شارك بعض الليبيين في ما بات يُعرف باسم ثورة 17 فبراير التي انطلقت من بنغازي، في شرق ليبيا، في العام 2011. ولم يكن في حينها هناك أي شخصّة قيا...
شارك بعض الليبيين في ما بات يُعرف باسم ثورة 17 فبراير التي انطلقت من بنغازي، في شرق ليبيا، في العام 2011. ولم يكن في حينها هناك أي شخصّة قيادية تكون ممثّلة لهؤلاء الليبيين في ما كان يُنظر إليه على أنه حلقة أخرى من ما يسمى بالربيع العربي. فكانت ثورات غاب عنها قادتها في وجه قادة تونس ومصر وليبيا وحكوماتهنّ الفاسدة في حينها. إلاّ أن الوضع لم يدم طويلًا.
ففي ما يخصّ ليبيا، كان بعض السياسيين والوزراء والدبلوماسيين وأصحاب المناصب العالية من موظفي الخدمة المدنية على استعداد لتولّي قيادة ما اتّضح أنه يبعد كلّ البعد عن الثورة العفويّة والحقيقية، إذ أدخلت ليبيا في حالة من الفوضى والحرب الأهلية والتدخل العسكري الأجنبي والذي كان الأكثر تدميرًا والذي تزعّمته فرنسا والمملكة المتحدة قبل أن يتولّى حلف شمالي الأطلسي (الناتو) المهمّة. وكانت المفاجأة في انضمام الموالين التقليديّين لمعمر القذافي من وزراء سابقين إضافة إلى الممثل الدائم لليبيا في الأمم المتحدة عبد الرحمن محمد شلقم إلى صفوف من عُرفوا باسم الثوار الليبيين.
حضر شلقم اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي انعقد في 25 شباط \ فبراير 2011 لمناقشة الوضع الليبي المضطرب. وفي اليوم التالي، اعتمد المجلس القرار رقم 1970 والذي فرض سلسلة من التدابير ضد ليبيا، بما في ذلك حظر السفر وتجميد بيع الأسلحة.
كتب شلقم إلى مجلس الأمن معربًا عن تأييده الاجراءات ضد بلده وحكومته — أي البلد نفسه الذي كان من المفترض أن يدافع عنه. وقد شكّل ذلك صدمة للجميع، بما في ذلك القذافي. إذ ناشد شلقم الأمم المتحدة في 25 شباط \ فبراير لكي تعتمد تدابير صارمة ضد ليبيا، مما ولّد ارتباكًا وتعاطفًا في آن، بما أنه كان من واجب شلقم الدفاع عن بلده والحكومة التي قامت بتعيينه في منصبه هناك. وشهدت قاعات الأمم المتحدة حدثًا نادرًا يتمثّل في أن ينقلب ممثل لبلد معيّن ضد نظامه الخاص وهو لا يزال في منصبه. قدّم شلقم استقالته في اليوم عينه.
بات شلقم اليوم منبوذًا وعاجزًا عن العودة إلى ليبيا، خوفًا على حياته من الثوّار نفسهم الذين قام بتأييدهم منذ البداية. ولا تزال الجدل الساخن قائمًا بين الليبيين حول السبب وراء تصرّفه، وذلك على الرغم من أنه كان قد برّر فعلته في الاعلام عدّة مرّات. إلاّ أن الأسباب التي قدّمها لتبرير أفعاله ثبتت عدم صحّتها للأسف، بما في ذلك المزاعم حول قصف النظام للمدنيين في طرابلس والمجازر الوشيكة التي قيل إن النظام يخطط لارتكابها في المدن الثائرة، وعلى الأخص في مصراتة.
استلم شلقم مهامًا شبيهة بمهام السفير لفترة من الزمن، قبل أن يصبح منسيًّا — باستثناء ظهوره النادر عبر "فيسبوك" ووسائل الإعلام. كما عبّر أكثر من مرّة عن رغبته في خوض الانتخابات الرئاسيّة في الوقت المناسب. أما اليوم، فيبدو أنه يعمل كصحفي مساهم باللغة العربية من هنا وهناك، ولكن ليس من ليبيا.
أما الشخصية الثانية التي ارتبطت بالتمرّد فهو مصطفى عبد الجليل. لم يكن يُعرف بولائه للقذافي، إلاّ أنه بدا من الموالين لنجل القذافي، سيف الإسلام القذافي. بات عبد الجليل معروفًا بفضل سيف الإسلام القذافي في العام 2007، بعد أن عيّنه في منصب وزاري. وعندما اندلعت الثورة، كان عبد الجليل، القاضي السابق ذات التوجهات الإسلامية والمبتدأ في مجال السياسة، يشغل منصب وزير العدل. ترأّس عبد الجليل المجلس الوطني الانتقالي الذي يمثّل المتمردين بين آذار / مارس 2011 وآب / أغسطس 2012. وفي العام 2012، سلّم المجلس الوطني الانتقالي السلطة إلى المؤتمر الوطني العام المنتخب حديثًا.
[mks_pullquote align="left" width="750" size="24" bg_color="#000000" txt_color="#ffffff"]
إن بعض السياسيين والوزراء والدبلوماسيين وأصحاب المناصب الرفيعة من موظفي الخدمة المدنية، ممن كانوا يوماً من مؤيدي الثورة الليبية يجدون أنفسهم اليوم وسط ظروف متغيرة[/mks_pullquote]
بات عبد الجليل أكثر شهرة عندما أعلن في خطابه الكبير الذي ألقاه بعد مقتل معمر القذافي، الغاء القوانين الليبية، بعكس الشريعة، وأنه بات باستطاعة الرجل الليبي من الآن فصاعدًا أن يأخذ له أربع زوجات، وهو ما كان محظورًا في ظل حكم القذافي. تعرّض عبد الجليل لسخرية كبيرة، وبات على لائحة أكثر الشخصيات المكروهة في ليبيا اليوم، وعلى الأخص في المناطق الغربية والجنوبية، حيث يعتبره الناس جزءًا من المؤامرة التي عاثت فسادًا في البلد.
ولكن، يُعدّ عبد الجليل من أكثر قادة المتمرّدين صراحة، اذ اعتاد أن يقول الأشياء كما هي. إنّه الوحيد الذي اعترف على الملأ عبر التلفزيون أن القذافي كان قد أعطى أوامره الصارمة للشرطة والجيش بعدم إطلاق النار على المتظاهرين في الأيام الأولى للمظاهرات، وذلك قبل أن تصبح عنيفة. إن مكان وجود عبد الجليل مجهول حاليًا، إلا أنه يُعتقد أنه يعيش متنقّلًا بين تركيا والأردن. ونادرًا ما شوهد علانيّة في ليبيا منذ العام 2013.
أماّ الوجه الآخر الذي تمحورت حوله عناوين الصحف كممثل للمتمرّدين في العام 2011، فهو محمود جبريل. شغل جبريل منصب رئيس الوزراء الأول للمتمردين من آذار \ مارس 2011 إلى آب \ أغسطس 2012. وبعدها، أسس تحالف القوى الوطنية وفاز في الانتخابات البرلمانية في العام 2014. عجز جبريل عن تولي السلطة بسبب رفض الإسلاميين لنتائج الانتخابات، مما تسبب بحرب أخرى في آب / أغسطس من العام نفسه. وبعد حلقة العنف تلك، امتنع جبريل عن زيارة ليبيا علنًا. إلاّ أنه زار العاصمة طرابلس سرًا في أيلول \ سبتمبر. ولم يُكتب عن هذه الزيارة غير المعلنة إلا بعد انتهائها.
لعب جبريل دورًا حيويًا في حشد الدعم الدولي لصالح المتمردين من خلال دبلوماسيته المكوكية التي التقى من خلالها بعدد من القادة، كالرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي، الراعي الرئيسي للمتمردين في ليبيا. يعيش جبريل اليوم متنقّلًا بين دبي والقاهرة، إلاّ أنه لا يزال يفكر في العودة إلى المعترك السياسي. ولكن، خسر جبريل قدرًا لا يُستهان به من مصداقيته. لقد أحبّه الناس بداية باعتباره وجهًا بارزًا من وجوه التمرّد: فهو متحدّث لبق وصاحب مؤهلات أكاديمية كبيرة وحائز على شهادة دكتوراه في العلوم الاقتصادية من الولايات المتحدة. إلاّ أنه أفرط في الكذب، وعلى الأخص خلال المقابلات التلفزيونية. ويُعرف عنه أنه ادّعى أن نظام القذافي قد مسح مصراتة أرضًا تقريبًا وأن جنود القذافي قد اغتصبوا مئات النساء في شرق ليبيا. ومما لا شكّ فيه أن هذا كلّه عار عن الصحّة. إلاّ أن احتمال بوحه بالأكاذيب الفاضحة يقلّ عندما يتحدّث إلى وسائل الإعلام الأجنبية غير العربية.
تُعتبر فاطمة حمروش المرأة الليبية الوحيدة التي أعلنت عضويّتها في المجلس الوطني الانتقالي في العام 2011، على عكس الكثير ممن فضّلوا التكتم خوفًا على سلامتهم. وبعد أن ربح المتمردون المدعومين من الناتو الحرب في تشرين الأول / أكتوبر 2011، تم تعيين حمروش كوزيرة مؤقتة للصحة في الحكومة الانتقالية الأولى. وبقيت في منصبها حتى تشرين الثاني \ نوفمبر 2012، حين قدّمت استقالتها وسط خلافات مع الطاقم المساعد لها. ثم عادت إلى دبلن، في أيرلندا، حيث كانت تعمل كاستشاريّة في طب العيون قبل توليها المنصب الوزاري. لم تقم حمروش بأي زيارة إلى ليبيا، أقلّه علانيّة.
والملفت حقًا في ما يخص حمروش هو انقلابها بحلول العام 2013 على الثورة التي كانت تؤيّدها. وقد عبّرت على صفحتها على "فيسبوك" وخلال مختلف مقابلاتها التلفزيونية عن تعجّبها من مدى سوء الثورة. ولطالما أعربت حمروش عن أسفها للمشاركة فيها، لدرجة أنها أشارت إلى أنها كانت لتدعم القذافي لو كانت تدرك مدى فساد قيادة التمرّد.
أما محمود عبد العزيز الورفلي فهو من أبرز أعضاء المعارضة اعلاميًا والذي وعلى عكس أكثريّة القبائل، انضمّ إلى صفوف التمرد باكرًا، وحاول حشد قبيلة "ورفلة"، وهي أكبر القبائل الليبيّة، لصالح المتمرّدين، ولكنه فشل في ذلك. فاز الورفلي بمقعد في المؤتمر الوطني العام في الانتخابات البرلمانية الأولى في تموز \ يوليو من العام 2012، واستمر في برنامجه الذي يُبثّ على احدى المحطات التلفزيونية المحلية، والذي يهدف الى الاشادة بالثورة الظافرة وشيطنة النظام السابق — وهو الأمر الوحيد الذي كان متوفّرًا حينها في المدينة. ولكن، سرعان ما أدرك الناس أن برنامجه لا يعمل سوى إلى دفع المجتمع إلى مزيد من الانقسام والكراهية. وتوارى عن الأنظار بحلول العام 2014، اذ يبدو أنه غادر ليبيا نهائيًا. ويُقال أنه يعيش اليوم في مالطا.
ان الأسماء التي تم ذكرها آنفًا ليست سوى أمثلة على ما آلت إليه الأمور في ليبيا الحرة الجديدة حيث كان من الواجب أن يكون الليبيون جميعًا مرحّب بهم. كما يعيش في الخارج عدد أكبر من الليبيين الذين كانوا جزءًا من عمليّة التحرر المفترض لليبيا — إلاّ أنهم عاجزون عن المجيء إلى البلد في وضح النهار. أما سخرية القدر فهي أن الكثيرين منهم كانوا يعيشون بسلام في ظل النظام نفسه الذي قاموا هم بتقديم العون للإطاحة به. أما اليوم، فقد وجدوا أنفسهم في المنفى القسري على يد رفاقهم. والأسوأ من ذلك، لقد قُتل العديد من "الثوار" بعد فترة طويلة من الوقت الذي كان يفترض فيه أن يكون البلد قد بات حرًا وسلميًا وآمنًا. ويعيش معظم قادة المتمردين السابقين والمسؤولين الرفيعي المستوى الذين مازالوا في البلد متوارين عن الأنظار، وذلك على الرغم من أنهم كانوا الأكثر حماسة لقيادة التمرّد ودعمه في العام 2011.
قال الصحافي الفرنسي جاك مالي دو بان (1749-1800) متحدّثًا عن الثورة الفرنسية "تمامًا كزحل، إنّ الثورة تأكل أبناءها". وقد صدق فعلًا بقوله هذا.
مصطفى الفيتوري
المصدر: موقع أوبن ديمقراطي
https://www.al-monitor.com/pulse/ar/contents/articles/originals/2018/01/libya-revolution-leaders