تبدو أن الحكمة في التعامل مع الوضع في سوريا بالنسبة الولايات المتحدة وحلفائها تنطلق من التسليم بنقطتين. النقطة الأولى: طالما استمر نظام إرها...
تبدو أن الحكمة في التعامل مع الوضع في سوريا بالنسبة الولايات المتحدة وحلفائها تنطلق من التسليم بنقطتين. النقطة الأولى: طالما استمر نظام إرهابي في استهداف المدنيين بلا هوادة، فلن ينتج عن ذلك أي خير، لا للسوريين ولا لجيران سوريا ولا للغرب. النقطة الثانية: إن هزيمة الدولة الإسلامية (داعش) تمثل فرصة لمرة واحدة، قد تضيع، للتوصل إلى بديل واضح وفاعل لبشار الأسد، وهو البديل الذي يؤدي غيابه إلى استمرار دعم بشار الأسد من قبل أقلية ذات وزن من السوريين.
الجزء الأول من هذا السلسة يتناول الأهمية الجيوسياسية للوقوف في وجه ذبح المدنيين في سوريا. أما الجزء الثاني فسيطرح كيفية الاستفادة من هزيمة داعش لتحقيق نتائج ذات أثر دائم.
الجزء الأول
إن الطبيعة المعقدة للصراع في سوريا، الذي يدخل عامه السابع، تلقي بظلال من الارتباك والتذبذب والجمود في الدوائر السياسية الغربية. فبينما يمارس النظام السوري القتل الجماعي، وتشارك روسيا وإيران في جرائم حرب في حين تتدعي شفاهةً دعم مبادرات السلام، وبينما تحاول المليشيات الكردية بدعم من الولايات المتحدة القضاء على تنظيم داعش في شرق سوريا، وبينما تقوم تركيا بمهاجمة نفس هؤلاء الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة، لا عجب أن السياسة الغربية تتلخص في القاسم المشترك الأدنى (بجانب الموقف من تنظيم داعش): ينبغي على نظام الأسد أن يمتنع عن استخدام الأسلحة الكيماوية القاتلة في عملية ذبح السوريين.
وصار التعقيد البالغ للصراع في سوريا، والطريقة التي تم بها تفكيك البلاد بواسطة عدد كبير من اللاعبين (على رأسهم النظام السوري)، تجعلان الكثيرين في الغرب يريدون الاشاحة بوجوههم بعيداً عن سوريا فحسب. فتعويذة الفوضى تلك من تباين اللاعبين وتضارب المصالح تُعجز الغرب عن صياغة سياسة فاعلة. ويبدو تحقيق أهداف لمثل تلك السياسة آمر غير قابل للتحقيق، كما تجعل الحديث عن تخطيط استراتيجية مجرد كتابة حبر على ورق.
على الجانب الآخر، لا تعاني كل من روسيا وإيران من مثل هذا العجز. فبدلاً من إطالة التأمل في المشكلة، قامت روسيا وإيران بتلخيص الوضع في هدفين محددين: بسط وجود نظام الأسد في الأركان الأربعة لسوريا المدمرة؛ ثم استخدام الابتزاز الديمغرافي لحمل الغرب على دفع تكلفة إعادة إعمار البلاد. وبالنظر للسجل الحافل لغرب بغياب القيادة في الملف السوري، من يضمن الوقوف في وجه تلك الأهداف؟
إلا أنه يجب الوقوف في وجه تلك الأهداف. فترميم نظام بشار الأسد لن يؤدي إلى نهاية النزاع الأهلي في سوريا، ولا لتعزيز إعادة إعمار الدولة.
لقد قام الأسد بالإشراف على آلة القتل المُمنهج والتهجير والاعتقال والتعذيب والاغتصاب والتجويع. فهو وحاشيته قد أرسوا قواعدا جديدة لانعدام الكفاءة واستشراء الفساد. بالإضافة لذلك، فإن الأسد ساعد وحرض على صعود التطرف الإسلامي في سوريا، وأيضا في العالم.
وحتى إذا ما خضع الاتحاد الأوروبي للابتزاز ودفع المليارات – وهو سيناريو غير مستبعد بالنظر إلى مستوى القيادة السياسية حاليا في القارة – فلن يمحو ذلك حقيقة ثابتة من حقائق الحياة السياسية: حتى المناطق التي تخضع لسيطرة الأسد يمكن أن يتم إفراغها سريعا من السكان، حين يتم ببساطة منح السوريين وثائق الثبوتية التي تمكنهم من مغادرة سوريا وإعادة الاستقرار في مكان آخر. فطالما استمر الأسد في الحكم – أسمياً على الأقل- سيستمر افراغ السكان، سواء في وجود أوراق الثبوتية أو بدونها.
وكما نجحت كل من موسكو وطهران في تركيز أهدافهما على نقاط محورية، ينبغي أن ينتهج الغرب ذات النهج. إن حماية المدنيين بالتخلص من حالة إطلاق اليد التي يتمتع بها شخص متورط في جرائم قتل جماعي يمثل نقطة انطلاق محورية. فبدون وجود إجراءات لحماية المدنيين، لا يمكن تحقيق تقدم يُذكر. حماية المدنيين هو الشرط المطلق الذي لا غنى عنه لتحقيق أي خطوة على طريق جيد بشأن سوريا. ولسنا بحاجة لمناقشة ملامح الطريق لفهم أنه إذا ما بقيت تلك العقبة – غياب حماية المدنيين – تسد الطريق، فلا جدوى من المضي أي خطوة، ولا وجهة جيدة يمكن الوصول اليها.
إلا أنه حين نتحدث عن حماية المدنيين من نظام غاشم مثل النظام السوري، سيواجه الحديث بتحفظات قوية حول “التدخل الإنساني”، كأنما الوقوف في وجه الأفعال الدموية التي يرتكبها الأسد أمر من النوافل، جيد، لكنه مشوب بالمخاطر؛ كأعمال فرق الكشافة.
ويتفنن من يصفون أنفسهم بمحللي السياسة الخارجية “الواقعيين” بالتقليل من شأن مبدأ حماية المدنيين. وعلى حد تعبير سامنثا باور في كتابها “مشكلة من الجحيم”، هناك تاريخ طويل وغير مشرف من التعامي واختلاق الأعذار حول عدم التعامل مع جرائم الإبادة وجرائم القتل على نطاق واسع بأشكاله الأخرى. فبالنسية للكثيرين، إنقاذ الأرواح لا يرقى لكونه أولوية من أولويات السياسة الخارجية، ولا يرتفع لمستوى “المصالح الوطنية”.
ربما يمكن “للواقعيين” أن يقتنعوا بجدوى العمل على تفكيك آلة القتل الجماعي، إذا ما أخذوا في الاعتبار التبعات الجيوسياسية لاستمرار الذبح الجماعي للمدنيين دون تدخل. وكان قرار باراك أوباما – الحاصل على جائزة نوبل للسلام – بجعل هدف حماية المدنيين أقل شأناً من هدف إبرام اتفاق نووي مع طرف ضالع في جرائم حرب، قرارا أبعد ما يكون عن ممارسة بلا كلفة للحذر وضبط النفس. بلا شك، كانت براجماتية أوباما الخالية من المشاعر هي رمية الزهر غير الموفقة في هذه المقامرة.
كان الإخفاق التام فيما يخص “الخط الأحمر” عام 2013 – الذي انطوى على قرار أمريكي واعي بترك السوريين بشكل كامل تحت رحمة نظام قاتل لحظة إبرام اتفاق حول الأسلحة الكيماوية – إشارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية صارا هدفين للإهانة. فالقرم تم الاستيلاء عليها، وحلفاء الناتو يتم التحرش بهم من قبل روسيا، والنظام الانتخابي الأمريكي تعرض لهجوم روسي. وبالأمس القريب، في 7 فبراير/شباط 2018 تحديداً، حاول الرئيس بوتين – في ظل توقعه بأنه محصن من الملاحقة ما أدى إلى نتائج كارثية – استهداف أمريكيين خلال عملية عسكرية عبر نهر الفرات في شرق سوريا.
وفي 4 مارس/آذار 2018، أصدر البيت الأبيض بياناً حول المذابح المستمرة التي يقوم بها النظام السوري وروسيا في شرق الغوطة، وجاء فيه، “على العالم المتحضر ألا يتسامح مع استمرار استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية”.
هل يعني ذلك أنه يمكن التسامح مع استهداف المدنيين بالبراميل المتفجرة وقنابل الجاذبية وقذائف المدفعية وقذائف الهاون والصواريخ؟ أيضا، كيف ينتوي “العالم المتحضر”- والذي يشمل على نحو محتمل الولايات المتحدة – “عدم التسامح” بشأن استخدام (على سبيل المثال) سلاح الكلورين، الذي يستشري استعماله؟ هل سيعبر عن عدم التسامح بعبارات غاضبة؟ هل يفهم المسئولون الأمريكيون أن الأعداء كما الأصدقاء يستمعون لتلك البيانات، ويستخلصون النتائج منها؟ فكما اتضح مراراً أثناء إدارة أوباما؛ الكلمات الأمريكية الفارغة تشجع الأعداء على المخاطرة، في ظل توقعهم عدم اتباع الكلمات بأفعال.
ويبدو أن إدارة ترامب قد اتبعت نفس سياسة أوباما من الناحية العملية (وإن لم يكن من الناحية الشفاهية) في الإشاحة بنظرها عن الفظائع التي تُرتكب بالجملة في سوريا، طالما كانت تلك الفظائع لا تشمل استعمال غاز السارين. وكما سبقت الإشارة، فإن روسيا والنظام السوري وإيران يفسرون ذلك الموقف الأمريكي باعتباره ضوء أخضر لارتكاب ما يحلو لهم ضد المدنيين، طالما كانت أسلحة القتل المستخدمة إما غير كيماوية، أو كيماوية ذات قوة قتل محدودة.
كيف لا يمكن لأعدائنا استغلال مثل ذلك التصريح الضمني بشكل كامل؟ وماذا يمنع روسيا من اختبار الولايات المتحدة من خلال اعتداء عسكري مباشر؟ إن نتيجة ذلك الاختبار- العديد من القتلى الروس – لا ينبغي أن تسفر عن تهاني تنم على رضا عن النفس. فهؤلاء العازمين على ضرب الولايات المتحدة في سوريا من أجل تطويع العالم، في حوزتهم أدوات حرب غير نظامية، من ضمنها الكثير من المقاتلين الأجانب المدعومين من إيران، وهؤلاء هم جنود لا سعر لهم بالنسبة لطهران.
ولو قام نظام الأسد بإمطار الغوطة الشرقية أو إدلب بغاز السارين، من المتوقع أن تقوم إدارة ترامب، في نقطة تحسب لها بشدة، بالحفاظ على مصداقية الولايات المتحدة، مثلما فعلت في أبريل/نيسان 2017 حين قامت باستهداف قاعدة جوية تابعة للنظام بصواريخ كروز، وتدمير كم كبير من مقاتلات النظام الجوية. ومما لا شك فيه أن هناك خطة لمثل تلك الضربة، إذا ما قام النظام السوري باستخدام غاز السارين مرة أخرى.
السؤال هو: لماذا لا يتم توجيه التحذير لروسيا بأن قتل المدنيين – بصرف النظر عن الأدوات المستخدمة في ذلك القتل – يجب أن يتوقف فوراً؟ ولماذا لا يتم تنفيذ خطط الرد تلك إذا لم يتوقف القتل؟ قد يحاجج البعض بأن رد فعل روسيا والنظام السوري قد يكون إغلاق المجال الجوي في شرق سوريا، حيث تنشط المقاتلات الجوية الأمريكية في مطاردة تنظيم داعش. نعم، ربما يحاولون فعل ذلك: حتى لو جاءت تلك الضربات الأمريكية رداً على استخدام غاز السارين. هل الولايات المتحدة بلا حول ولا قوة للرد على مثل ذلك التحرك؟ هل يقع حساب مخاطرة التصعيد بالكامل على عاتق الولايات المتحدة؟ هل الوزن العسكري للولايات المتحدة، من الناحية العملية، مساوي لوزن ليشتنشاين؟
ليس للولايات المتحدة أي اهتمام بغزو واحتلال سوريا. ولا يوجد ترتيب أمريكي لتغيير النظام هناك باستخدام القوة.
لكن استمرار إطلاق يد الأسد دون محاسبة في الذبح الجماعي للمدنيين ينطوي على تبعات شديدة السلبية على الغرب من الناحية الجيوسياسية، بما يتجاوز الأزمة الإنسانية التي غالبا ما تشحذ الاهتمام بوصفها.
كل هذا ونحن ننحي جانباً الأثر المدمر على أطفال سوريا، من تبعات تلك الرخصة الكيماوية، التي يحملها نظام الأسد لارتكاب أسوأ ما يمكنه. ماذا ينبغي على الرئيس الروسي والمرشد الأعلى الإيراني أن يفكروا بشأن عزم وجدية الولايات المتحدة، إذا كانت الرسالة التي توجه لهم مضمونها هو “لا شيء مجاوز للحدود بالنسبة لعميلكم، إلا إذا استخدم أسلحة كيماوية سيئة للغاية”؟ مثل سابقتها، تغامر إدارة ترامب بتغذية عدم الاستقرار العالمي بإبداء موقف ضعيف في سوريا.
ولن يكون من الممكن حماية المدنيين السوريين بشكل مطلق في كل مكان في كل وقت. إلا أنه بإنهاء حالة إطلاق يد الأسد تلك، يمكن اتخاذ خطوة واحدة إلى الأمام نحو عملية سلام ذات معنى في سوريا. وهذا هو الشرط المسبق لإقناع فلاديمير بوتين وعلى خامنئي بأن إسرائيل ليست الدولة الديمقراطية الوحيدة التي تقف مستعدة للدفاع عن نفسها. لا نتائج جيدة في سوريا “للعالم المتحضر” إذا تُرك المدنيين السوريين بلا أدنى حماية في مرمى نيران نظام الأسد.
الجزء الثاني
صار التعقيد المحير للصراع في سوريا، الذي يوشك على أن يدخل عامه السابع، يزيغ الأبصار ويدير الرؤوس بين القيادات السياسية كما الناخبين في الغرب. وبات السؤال غير القابل للإجابة – كيف يمكن وضع نهاية لذلك الصراع؟ – يُغرق أذكى العقول في الظلام واليأس.
على الجانب الآخر، فإن روسيا وإيران – لأسباب مختلفة وإن كانت متوافقة – قد وجدا طريقهما وسط الضباب والفوضى في سوريا عبر التمسك بهدفين محددين: الإبقاء على بشار الأسد في السلطة، ثم الابتزاز الديمغرافي للغرب حتى يدفع تكلفة إعادة إعمار البلاد، تحت إشراف نظام الأسد الفاسد وغير الكفء. بينما يقيد الغرب نفسه بنسيج من التفاصيل السياسية، ويعارض بصوت عال – ولكن بكل عجز- استمرار نظام الأسد في ارتكاب جرائم الحرب، ويحاول – بعد طول انتظار- إنهاء حربه ضد مجموعة المسلحين اللذين مارسوا الاغتصاب والنهب وسرقة البنوك في شرق سوريا، في حين تمضي موسكو وطهران في تنفيذ خطتهما.
الجزء الأول من مقال “سوريا بعد سبع سنوات من الثورة” حاول طرح اقتراح مباشر: لا أحد يعلم كيف ولا متى سينتهي ذلك الكابوس السوري، لكنه لا يمكن أن ينتهي طالما استمر غياب حماية المدنيين من مرمى نيران نظام الأسد. فالقتل الجماعي العمدي لا يمكن أن ينتج عنه حكم شرعي ومستقر.
وكما يبدو الأمر حالياً، أصبح على العائلات السورية وأطفالها أن ينتظروا استخدام نظام الأسد لغاز السارين أو أسلحة كيميائية-بيولوجية من ذات القوة، كي تحرك الولايات المتحدة ساكناً لتحقيق قدر من الحماية العسكرية لهم (كما فعلت محمودةً في أبريل/نيسان 2017). ويبدو كل سلاح لا يرقى لمستوى سمية غاز السارين مسموحاً به، ربما باستثناء سلاح الكلورين الذي يثير استخدامه قدر من استياء المسئولين الغربيين، لا يثيره استخدام الأسلحة القاتلة غير الكيميائية الأخرى، التي تتسبب في الترويع الواسع والقتل الجماعي.
إن حماية المدنيين هي ركيزة الانطلاق لإحداث أي تأثير إيجابي على طريق إيجاد حل للصراع في سوريا: أي كان شكل هذا الحل. فبسط الأسد لهيمنة نظامه بين أرجاء سوريا معتمداً على إرهاب الدولة سيؤدي إلى تغذية التطرف، كما سيؤدي لدفع أعداد كبيرة من السوريين للهرب خارج البلاد. وستصبح سوريا دولة فاشلة بشكل دائم. ربما يظل الأسد محتفظا بالحكم اسماً، إلا أن الميليشيات المدعومة من إيران هي من سيكون لها الكلمة في مسرح الأحداث. ولا يحتاج المرء لاختراع خطة سرية من 98 نقطة بشأن الانتقال السياسي من نظام الأسد إلى نظام آخر متحضر، كي يصل إلى نتيجة أن لا شيء جيد يمكن التوصل اليه طالما استمر ترك المدنيين السوريين في قبضة مجموعة من السفاحين.
ويمكن للغرب أن يجد طريقه في المتاهة السورية بشكل أبسط من خلال التركيز على نقطتين محددتين: رفع كلفة قيام الأسد بذبح المدنيين بذلك الشكل المنهجي؛ وتحويل انتصار الحملة العسكرية الطويلة على تنظيم داعش في شرق سوريا إلى شيء أكثر نفعاً.
وتبدو روسيا والنظام السوري وإيران يقفون ضد نية الولايات المتحدة الاحتفاظ بوجود عسكري لأجل غير مسمى شرق نهر الفرات في سوريا. ومبررات ذلك الوجود العسكري تدور في فلك ترسيخ الاستقرار في المناطق المحررة، وذلك عبر: استعادة النظام في تلك المناطق، وتلبية الاحتياجات الإنسانية للسكان. وكان تجاهل بديهيات العمل العسكري تلك في كل من العراق عام 2003 وليبيا عام 2011، قد أدى إلى تبعات جسيمة لا يزال يعاني منها كلا البلدين (كما يعاني منها الغرب).
ويبدو أن روسيا والنظام السوري وإيران يخشون من نجاح الولايات المتحدة في بسط الاستقرار في شرق سوريا، بالتعاون مع عناصر المعارضة السورية والمجالس المحلية والموظفين المحليين ومجموعات المجتمع المدني، وتشكيل جهة إدارة في تلك المنطقة، فتصبح نموذجاً عمليا أمام السوريين لما يمكن أن يكون عليه شكل سلطة الحكم الانتقالية في سوريا، التي نص عليه البيان الختامي في مؤتمر جنيف عام 2012.
ويبدو أن روسيا قلقة بشدة من ذلك الاحتمال، حتى أنها شنت في 7 فبراير/ شباط 2018 عملية عسكرية كبيرة عبر نهر الفرات، بهدف الاستيلاء على أراض في المنطقة (على الأخص حقل بترول) وقتل أفراد أمريكيين. وجاءت عملية الهواة تلك ذات التكلفة العالية – والتي نُفذت دون غطاء جوي تكتيكي – لتكون نسخة بوتين من عملية خليج الخنازير. على العكس من جون اف كينيدي، لم يقف بوتين ليقدم نفسه “كممثل الحكومة المسئول” الذي يجب أن يتحمل اللوم في الإخفاق التام للعملية.
ويبدو أن العائق الرئيسي أمام بناء بديل لشبكة أعمال عائلة الأسد في شرق سوريا، ليس الجرأة العسكرية لروسيا والنظام السوري وإيران مجتمعين. بل أن العائق الرئيسي هو تبعات تحالف واشنطن الغافل على مدار السنوات الثلاثة الماضية مع القرين السوري لحزب العمال الكردستاني.
وربما يقدر المرء ويكرم تضحيات المقاتلين الأكراد اللذين حاربوا تنظيم داعش. وربما يأسف بشدة لموت عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، ويحث تركيا على إعادة إحيائها. وربما يعتبر المرء قيام تركيا باجتياح منطقة عفرين في شمال شرق سوريا خطأ. إلا أنه في نهاية الأمر: تركيا لها وضعية الشريك في حلف الناتو، بينما حزب العمال الكردستاني هو منظمة إرهابية، ليس في نظر تركيا فحسب، بل بمعايير الولايات المتحدة وحلف الناتو أيضا. وبدون ضمان تعاون تركيا، لن يكون من الممكن إحلال الاستقرار في شرق سوريا.
وقد كان بإمكان إدارة أوباما تشكيل “تحالف راغبين” من القوات المحترفة لقتال تنظيم داعش في سوريا على وجه السرعة، قبل أن يتمكن مقاتلي داعش من شن هجمات إرهابية كبرى في تركيا وغرب أوروبا. بدلاً من ذلك، اختارت الولايات المتحدة توفير غطاء جوي ومستشارين من القوات الخاصة لدعم المقاتلين الأكراد (اللذين صاروا بعد ذلك خليط من المقاتلين المتنوعين بقيادة الأكراد)، وقام هؤلاء بدور جنود المشاة في حرب التحالف ضد تنظيم داعش. والاعتماد على ميليشيات غير نظامية للقيام بهذا الدور – بالرغم من مهارة مقاتلي تلك المليشيات واستبسالهم – جعل مطاردة الخليفة الأبرز وأتباعه المنحطون يستغرق نفس المدة التي استغرقتها الولايات المتحدة لإتمام الحرب العالمية الثانية.
وبعد استخدام الميلشيات التي صارت تدعى “قوات سوريا الديمقراطية” في قتال تنظيم داعش، صار التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة متورطاً – ولو بشكل مؤقت – في الاعتماد على تلك الميليشيات لإنفاذ القانون والترتيبات الدفاعية. وينتج عن كون قيادة الميليشيات كردية مشكلتين: أدى الاجتياح التركي لعفرين إلى تشتيت انتباه المقاتلين بعيداً عن مطاردة عناصر تنظيم داعش؛ كما أن استخدام قوات غالبيتها كردية لإرساء الأمن في المناطق ذات الغالبية العربية في شرق سوريا قد لا يلاقي بالترحاب من قبل سكان تلك المناطق. فلذلك يجب إيجاد بديل. وربما يكون تشكيل “تحالف راغبين” من القوات البرية المحترفة قادر على بناء قوات أمن وطنية سورية، لا تدين بالولاء للأسد، وقادر بشكل انتقالي على حفظ الأمن وتطبيق القانون في منطقة الفرات، كخط أمامي في مواجهة محاولات روسيا والنظام السوري وإيران اختراق شرق الفرات.
والخبر الجيد وسط كل ذلك هو أن فصائل المعارضة السورية الرئيسية تمد يدها لأكراد سوريا، في محاولة للوصول إلى نتيجتين: رؤية مشتركة بشأن مستقبل سوريا بشكل يطمئن تركيا؛ وخطة لحكم شرق سوريا قد ينتج عنها هيئة حكم انتقالية، قادرة على أن تضرب للسوريين مثلا على ما يمكن أن يكون بديلاً جذابا لحكم الأسد.
أما الخبر غير الجيد فهو أن إدارة ترامب، مثل سابقتها، لا تبدو مهتمة بالتعاون مع الأطراف السورية المؤهلة (باستثناء المسلحين الأكراد) للتعامل مع التحديات الدبلوماسية والعملياتية ذات الطبيعة المعقدة والحساسة في شرق سوريا.
وتبدو القيادة المركزية للولايات المتحدة الأمريكية، المنوط بها الاشراف على الحملة الطويلة ضد تنظيم داعش، ملتزمة من الناحية المؤسسية بدعم “القوة الشريكة” الخاضعة للسيطرة الكردية، كما تقصر هدف مهمتها، بشكل يغلب عليه الجمود، على هزيمة داعش. ولو أن هناك داخل الإدارة الأمريكية بطلا يتصدى لمصالحة ركيزتي السياسة الأمريكية في سوريا – اللتين تبدوان منفصلتين بشكل مصطنع وذي نتائج كارثية- فإننا لا نعلم من هو أو من هي. ذات الغموض يحيط بما إذا كان في مقدور الإدارة الأمريكية توفير الموارد البشرية الضرورية للقيام بعملية كثيفة وطويلة المدى في شرق الفرات.
إلا أن تأسيس هيئة حكم انتقالي في شرق سوريا، إلى جانب وقف آلة القتل الدائر في غرب سوريا، قد يمثل الفرصة التي لم تتوفر طوال الأعوام السبعة الماضية لفتح طريق أمام الحل السياسي في سوريا، وضمان تمثيل السوريين من معارضي الأسد – واللذين صارت الغالبية العظمى منهم مُهجرة خارج البلاد – تمثيل مختلف عن ذلك الذي تمنحه المعارضة المشرذمة في المهجر.
من ناحية أخرى، لا يبدو هناك سبب لأن تنفر روسيا من مثل هذا الحل، كنقطة انطلاق قد تخدم مصلحتها الأساسية في سوريا: إيجاد حكومة سورية صديقة ومتعاونة. بل أن هناك بين وجوه المعارضة السورية من هو قادر على أن يحقق لروسيا ذلك الهدف على نحو أفضل بكثير من مجرم الحرب المحاصر. إلا أن الحل الجدي للنزاع في سوريا – ذلك الحل الذي يسمح بإعادة احياء البلاد سياسياً واقتصادياً- غير قابل للتطويع ليتوافق مع اهتمام بوتين المصبوب على شخص الأسد، أو مع محاولات إيران إخضاع سوريا لمندوبي طهران في لبنان.
إن مساعدة السوريين – عرباً وأكرادا ومن سواهم – لإعادة بناء شرق سوريا كنموذج لما يمكن أن تكون عليه سوريا موحدة، ذات حكم محلي قوي، ومجتمع مدني فاعل، وفي ظل تطبيق حكم القانون وتحقيق رضا المحكومين، هي مهمة شاقة وتستغرق وقتاً طويلاً. والقيام بتلك المهمة سيتطلب محاولة اجتذاب تركيا للتعاون في تحقيق تلك المهمة، بينما قد يكون لتركيا، في نهاية المطاف، أولويات مغايرة. كما قد يتطلب مزيد من استعراض التفوق الأمريكي على روسيا والآخرين، إذا ما حاولوا عبور الفرات لقتل أمريكيين.
إلا أنه إذا كانت الولايات المتحدة ملتزمة بتحقيق الاستقرار في المناطق المحررة من عصابة الإسلاميين المارقين، سيكون السؤال البديهي هو “لأي غاية؟” بالطبع لن تكون الغاية هي تسليم المناطق المحررة لنظام سيؤدي اجرامه إلى بعث تنظيم داعش مرة أخرى من قبرها، فضلا عن استمرارها في تجنيد الإرهابيين حول العالم.
ولا تزال الولايات المتحدة تعتبر بشار الأسد رئيسا لسوريا. وذلك موقف مخزي. إن أي استثمار أمريكي تم أو سيتم مستقبلا في شرق الفرات ينبغي أن يهدف لإرساء بديل جاذب وذو قاعدة واسعة لذلك السفاح الخارج عن القانون. مثل ذلك الإنجاز، بجانب توفير قدر من الحماية للمدنيين، قد يخرج الجميع من الظلام، ويمنح الغرب والسوريين رؤية واضحة للمضي في طريق انهاء هذا الجحيم.
فريدريك هوف
مدير مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط، حيث تركز اهتماماته البحثية على الصراع السوري. وهو خبير بارز في قضايا الشرعية السياسية في سوريا والشرق الأوسط.
المصدر: مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط
http://www.achariricenter.org/syria-at-seven-1-ar/
http://www.achariricenter.org/syria-at-seven-part-two-ar/