل. والحال أن البلدين قد قطعا علاقتهما الدبلوماسية منذ سنة 2000، لقد أعتبرت ردود الفعل هذه بمثابة الفأل السيئ بالنسبة إلى إنعقاد قمة أكتوبر / تشرين الأول. وبدون أن يكون الأمر مفاجئاً، توالى خلال الصيف عن حضور قمة "لومي" المزمعة، وفي مطلع شهر سبتمبر / أيلول، أطلقت دولة جنوب أفريقيا رصاصة الرحمة على مبادرة نتنياهو، عند ذاك أصبح إلغاء القمة أمراً ضرورياً خاصة وأن المظاهرات التي ينظمها المعارضون لرئيس توجو تسببت في شلل البلد المضيف.
لقد ظلت العلاقات بين إسرائيل وإفريقيا منذ البداية تتراوح بين التردد ومنطق التقارب، فعندما أصدرت منظمة الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين يوم 29 نوفمبر / تشرين الثاني 1947 كانت القارة السمراء لا تزال ترزح تحت الهيمنة الإستعمارية، وقد صوتت الدولتان الإفريقتان الوحيدتان المستقلتان في ذلك الوقت وهما ليبيريا وأثيوبيا تصويتاً مختلفاً، فالأولى صوتت بنعم أما الثانية فقد أمتنعت عن التصويت. بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى سنة 1948 وتوقيع معاهدات الهدنة خلال شهر فبراير / شباط 1949 بين إسرائيل وجيرانها العرب (مصر، الأردن، لبنان، سوريا) تواترت الحوادث على خطوط المواجهة وخاصة على الحدود المصرية، خلال سنة 1955 تم إقصاء إسرائيل من حضور مؤتمر دول عدم الإنحياز المنعقد في "باندونج" بأندونسيا والذي شارك فيه الرئيس جمال عبد الناصر بعد الإتفاق على إنسحاب القوات البريطانية من الأراضي المصرية، وقد أدى العدوان الثلاثي سنة 1956 إلى زيادة حدة التوتر بين القاهرة وتل أبيب التي أحتلت سيناء لمدة محدودة في خضم التدخل الفرنسي البريطاني قبل أن تحول أنظارها صوب أفريقيا جنوب الصحراء والتركيز على "المجموعة المضطهدة"، وقد شهدت بداية سنوات الستينات من القرن الماضي توافد عدد كبير من القادة الأفارقة على إسرائيل في زيارات تفقدية دراسية للكيبوتزات (التعاونيات الزراعية)(1).

إن إسرائيل لا تغفل أبداً عن مصالحها الإستراتيجية، فقد كان إفتتاح أول قنصلية في أثيوبيا عام 1956 شاهداً على أهمية مضيق عدن، فبفضل النفاذ إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي وعبر خليج العقبة كانت تل أبيب تخطط لتكون جسراً مع البلدان المتقدمة، ولتروج لنفسها كنموذج في مجالات كثيرة: التربية، الصحة، الجيش، المخابرات، إلخ. وقد ساندت هذه الدولة الناشئة تكوين هيئات إستصلاح زراعي في نيجيريا، كما ساعدت عديد من البلدان (السنغال، مدغشقر، كينيا، فولتا العليا (بوركينا فاسو لاحقاً)، مالي، داهوماي (بنين لاحقاً)، الكاميرون، كوت ديفوار، غانا، نيجيريا، تنزانيا، غينيا) على إنشاء منظمات شبابية للإستغلال الزراعي على شاكلة المنظمات الإسرائيلية للشباب المقاتل.
خلال سنة 1958قامت جولدا مائير (Golda Meir) وزيرة الشئون الخارجية الإسرائيلية آنذاك بجولة أفريقية أصبحت مرجعاً للعمل الدبلوماسي في إسرائيل، تقول هذه المرأة التي ستصبح رئيسة للوزراء سنة 1969 مفسرة: " إذا كنا قد زرنا أفريقيا، أليس ذلك بقصد حشد مزيد من الأصوات لدى منظمة الأمم المتحدة؟ نعم، طبعاً، هذا واحد من أهدافنا، وهو هدف مشرف تماماً "(2). ثم إن هذه العلاقات تكتسي بعداً إقتصادياً كبيراً إذ تم توقيع إتفاقيات تعاون مع كل من أثيوبيا وأوغندا وزائير وكينيا ورواندا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى.
ورغم ذلك فقد قررت غينيا – كوناكري وهي الدولة المقربة من مصر قطع علاقاتها مع تل أبيب إثر حرب يونيو 1967. وستزداد التوترات حدة مع حرب أكتوبر / تشرين الأول 1973، إذ عمدت الأغلبية الساحقة من الدول الإفريقية (بإستثناء مالاوي وبوتسوانا وسوازيلاند وليسوتو وجنوب أفريقيا) إلى النسج على منوال غينيا. ولقد نظمت جامعة الدول العربية عزلة إسرائيل مستفيدة في نفس الوقت من عامل الإسلام داخل البلدان الإسلامية وعامل المكسب النفطي، كما جاءت العلاقات القائمة بين تل أبيب وبريتوريا اللتين تعتبران نفسيهما مواليتين للغرب وفي مقدمة المتصدين للشيوعية لتغذي أعداء عواصم القارة السمراء "لإسرائيل". ورغم الحظر العالمي المفروض على نظام التفرقة العنصرية فقد تواصل توريد ألماس من جنوب أفريقيا إلى إسرائيل، كما أدى التعاون العسكري الوثيق إلى مساندة إسرائيلية "لجنوب أفريقيا" في مقاومتها لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي (بزعامة نلسون مانديلا الذي كان يقاوم ضد نظام التفرقة العنصرية) وضد الحركات الثورية في كل من أنجولا وموزمبيق وناميبيا.

على الرغم من معاهدة السلام الموقعة في كامب ديفيد مع مصر سنة 1978 فإن إسرائيل لم تفلح في إستعادة موقعها ، وإذا كان الجلاء عن سيناء الذي تم خلال شهر أبريل / نيسان 1982 قد أسقط واحدة من حجج خصومها، فإن القضية الفلسطينية التي أعتبرت مسألة تحرر وطني ظلت أولوية بالنسبة إلى حكومات القارة، فقد واصلت هذه الدول دعمها المستمر للفلسطينيين داخل الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة منذ أنضمت إليها منظمة التحرير الفلسطينية بصفة عضو مراقب سنة 1974: الإقرار بحق تقرير المصير سنة 1975، التصويت يوم 10 نوفمبر / تشرين الثاني من نفس السنة على القرار رقم 3379 الذي يؤكد إن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية (قبل أن يتم إلغاؤه لاحقاً سنة 1991)، إلخ. هناك حدثان متناقضان سيقعان لاحقاً ليطبعا العلاقات الإفريقية الإسرائيلية، أولهما هو التوقيع على إتفاقيات أوسلو سنة 1993 وهو حدث سيؤدي تدريجياً إلى إعتراف حوالي أربعين دولة أفريقية من منطقة جنوب الصحراء بإسرائيل حتى لقد أصبح لديها اليوم عشرة بعثات في القارة (3). الحدث الثاني هو نهاية نظام التفرقة العنصرية والنصر الإنتخابي الذي حققه المؤتمر الوطني الإفريقي سنة 1994، وهو حدث سيؤدي إلى تحول موقف جنوب أفريقيا إلى طليعة المساندين للقضية الفلسطينية.
كما أدانت البلدان الإفريقية والعربية السياسة التي تنتهجها إسرائيل داخل الأراضي المحتلة وذلك بمناسبة إنعقاد مؤتمر منظمة الأمم المتحدة حول العنصرية الذي أحتضنته مدينة "دوربان" في جنوب أفريقيا سنة 2001، وفي سنة 2002 فقدت إسرائيل موقع المراقب داخل الإتحاد الإفريقي، وهي صفة ظلت تتمتع بها منذ سنة 1993، وفي سنة 2009 ساند الأفارقة لجنة التحقيق الأممية التي رأسها القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد جولدستون (Richard Goldstone) والتي تتهم إسرائيل بإرتكاب جرائم في غزة أثناء عملية "الرصاص المصهور". خلال سنة 2011 صوتت كل البلدان الإفريقية تقريباً لصالح إنضمام فلسطين إلى منظمة اليونسكو (بإستثناء بوروندي والكاميرون والرأس الأخضر وكوت ديفوار ورواندا وتوجو وأوغندا وزامبيا التي أمتنعت عن التصويت).
كما أنتظمت مظاهرات شعبية حاشدة في كل من دكار (السنغال) وكيب تاون (جنوب أفريقيا) وزاريا (نيجيريا) والرباط (المغرب) تأكيداً لتضامن الشعوب مع الفلسطينيين أثر تدخل الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة خلال شهري يوليو وأغسطس / تموز – آب 2014. في عام 2016 بعد أن عرضت السنغال (بالإشتراك مع ماليزيا ونيوزيلاندا وفنزويلا) على التصويت أمام منظمة الأمم المتحدة القرار رقم 2334 الذي يقضي بإدانة إحتلال الأراضي الفلسطينية عمدت تل أبيب إلى إستدعاء سفيرها بدكار (قبل إستئناف العلاقات بين البلدين خلال شهر يونيو / حزيران 2017).

لكن هذه التوترات التي سببتها الأراضي المحتلة لم تمنع إسرائيل من التطبيع التدريجي لعلاقاتها مع العواصم الإفريقية خاصة وأن السلطة الفلسطينية أصبح ينظر إليها في عديد من دول القارة على أنها مجرد سلطة سياسية عادية وأن مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة لم يعد يطرح من زاوية التحرر الوطني، وقد زاد سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011 بإعتباره من أنصار التيار المتشدد، وتفاقم المنافسة الإقتصادية في تفكيك الجبهة الإفريقية "المعارضة لإسرائيل"، ويذهب نعيم جيناه المدير التنفيذي لمركز أفريقيا والشرق الأوسط إلى تفسير ذلك بقوله: "إن بعض بلدان القارة بصدد إستبدال مفهوم التضامن بمفهوم المصالح الخاصة" (4).
مع مرور الوقت أصبحت إسرائيل كذلك مرجعاً في المجال الأمني، ففي الوقت الذي يتفاقم فيه الإرهاب في منطقة الساحل والقرن الإفريقي صارت إسرائيل تحتل موقعاً ملائماً على خارطة بيع الأسلحة ومجال المخابرات، فقد عمدت كينيا بحكم ما تعرضت له خلال السنوات الأخيرة من هجمات إرهابية إلى تدعيم تعاونها مع تل أبيب في مجال مكافحة الإرهاب، وهو تعاون أنطلق من خلال عملية إحتجاز رهائن مشهودة جرت في مطار عنتيبي (أوغندا) سنة 1976، كما تلقت نيروبي دعماً قوياً من أجهزة الأمن الإسرائيلية خلال المجزرة التي أرتكبت في مركز وست جيت التجاري سنة 2013، أما في شرق إفريقيا فتعتبر كينيا وأوغندا أبرز المحطات الإسرائيلية في التصدي لتوسع العمليات الإرهابية، إذ توفر لهما "إسرائيل" خدمات مستشارين خاصين ووحدات قتالية صغيرة وطائرات بدون طيار وتجهيزات مراقبة وزوارق بحرية سريعة، أما جنوب السودان فقد أصبح بعد إستقلالة سنة 2013 على لائحة حلفاء إسرائيل الجدد في المنطقة، ذلك أن البلدين يتقاسمان نفس العداء الموجه ضد النظام القائم في الخرطوم والمساند لحركة "حماس" الفلسطينية.
وإذا كانت منطقة القرن الإفريقي تكتسي أهمية إستراتيجية بسبب حركة الملاحة البحرية في خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر فإن العمليات الإرهابية التي ترتكب في الساحل وفي غرب أفريقيا (بوركينا فاسو، مالي، النيجر، كوت ديفوار) من شأنها أن توسع من مجال التدخل المحتمل لتل أبيب فيوم 14 أبريل / نيسان 2014 أتخذ الجنرال ماهر هيريس (Maher Heres)، المكلف بتكوين كتيبة التدخل السريع بالكاميرون، من مدينة مروى العاصمة الإقليمية لمنطقة أقصى الشمال، قاعدة له بقصد إدارة الأزمات المرتبطة بتنظيم "بوكو حرام الإرهابي"، وتذهب وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى أن إتفاقيات التسليح من البلدان الإفريقية أخذت في الإرتفاع المتواصل منذ سنة 2009 حتى تجاوزت المائة مليون دولار في السنة (5).

فضلاً عن مبيعات الأسلحة والإتجار في الحجارة الكريمة تغطي العلاقات الإقتصادية مجالاً واسعاً يمتد من أنشطة المناجم إلى الأعمال التجارية الزراعية مروراً بالتكنولوجيا البيئية، فشركة مجموعة باني شتاينمتز للموارد تساهم في إستخراج النحاس والكوبالت والنفط والغاز من ناميبيا وأنجولا وبوتسوانا وجنوب أفريقيا وسيراليون وغيرها، أما في كينيا، فإن الشركات الإسرائيلية تستثمر في مجال البنية التحتية للفنادق، وأما في كوت ديفوار فإن مجموعة تيليمانيا بصدد بناء محطة مركزية لتوليد الطاقة الحرارية تعمل بالغاز الطبيعي بسونجن داجبي بضواحي أبيدجان، كما تضمن صناعة الأحجار الكريمة تدفق الأموال الإسرائيلية نحو جنوب إفريقيا وبوتسوانا، ويسوق الإسرائيليون خبرتهم بالبيئات القاحلة بقصد عرض ما لهم من دراية في مجال الطاقة الشمسية وتطهير المياه والزراعة، ففي كل سنة تدرب الوكالة الإسرائيلية للتعاون الدولي (ماشاف) حوالي مائة خبير إفريقي خاصة في مجال الزراعات الغذائية والصناعات الزراعية، وقد أعلن المعهد الإسرائيلي للصادرات والتعاون الدولي أن كلاً من جنوب أفريقيا وأنجولا وبوتسوانا وكينيا ونيجيريا وتوجو تعد من ضمن الشركاء التجاريين المنتظمين. وبالجملة فإن الصادرات الإسرائيلية نحو القارة الإفريقية قد تجاوزت المليار دولار منذ سنة 2015، ولئن كانت أفريقيا لا تمثل سوى نسبة 2 بالمائة من التجارة الخارجية الإسرائيلية فإن إمكانية تطور المبادلات تبقى بالغة الأهمية (6).
إن فلسطين العضو المراقب في الإتحاد الإفريقي لتنظر بعين الخشية إلى عملية الإستدراج الدبلوماسي التي تقوم بها تل أبيب في الوقت الذي تراوح فيه عملية السلام مكانها، وقد عمد وفد من "فتح" خلال شهر أكتوبر / تشرين الأول 2017 إلى القيام بجولة في العواصم الإفريقية، لكن هناك دول لها مواقف أخرى، فرئيس راوندا بول كاجامي الذي ستتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي بداية من يناير / كانون الثاني 2018 صرح خلال شهر مارس / آذار الماضي أثناء زيارة إلى واشنطن" "إن راوندا هي بلا شك صديقة لإسرائيل "التي" لها الحق في الوجود والإزدهار بصفتها عضواً كامل العضوية في المجتمع الدولي"، وعلى الرغم من إلغاء قمة "لومي"، فإن العودة الدبلوماسية القوية لإسرائيل إلى القارة الإفريقية قد لا تكون سوى مسألة وقت.
الحاجي بوبا نوحو
باحث مشترك في مركز مونتسكيو للبحوث السياسية (جامعة بوردو – مونتاني).
الهوامش:
- جورج شافار (George Chaffard)، "التعاون التقني يتطور بين إسرائيل وبعض بلدان أفريقيا السوداء"، لوموند ديبلوماتيك، يناير / كانون الثاني 1960.
- جولدا مائير (Golda Meir)، "حياتي"، منشورات روبير لا فون، باريس، 1975.
- جنوب أفريقيا، أنجولا، الكاميرون، كوت ديفوار، أريتريا، أثيوبيا، غانا، كينيا، نيجيريا، السنغال.
- (fr) 18سبتمبر / أيلول 2017.
- "زيارة معتبرة لمبيعات الأسلحة الإسرائيلية لإفريقيا"، التايمز الإسرائيلية، 25 مايو / أيار 2017، (http://fr.timesofisrael.com).
- الجهاز المركزي للإحصائيات، موجز الإحصائيات الإسرائيلية لسنة 2017، (cbs.gov.il).
المصدر: مجلة لوموند ديبلوماتيك ملحق الأهرام المصري