يسعى أكراد شمال سوريا للإستفادة من دورهم المتنامي في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي, من أجل إرساء مشروعهم السياسي للحكم الذاتي. لكن تلك المحاو...
يسعى أكراد شمال سوريا للإستفادة من دورهم المتنامي في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي, من أجل إرساء مشروعهم السياسي للحكم الذاتي. لكن تلك المحاولة تجري في ظل ظروف تتسم بنزاعات إثنية ودينية وبتحالفات متغيرة مع قوى كبرى, الأمر الذي يلقى بظلاله على مستقبل هذا البناء.
علي الرغم من مقدم الليل ، كانت لاتزال الحرارة الخانقة تخيم علي القامشلي. فبعد أن غادرنا سريعا المطار الصغير، الذي لايزال يراقبة بضع عشرات من رجال الشرطة والجيش التابعين لحكومة الرئيس بشار الأسد، دخلنا فورا في أراضي "الفيدرالية الديمقراطية بشمال سوريا" التي يطلق عليها الأكراد اسم "روج آفا" ("الغرب" باللغة الكردية) فعلي طوال الحدود التركية، بين نهر الفرات والعراق، يقيم حوالي مليوني نسمة (60 بالمائة منهم من الأكراد) علي هذه الأراضي التي انتزعت من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومنذ سنة 2014، يعيش هؤلاء السوريون تجربة سياسية مستوحاة من اطروحات عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني PKK، المعتقل في تركيا منذ 1999. ويتخذ حزب العمال الكردستاني، الذي تخلي عن الماركسية اللينينية، وحليفة السوري، حزب الوحدة الديمقراطي PYD، منذ سنة 2000 كمرجعية، نموذج "الكوميونة التحرري" الذي وضعه خبير البيئة الأمريكي، موراي بوكشين (1921 . 2006). وترفض وثيقتهم المرجعية، "العقد الإجتماعي للفيدرالية الديمقراطية بشمال سوريا", الذي اعتمد سنة 2014، فكرة القومية، وتنادي بمجتمع قوامه العدالة والمساواة واحترام حقوق الأقليات.
ومنطقة "روج آفا" هي منطقة مستقلة ذاتيا من حيث الواقع. وباستثناء الجيبين الصغيرين، جيب الحسكة، وجيب مطار القامشلي، الذي يخضع لسلطة دمشق، فإن المنطقة تسيطر عليها "القوات الديمقراطية السورية FDS"، التي تضم المقاتلين والمقاتلات الأكراد من "وحدات حماية الشعب" YPG، و"وحدات حماية المرأة" YPJ، وكذلك عناصر المليشيات العربية السنية واليزيدية والمسيحية.
[caption id="attachment_4012" align="aligncenter" width="1024"]
مناطق تمركز الأكراد في سوريا[/caption]
وترفرف أعلام "وحدات حماية الشعب" علي مختلف الحواجز بالقامشلي، حيث تتولي شرطة سلطة الحكم الذاتي التفتيش الدقيق للسيارات. وتمثل الهجمات الانتحارية التي ينفذها مقاتلون، خطرا دائما. والجميع يستحضر في الذاكرة هجوم 27 يوليو 2016 الذي خلف 44 قتيلا و140 جريحا. وتتقاطع الظلمة التي تلف الطرقات مع الأضاء التي تنير مدينتي نصيبين وماردين، الواقعتين علي الجانب المقابل من الحدود التركية. ففي منطقة تزخر بالثروات الطبيعية، تجسد مسألة الطاقة التحديات التي تجابه السلطة الجديدة. ففي الرميلان، التي تبعد 100 كلم عن القامشلي، علي الطريق نحو العراق، تتكدس طوابير انتظار طويلة أمام محطات توزيع الوقود. وقبل بداية الحرب سنة 2011، كانت هذه المنطقة تنتج 380 ألف برميل نفط خام يوميا، أي ثلث إنتاج البلاد. ومع اندلاع المعارك، تراجع استخراج النفط بنسبة 70 بالمائة، وسجل نقص فادح في إنتاج البنزين. وفي ظل غياب مصانع تكرير، وجدت حكومة منطقة الحكم الذاتي نفسها مجبرة علي بيع جزء من النفط الخام إلى الإدارة السورية, التي تزودها لاحقا بالوقود بأسعار مرتفعة.
هناك عدد كبير من وحدات التكرير التقليدية الصغيرة التي تبيع بنزيناً بسعر رخيص، غير أن أثر هذا النشاط علي البيئة بلغ درجة مثيرة للقلق فالأدخنة تلف بالسواد المنطقة، والأمراض الجلدية ومشاكل التنفس تتضاعف. وتقر السيدة سمر حسين، مساعدة رئيس لجنة الطاقة، التي يوجد مقرها بالرميلان، بالأمر قائلة " ليس لدينا أية حلول أخري في الوقت الحاضر. وحالما أمكننا ذلك، سنتولي بناء مصانع تكرير عصرية وتنظيف المنطقة، وسنقوم، بطبيعة الحال، بتشغيل كل هؤلاء العمال في المصانع الجديدة".
وفي مواقع أخري من منطقة روج آفا، علي غرار مامبيدج، قوبل إجراء منع وحدات التكرير التقليدية بعدم الرضي من قبل جزء من السكان الذين يعانون منذ وقت من ترشيد التزود بالكهرباء رغم عودة السدود الثلاثة الرئيسية المبنية علي نهر الفرات للنشاط. ووفقا للاتفاقات الدولية، فإن تركيا، التي تتحكم في النهر من المنبع، مطالبة بضمان مرور 600متر مكعب من المياه في الثانية. ويؤكد السيد زياد رستم، المهندس ونائب رئيس لجنة الطاقة في إٌقليم سيزير، أنه "عندما كانت هذه السدود تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، كانت تركيا تسمح بمرور كميات أكبر من المياه، لكن لما حررت قوات سوريا الديمقراطية هذه السدود، بدأت تركيا في خفض حجم المياه. ويقل حجم التدفق حاليا عن 200 متر مكعب في الثانية".
ويقدم شروان يوسف، وهو صحفي بقناة روحاني التلفزيونية الكردية بالقامشلي، شهادة يؤكد فيها مشاعر السخط الشعبي. يقول في هذا الصدد "لقد تظاهر بضع مئات من الأشخاص في القامشلي احتجاجا علي الحكومة الذاتية وليس علي تركيا .. وإني أري أن هذه الاحتجاجا مشروعة، فالنقد يقوي السلطات وليس العكس، ولا يمكن أن تظل الحرب دوما الذريعة لنقص الخدمات المقدمة". وإذا كانت حماية البيئة تحتل مرتبة متقدمة ضمن "العقد الاجتماعي"، فإن أطرافا أخري تؤكد علي الظروف التي تعيق بناء مصانع تكرير، وعلي تحديث السدود أو تطوير الطاقات المتجددة، ذلك أن تركيا تفرض حصارا علي المنطقة تماما مثل حلفائها في الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK الذين يسيطرون علي شمال العراق.
كما أن إدارة الاحتياجات العاجلة والمعارك لم تحلْ دون إرساء مشروع مؤسساتي للكونفيدرالية الديمقراطية يقوم علي مبدأ الحكم الذاتي المحلي. ويتم تجميع البلديات في ثلاث مقاطعات هي الجزيرة وكوباني وعفرين، التي تتمتع كل واحدة منها بجمعية تشريعية وحكومة محلية. وسيتولي مجلس ديمقراطي سوري مستقبلا، وفي المدي البعيد، الإشراف علي المقاطعات الثلاث, التي تتولي حاليا تنسيق سياساتها. وقد جرت أولي الانتخابات في مارس 2015، ومن المفترض إجراء انتخابات أخري في نهاية العام، في حين أن المجالس التشريعية ينتظر انتخابها بداية 2018.
وقد تمت مقاطعة الانتخابات الأولي من قبل الأكراد السوريين القريبين من الحزب الديمقراطي الكردستاني، علي غرار السيدة نارين ماتيني، عضو إدارة حزب تيار المستقبل الكردي وعضو المجلس الوطني الكردي CNK، الذي يقوده السيد مسعود بارزاني، رئيس الحكومة الكردية الإقليمية بالعراق. وهي تستقبل الصحفيين في منزلها في الحي الشعبي بمدينة القامشلي، لأنه تم إغلاق المكتب التابع لحزبها من قبل سلطة الحكومة الذاتية. تقول في هذا الخصوص "إن مشروعنا هو مشروع قومي كردي، ومن أجل كردستان مستقلة. ونحن لانساند مشروع فيدرالية ديمقراطية بشمال سوريا. وقد أغلقت السلطات مكاتبنا واعتقلت ثم أفرجت عن عدد من مناضلي حزبنا، كما أن الحكومة الذاتية تقول لنا بأنه يجب علينا التسجيل من أجل الحصول علي رخصة العمل، إلا أن ذلك يعني أننا موافقون عليها". وبالنسبة للسيد حكم خيلو، الرئيس المشارك للمجلس التشريعي لمقاطعة سيزير، فإن التوتر بين حزب الاتحاد الديمقراطي وأنصاربارزاني يعكس بالخصوص صراعا علي السلطة، " إذ كان بمقدورهم طلب ترخيص للحزب، دون أو يوقعوا علي العقد الاجتماعي، وكان بإمكانهم الحصول علي هذا الترخيص".
ويوجد مقر المجلس التشريعي لمقاطعة الجزيرة في "عامودي" التي تبعد 20 كلم عن القامشلي. والبناية التي تحتضنة تحظي بحماية فائقة، ولا يمكن لأحد النفاذ إليها راجلا إلا بعد عملية تفتيش وتثبت في الهوية. وتجمع هذه الهيئة، التي تضم 101 أعضاء نصفهم من النساء، ممثلي الأحزاب السياسية التي وقعت "العقد الاجتماعي". كما يضم ممثلي جمعيات المجتمع المدني التي ترسل عضوين عنها، رجل وامرأة، إجباريا. ويتم اقتراحهم من قبل منظمتهم او جمعيتهم قبل المصادقة عليهم من قبل المجلس التشريعي. وإضافة الى ذلك، هناك زهاء عشر منظمات سياسية كردية أو عربية قد حصلت علي الترخيص وعلي دعم مالي لمساعدتها علي النشاط، دون أن تتمتع بعضوية المجلس.
ولا يمثل تأسيس دولة قومية كردية أحد الأهداف التي وضعها أو جلان، الذي يقدم حركته علي أنها حركة مناهضة للقومية. وفي هذا الصدد، كتب من سجنه أن حركته "ترمي الى تكريس حق الدفاع الذاتي عن الشعوب، عبر الإسهام في تقدم الديمقراطية في كل أرجاء كردستان, دون المساس بالحدود السياسية القائمة". وتؤكد السيدة سهام كيريو، الرئيسة المشاركة في لجنة الشؤون الخارجية في الحكومة الذاتية لمقاطعة الجزيرة، "نحن لا نريد أن يتم فصلنا عن الأراضي السورية الأخري، والأكراد والعرب والسريان في المنطقة قد اتفقوا سنة 2013 علي إرساء حكومة ذاتية. وعندما شرعنا في ذلك، لم نكن ننتظر أن يطول ذلك لأكثر من أربعة أشهر". وتذكر السيدة كيريو، وهي عضوة الطائفة المسيحية التي تضم بالخصوص السريان والآشوريين والكلدانيين، بأن حرية العبادة مضمونة، وبأنه ليس هناك دين دولة.
وبالنسبة للتحالف الوطني السوري، الذي من المفترض أنه يجمع المعارضة وهو القريب من الإخوان المسلمين، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي ومجموعات عسكرية أخري تظل "منظمات إرهابية" متحالفة مع حزب العمال الكردستاني. كما تتهمه عديد شخصيات المعارضة السورية بأنه يلعب ورقة النظام، وبأنه لا يقاتل في الميدان. إلا أن آخرين غيروا وجهة نظرهم، علي غرار بسام إسحاق، المدير التنفيذي السابق لمنظمة الدفاع في الحقوق الإنسانية، وهو من منطقة الحسكة . فقد التحق في البداية بالمجلس الوطني السوري، الذي يعد من أطراف التحالف والذي يوجد مقره باسطنبول، قبل أن يلتحق بروج آفا. يقول في هذا الشأن "عندما تحولت الثورة من مرحلة المظاهرات السلمية الى مرحلة التمرد العسكري، أضحي جليا بأن لهم مشروعا مخالفا لمشروعي فهذه المعارضة تريد طرد الرئيس الأسد والسيطرة علي السلطة، وهكذا كان لدي الخيار بين مشروع الدولة الدينية الذي يدعو له المجلس الوطني السوري، ومشروع سوريا عربية قومية، ومشروع دولة تعددية وإني أعتقد أن أفضل وسيلة للحيلولة دون ظهور ديكتاتور جديد في دمشق، هي توزيع السلطة بين المناطق".
[caption id="attachment_4017" align="aligncenter" width="890"]
يرسم الفنانان احمد شمس الدين (إلى جي) وعبد الله عبد (للدكتور) اللوحات التي ستشكل سقف البرلمان في ديرك ، في منطقه روجاوا المستقلة ذاتيا[/caption]
وخلال مجمل زياراتنا وتنقلاتنا ، عبّر العديد من الأكراد عن استنكارهم للاتهامات بالتواطؤ مع دمشق، كما كرروا دون هوادة التأكيد علي مايرونه أخطاء استراتيجية ارتكبتها المعارضة، من ذلك أن السيد مسلم نابو وهو مدرس تابع تعليمه في جامعة اللاذقية، يتولي هو وأصدقاؤه بصورة سرية، نشر مجلة باللغة الكردية. وقد تم إيقافهم سنة 2007 ونقلهم إلى دمشق حيث تم تجميعهم في زنزانة وتعرضوا للضرب علي مدي ثلاثة أشهر. يؤكد نابو: "يقول البعض إننا ندعم نظام الأسد. إنها لكذبة وقد تم الإفراج عنه بعد سنة وأسبوع من الاعتقال، وهي المدة الأقصي في مجال الإعتقال الإداري دون محاكمة. وفي هذا الصدد يقول عانينا كثيرا من هذا لنظام الذي عذب وقتل عددا من قادتنا السياسيين غير أن الأحزاب الكردية ليست من أنصار ثورة عسكرية تابعة لتركيا وقطر وغيرهما. فمساندة هذه البلدان للمجموعات الجهادية، مثلت كارثة بالنسبة للثورة السورية".
وقد أثار تقريران دوليان نشرا سنتي 2014 و 2015 الكثير من الغبار والجدل حول السياسة الحقيقية لحزب الاتحاد الديمقراطي في المناطق التي تم استعادتها من تنظيم الدولة الإسلامية، وبخاصة منطقة تل أبيض. وفي هذا الخصوص، صرحت السيدة لاما فقيه، المستشار في الأزمة السورية بمنظمة العفو الدولية في أكتوبر 2015 قائلة: "من خلال تدميرها المتعمد لمساكن المدنيين، وقيامها في بعض الأحيان بنسف وإحراق قري بأكملها وبترحيل سكانها دون أي مبرر عسكري أظهرت إدارة الحكم الذاتي شططاً مبالغاً فيه وإفراطا في استخدام السلطة، وضربت عرض الحائط بالقانون الدولي الإنساني، في نطاق هجمات تمثل جرائم حرب". وقد تضمن تقرير صادر عاما قبل ذلك عن منظمة هيومان رايتس ووتش وقائع تشابه ما أوردته السيدة فقيه. تقول السيدة فيريو مدافعة، لا يمكننا الحديث عن تطهير عرقي للعرب, وتضيف "عندما كانت المعارك علي وشك الاندلاع، طالبت وحدات حماية الشعب الكردي السكان بمغادرة منازلهم طيلة فترة المعارك. وقد زرت شخصيا بعد المعارك العديد من القري المحررة حول تل أبيض أو الرقة وقد أعلمني الناس هناك بأن الأمور سارت كذلك ، وقد عادوا الى منازلها بعد 15 يوماً".
ويفند تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، الذي نشر في مارس 2017 الاتهامات بالتطهير العرقي، إذ جاء فيه "لم تعثر اللجنة علي أي دليل يدعم الاتهامات التي تقول بأن قوات الاتحاد الديمقراطي الكردستاني أو مقاتلي القوات الديمقراطية السورية قد استهدفت السكان العرب علي أسس عرقية، أو أن السلطات المحلية التابعة للاتحاد الديمقراطي قد سعت بشكل منظم الى تغيير التركيبة الديمغرافية للأراضي التي تخضع لسيطرتها، عبر استهدف أية واحدة من المجموعات الأثنية". كما أشار التقرير إلى أن القنابل التي تم زرعها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية, هى التي تبرر عمليات الترحيل, لكن المجلس إنتقد نقص المساعدة الإنسانية "الملائمة" المقدمة الى المجموعات السكانية التي تم ترحيلها, وكذلك عمليات "التجنيد القسري" من قبل حزب الإتحاد الديمقراطي, من أجل أداء الخدمة العسكرية.
غادرنا عمودي باتجاه كوباني شرق روج آفا. ويحاذي الطريق حائط طويل على امتداد 500 كيلومتر بنته تركيا من خلال اختراق الأراضي السورية. وهذا الحائط الذي بني بالإسمنت المسلح والمدجج بالأسلاك الشائكة, يقوي الإحساس بعزلة هذه الأراضي. ومع بداية شهر يوليو, كانت حقول الحبوب الشاسعة قد تم حصادها وترعى فيها قطعان الخراف بحثا عما تأكله. كما تغطي الهضاب أشجار الزيتون المغروسة حديثاً في خطوط متساوية, ويلتحق العمال الزراعيون, وهم غالباً من صغار السن, بعملهم مبكرا لينهوا شغلهم قبل تصاعد درجات الحرارة. وقريبا من تل أبيض يمر الطريق فوق نهر ذي تفق عال, إنه مجرد تفريعة صغيرة, لكن مع حبس مياه الفرات, فإن تركيا تحول مياه الأمطار نحو وديان ثانوية, بما يرجع بالفائدة في مجال ري المزروعات.
وعند مدخل كوباني، تغطي صور "الشهداء" والكثير منهم من النساء، البناية المركزية للمدينة، على غرار كل التجمعات الحضرية بالمنطقة. كما نلاحظ حضور لافت لصور اوجلان. فهذه المدينة، التي دمر جزء كبير منها قبل عامين، تزخر اليوم بالطاقة والنشاط. فالآلات الرافعة والعمارات طور التشييد تجاور بقايا البيوت المدمرة بالصواريخ وقذائف المدفعية. تقول السيدة هاوزين عزيز، التي تعمل في جمعية للتطوير العمراني، "نحن نريد في اسرع وقت ممكن إعادة البناء حتى يعود الناس". ووفق روايتها، فإن المساعدة الإنسانية ليست على مستوى المتوقع ولا مستوى الوعود، موضحة: "عملية إعادة البناء، تتم أساسا بإمكانياتنا الذاتية".
وقد مثلت معركة كوباني، التي دارت بين سبتمبر 2014 ويناير 2015، منعطفا حاسما في الكفاح ضد الدولة الإسلامية. فبعد السيطرة على الموصل في العراق، والرقة في سوريا، سجل توسع داعش في هذه المدينة أولى نقاط توقفه. كما أن هذه المعركة مكنت العالم من اكتشاف مكانة أخرى للنساء في الشرق الأوسط. وقد أطلق اسم "كونجرا ستار"ت Kongra Star على "بيت النساء" في المدينة. ففي شارع صغير وهادئ، تستقبل هذه البناية الشاسعة بالخصوص النساء اللائي يقدمن من أجل تقديم الشكوى في قضايا العنف الزوجي. هناك قاعة اجتماعات كبرى تفتح على الحديقة علقت على حائطها نسخة من لوحة رسمها فنان في غزة: امرأة شابة تبرز من الخراب كرمز للمستقبل والأمل. وفي كل جوانب هذه اللوحة، كانت الحوائط مغطاة بصور نساء قتلن خلال معركة كوباني. أما الجانب الآخر من الدار والذي له مدخل خاص فإنه يمكن من استقبال النساء اللائي يواجهن حالات صعبة.
وتؤكد مخاطباتنا على المساواة بين الجنسين كركيزة أساسية في "العقد الاجتماعي" لمنطقة روج أفا. وفي هذا السياق، يتم المساواة في الميراث بين الأبناء في حين تعطي الشريعة الإسلامية للمرأة نصف نصيب الرجل في الميراث وفي هذا تقول السيدة سارة الخالي أحد المديرين في كونجرا: "ليس من السهل تطبيق هذه الأحكام الجديدة في مجتمع تقليدي. ولكن، شيئاً فشيئاً، يبدأ الناس بقبول ذلك". كما تمنع سلطة الحكم الذاتي تعدد الزوجات، رغم أنه توجد دوما استثناءات للقاعدة. فـ" نقص عدد الشباب" يجبر بعض النساء على قبول التزوج من رجال متزوجين، مثلما تروي ذلك السيدة عزيز مبينة "إذا كانت كل الأطراف المعنية راضية، فإنه بإمكان القاضي أن يسند هذا الحق بصورة استثنائية".
وتوضح سارة الخالي، إحدى مسئولات "كونجرا ستار"، التي تعبر عن اعتزازها بالمشاركة في القضاء على "جرائم الشرف"، "في هذه المنطقة، هناك عادة مروعة هي الثأر. إذا قتل أحد ما شقيقي، فإن عائلتي مطالبة بالثأر بقتل أحد أعضاء الأسرة الأخرى. وقد شكلت كونجرا ستار لجنة من اجل تحقيق مصالحة بواسطة ممثلين عن الأسرتين بهدف الحيلولة دون الثأر. وإذا ما طرأت مشكلة في أحد الأحياء، فإن لجنة من النساء تتدخل لمحاولة حلها، وإن لم تتوصل إلى ذلك، فإنهن تأتين إلى هنا، وإذا لم تجد دار النساء حلا، فإن النزاع يرفع إلى المحكمة والقضاء".
ونحن نجد في هذا، تطبيقا مباشراً لمبادئ مستلهمة من نظرية "الكوميونة" التي طورها موراي بوكشين. وفي هذا الصدد يقول إبراهيم موسى، أحد سكان كوباني "هنا، يمكن لكل شارع ولكل حي أن يكون كوميونة، وهي بمثابة حكومة قاعدية منتخبة من قبل السكان، ويمكن إنهاء مهامها. وقد تم خلال العام الماضي إنشاء 2300 كوميونة في إقليم كوباني، أمكن لها معالجة 9700 شكوى، 500 منها فقط تم تحويلها إلى جهاز القضاء. وكمثال آخر فإن السكان يتثبتون من أن القانون المضاد للهيمنة، قد تم احترامه في كل حي، كي لا يستفيد التجار من الحصار، لرفع الأسعار". ويجسد الوضع في كوباني أيضا التحديات التي تلاقيها عملية التعايش بين عدة مجموعات سكانية وحّدها القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية،
ولكنها غير متوافقة بالضرورة علي ما تبقي من القضايا. وفي ظل نظام الأسد، كان التعليم يتم فقط باللغة العربية. وقد مكن إصلاح للمنظومة المدرسية، في ظل بعض الصعوبات، من تحقيق التساوي بين اللغات الرسمية الثلاث، السريانية والعربية والكردية، مثلما يوضح ذلك السيد ديلدار كوباني، عضو إدارة التربية في هذه المقاطعة: "إن جمعنا هو فسيفساء من الزهور ذات الألوان المتعددة، والبعض يتهمنا بتكريس هيمنة البعد الكردي، وهذا مردود عليه، ذلك أن نصف عدد مدرسينا الــ 20 ألفا هم من العرب. وفي كوباني، الجزء الأكبر من الإدارة كردي، علي غرار السكان، ولكن في تل أبيض، وهي منطقة مختلطة، فإن الإدارة نصفها كردي، ونصفها الآخر عربي".
[caption id="attachment_4014" align="aligncenter" width="890"]
النازحون السوريون في مخيم بالقرب من منبيج يبحثون عن السلامة في الأراضي التي تشغلها القوات الديمقراطية السورية[/caption]
الإرث المأساوي
كانت مامبيدج، المرحلة قبل الأخيرة من زيارتنا، وهي مدينة حررت في أغسطس2016 من هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية، من قبل مقاتلي تنظيم "القوات الديمقراطية السورية"، في أعقاب معركة شرسة وجد هؤلاء الأخيرون أنفسهم فيها في مواجهة القوات التركية وجزء من الجيش السوري الحر. وفي سوق المدينة، الذي يزخر بالتوابل والبهارات والحلويات ومتاجر الجزارة والمخابز، يبرز التنوع الثقافي ساطعا أمام العيون. فهناك نساء منقبات يقضين أغراضين إلى جانب نساء سافرات. وهناك عرب يبيعون الغلال الى جانب قصابين أكراد وخبازين شركسيين. وهناك أيضا أحمد التركماني بصدد إعداد البيتزا وهو يرفض مطلقا الفكرة التي تقول بأن مجموعته الإثنية تساند تدخلا تركيا، إذ يؤكد قائلا " إننا نعيش هنا جميعا كأشقاء، فالعلاقة بين المجموعات التركمانية والكردية والعربية والشيشانية علاقة جيدة جدا، وهناك حتي عمليات زواج مختلطة، وعليه، ماذا يمكن لتركيا أن تأتي لتفعله هنا؟".
وتنتمي السيدة عبير العبود، التي ترتدي الحجاب، إلى قبيلة بني سلطان العربية الكبري، واسمها يتم تداوله لعضوية حكومة مامبيدج المدنية، وهي أيضا ترفض مطلقا الطموحات المنسوبة لتركيا، وتقول "نستنكر بشكل كبير الاتهامات التركية، التي تقول بأن الأكراد يهيمنون علي المواطنين العرب والتركمان والشيشان والشركس. فالمجموعات الخمس ممثلة في المجلس الكبير، والعرب يحظون بالأغلبية في كل المجالس الأخري. إن تركيا تريد إلحاق الأذي بصورتنا. وإذا كانت تريد القتال ضد الأكراد تحت هذه الذريعة، فإننا نحن العرب سنكون إلى جانب الأكراد من أجل الدفاع عن تنوعنا الاجتماعي".
وغير بعيد عن السوق، التقينا علي حاتم، وهو عربي عمل طول حياته كسائق في مجال البناء، ويبيع اليوم السجائر، وهي مهنة جزاؤها القتل تحت حكم تنظيم داعش. يقول في هذا الخصوص: "عندما قدم الجيش السوري الحر وجبهة النصرة الى هنا، أضحي الوضع جد صعب. فقد كانوا يتدخلون في كل مظاهر الحياة. وإضافة الى ذلك، كانوا يسرقوننا ويتقاتلون فيما بينهم. أما في ظل تنظيم داعش، فقد كانت الأوضاع أشد سوءا، إذ كنا نخاف أن نتكلم، وكنا نعتبر أن للحوائط آذانا. أما اليوم، وإذا ما طرأت مشكلة ما، فإنه لدينا "مجلس حي". وقبل تحرير مامبيدج، أنشأ السكان مجلسا مدنيا بمشاركة كل المجموعات الإثنية بالمدينة، ومن بينها الأقلية من الأكراد (30 بالمائة من السكان). وبعد التحرير، أحال المجلس العسكري للقوات السورية الديمقراطية، السلطات السياسية، إلى هذا المجلس.
كما يتعين علي السلطات المحلية التعاطي مع الإرث المأساوي للماضي القريب، ومع ضرورة الحيلولة دون بروز أحقاد جديدة. فالسيدة عبير محمود، عضو المجلس المكلفة بالمصالحة والإدماج، فقدت أخبار زوجها منذ ثلاث سنوات بعد إيقافه من قبل تنظيم داعش. ورغم ذلك، فإنها تؤكد على الجهود التي يتعين بذلها في مجال المصالحة, وتقول في هذا الخصوص "عندما تم تحرير مامبيدج, جاء الكثير من الناس للقاء أعضاء القوات السورية الديمقراطية بهدف الوشاية بالمتعاونين. وقد تم إيقاف هؤلاء من قبل المجلس العسكري للحيلولة دون حصول عمليات ثأر دون محاكمة. وعلى إثر عملنا في مجال المصالحة، تم الإفراج عن 250 رجلاً ممن لم يلوثوا أياديهم بالدماء، وذلك بالتوافق مع وجهاء مسؤولي مجموعتهم الإثنية. فعقوبة الإعدام غير موجودة هنا". ويتم سجن الجهاديين الذين يشتبه بهم أو أدينوا بجرائم قتل في سجون تقول إنها تحترم اتفاية جنيف التي وقعها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني.
على طريق الرقة، عرجنا على بلدة آينيسا، مركز القيادة العسكرية للقوات السورية الديمقراطية. كان هناك عضو للميليشيا بصدد رسم عبارة "القوات الديمقراطية السورية" على الحائط باللغات العربية والكردية والسريانية وتفرض الحكومة الذاتية خدمة عسكرية لمدة تسعة أشهر، لكن الغالبية العظمى من المقاتلين المتواجدين على جبهة. القتال هم متطوعون، ومن بينهم بعض الأجانب، على غرار روبيرت جرود، الناشط السابق في "حركة احتلال وول ستريت"، الذي قتل في 6 يوليو، خلال دخول حزب الاتحاد الديمقراطي أحواز مدينة الرقة. وهناك قوافل عسكرية مصفحة خفيفة أمريكية تقوم بدوريات في الطرقات الصغيرة للمنطقة. وبعد ساعتين من السير عبر مشهد يعج بالمباني المهدمة والسيارات المحترقة، برزت لنا في الأفق المدينة. فالقناصة، وهجمات الجهاديين، تعرقل تقدم القوات السورية الديمقراطية. وعند مدخل المدينة، كان هناك مركز نجدة صغير تم إقامته في مستودع سابق يتولى معالجة المصابين بجراح خفيفة. وأبعد من ذلك بقليل، كان هناك مبنى يضم مجموعة شباب الميليشيات اليزيدية، وهي أقلية دينية كردية في العراق بصدد الاستعداد للذهاب إلى الجبهة. تؤكد إحدى عضوات هذه المليشيات أنها تريد الثأر لكل النساء ضحايا داعش، قائلة "أيا كنت النساء المعتقلات، يزيديات أم عربيات أو تركمانيات، فإننا جئنا هنا من أجل تحريرهن، وبعدها سنعود إلى ديارنا، لأننا هنا لسنا قوة احتلال".
ومن شرفات هذا المبنى، الذي يأتيه المقاتلون للتزود بالطعام او للراحة، يبدو المشهد العام لهذا التجمع السكني، الذي كان يضم سابقاً مائتي ألف نسمة، موسوما بالإثارة، فبين المنازل المهدمة، وتلك التي لا تزال قائمة، كانت الطرقات فارغة. فكل سكان الحي تم إجلاؤهم كتدبير وقائي. كما كنا نسمع طلقات متفرقة وبعض الانفجارات. وفي الطابق الاسفل من المبنى، كان هناك مقاتلون يتقاسمون طبقا كبيرا من الارز والخضر والدجاج، وكانت الشعارات الموضوعة على بدلاتهم مختلفة، فبعضهم من العرب، والآخرون أكراد أو يزيديون، لكنهم جميعا يستمعون باهتمام لمكالمة لاسلكي بين عضو من المجموعة ومركز قيادة قوات سوريا الديمقراطية، ينقل لهم الأوامر. إن فترة راحتهم قصيرة الأمد. فتنظيم الدولة الإسلامية يقاوم، وحتى وإن كانت هزيمته أمرا محسوما ولا شك فيه، فإن يتعين خوض عديد المعارك الأخرى قبل النصر.
ميراي كور
أستاذ اللغة الإنجليزية وعضو تنسيقية التضامن مع كردستان
كريس دان هوند
صحفي. وقد تولى الاثنان مهمة التنسيق (بالتعاون مع ستيفن بوكان) لإعداد مؤلف "منطقة روج آفا. كالبديل الكردي للدولة القومية".
المصدر: لوموند ديبلوماتيك الطبعة العربية ملحق جريدة الأهرام
علي الرغم من مقدم الليل ، كانت لاتزال الحرارة الخانقة تخيم علي القامشلي. فبعد أن غادرنا سريعا المطار الصغير، الذي لايزال يراقبة بضع عشرات من رجال الشرطة والجيش التابعين لحكومة الرئيس بشار الأسد، دخلنا فورا في أراضي "الفيدرالية الديمقراطية بشمال سوريا" التي يطلق عليها الأكراد اسم "روج آفا" ("الغرب" باللغة الكردية) فعلي طوال الحدود التركية، بين نهر الفرات والعراق، يقيم حوالي مليوني نسمة (60 بالمائة منهم من الأكراد) علي هذه الأراضي التي انتزعت من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومنذ سنة 2014، يعيش هؤلاء السوريون تجربة سياسية مستوحاة من اطروحات عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني PKK، المعتقل في تركيا منذ 1999. ويتخذ حزب العمال الكردستاني، الذي تخلي عن الماركسية اللينينية، وحليفة السوري، حزب الوحدة الديمقراطي PYD، منذ سنة 2000 كمرجعية، نموذج "الكوميونة التحرري" الذي وضعه خبير البيئة الأمريكي، موراي بوكشين (1921 . 2006). وترفض وثيقتهم المرجعية، "العقد الإجتماعي للفيدرالية الديمقراطية بشمال سوريا", الذي اعتمد سنة 2014، فكرة القومية، وتنادي بمجتمع قوامه العدالة والمساواة واحترام حقوق الأقليات.
ومنطقة "روج آفا" هي منطقة مستقلة ذاتيا من حيث الواقع. وباستثناء الجيبين الصغيرين، جيب الحسكة، وجيب مطار القامشلي، الذي يخضع لسلطة دمشق، فإن المنطقة تسيطر عليها "القوات الديمقراطية السورية FDS"، التي تضم المقاتلين والمقاتلات الأكراد من "وحدات حماية الشعب" YPG، و"وحدات حماية المرأة" YPJ، وكذلك عناصر المليشيات العربية السنية واليزيدية والمسيحية.
[caption id="attachment_4012" align="aligncenter" width="1024"]
مناطق تمركز الأكراد في سوريا[/caption]وترفرف أعلام "وحدات حماية الشعب" علي مختلف الحواجز بالقامشلي، حيث تتولي شرطة سلطة الحكم الذاتي التفتيش الدقيق للسيارات. وتمثل الهجمات الانتحارية التي ينفذها مقاتلون، خطرا دائما. والجميع يستحضر في الذاكرة هجوم 27 يوليو 2016 الذي خلف 44 قتيلا و140 جريحا. وتتقاطع الظلمة التي تلف الطرقات مع الأضاء التي تنير مدينتي نصيبين وماردين، الواقعتين علي الجانب المقابل من الحدود التركية. ففي منطقة تزخر بالثروات الطبيعية، تجسد مسألة الطاقة التحديات التي تجابه السلطة الجديدة. ففي الرميلان، التي تبعد 100 كلم عن القامشلي، علي الطريق نحو العراق، تتكدس طوابير انتظار طويلة أمام محطات توزيع الوقود. وقبل بداية الحرب سنة 2011، كانت هذه المنطقة تنتج 380 ألف برميل نفط خام يوميا، أي ثلث إنتاج البلاد. ومع اندلاع المعارك، تراجع استخراج النفط بنسبة 70 بالمائة، وسجل نقص فادح في إنتاج البنزين. وفي ظل غياب مصانع تكرير، وجدت حكومة منطقة الحكم الذاتي نفسها مجبرة علي بيع جزء من النفط الخام إلى الإدارة السورية, التي تزودها لاحقا بالوقود بأسعار مرتفعة.
توزيع السلطة بين المناطق
هناك عدد كبير من وحدات التكرير التقليدية الصغيرة التي تبيع بنزيناً بسعر رخيص، غير أن أثر هذا النشاط علي البيئة بلغ درجة مثيرة للقلق فالأدخنة تلف بالسواد المنطقة، والأمراض الجلدية ومشاكل التنفس تتضاعف. وتقر السيدة سمر حسين، مساعدة رئيس لجنة الطاقة، التي يوجد مقرها بالرميلان، بالأمر قائلة " ليس لدينا أية حلول أخري في الوقت الحاضر. وحالما أمكننا ذلك، سنتولي بناء مصانع تكرير عصرية وتنظيف المنطقة، وسنقوم، بطبيعة الحال، بتشغيل كل هؤلاء العمال في المصانع الجديدة".
وفي مواقع أخري من منطقة روج آفا، علي غرار مامبيدج، قوبل إجراء منع وحدات التكرير التقليدية بعدم الرضي من قبل جزء من السكان الذين يعانون منذ وقت من ترشيد التزود بالكهرباء رغم عودة السدود الثلاثة الرئيسية المبنية علي نهر الفرات للنشاط. ووفقا للاتفاقات الدولية، فإن تركيا، التي تتحكم في النهر من المنبع، مطالبة بضمان مرور 600متر مكعب من المياه في الثانية. ويؤكد السيد زياد رستم، المهندس ونائب رئيس لجنة الطاقة في إٌقليم سيزير، أنه "عندما كانت هذه السدود تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، كانت تركيا تسمح بمرور كميات أكبر من المياه، لكن لما حررت قوات سوريا الديمقراطية هذه السدود، بدأت تركيا في خفض حجم المياه. ويقل حجم التدفق حاليا عن 200 متر مكعب في الثانية".
ويقدم شروان يوسف، وهو صحفي بقناة روحاني التلفزيونية الكردية بالقامشلي، شهادة يؤكد فيها مشاعر السخط الشعبي. يقول في هذا الصدد "لقد تظاهر بضع مئات من الأشخاص في القامشلي احتجاجا علي الحكومة الذاتية وليس علي تركيا .. وإني أري أن هذه الاحتجاجا مشروعة، فالنقد يقوي السلطات وليس العكس، ولا يمكن أن تظل الحرب دوما الذريعة لنقص الخدمات المقدمة". وإذا كانت حماية البيئة تحتل مرتبة متقدمة ضمن "العقد الاجتماعي"، فإن أطرافا أخري تؤكد علي الظروف التي تعيق بناء مصانع تكرير، وعلي تحديث السدود أو تطوير الطاقات المتجددة، ذلك أن تركيا تفرض حصارا علي المنطقة تماما مثل حلفائها في الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK الذين يسيطرون علي شمال العراق.
كما أن إدارة الاحتياجات العاجلة والمعارك لم تحلْ دون إرساء مشروع مؤسساتي للكونفيدرالية الديمقراطية يقوم علي مبدأ الحكم الذاتي المحلي. ويتم تجميع البلديات في ثلاث مقاطعات هي الجزيرة وكوباني وعفرين، التي تتمتع كل واحدة منها بجمعية تشريعية وحكومة محلية. وسيتولي مجلس ديمقراطي سوري مستقبلا، وفي المدي البعيد، الإشراف علي المقاطعات الثلاث, التي تتولي حاليا تنسيق سياساتها. وقد جرت أولي الانتخابات في مارس 2015، ومن المفترض إجراء انتخابات أخري في نهاية العام، في حين أن المجالس التشريعية ينتظر انتخابها بداية 2018.
وقد تمت مقاطعة الانتخابات الأولي من قبل الأكراد السوريين القريبين من الحزب الديمقراطي الكردستاني، علي غرار السيدة نارين ماتيني، عضو إدارة حزب تيار المستقبل الكردي وعضو المجلس الوطني الكردي CNK، الذي يقوده السيد مسعود بارزاني، رئيس الحكومة الكردية الإقليمية بالعراق. وهي تستقبل الصحفيين في منزلها في الحي الشعبي بمدينة القامشلي، لأنه تم إغلاق المكتب التابع لحزبها من قبل سلطة الحكومة الذاتية. تقول في هذا الخصوص "إن مشروعنا هو مشروع قومي كردي، ومن أجل كردستان مستقلة. ونحن لانساند مشروع فيدرالية ديمقراطية بشمال سوريا. وقد أغلقت السلطات مكاتبنا واعتقلت ثم أفرجت عن عدد من مناضلي حزبنا، كما أن الحكومة الذاتية تقول لنا بأنه يجب علينا التسجيل من أجل الحصول علي رخصة العمل، إلا أن ذلك يعني أننا موافقون عليها". وبالنسبة للسيد حكم خيلو، الرئيس المشارك للمجلس التشريعي لمقاطعة سيزير، فإن التوتر بين حزب الاتحاد الديمقراطي وأنصاربارزاني يعكس بالخصوص صراعا علي السلطة، " إذ كان بمقدورهم طلب ترخيص للحزب، دون أو يوقعوا علي العقد الاجتماعي، وكان بإمكانهم الحصول علي هذا الترخيص".
ويوجد مقر المجلس التشريعي لمقاطعة الجزيرة في "عامودي" التي تبعد 20 كلم عن القامشلي. والبناية التي تحتضنة تحظي بحماية فائقة، ولا يمكن لأحد النفاذ إليها راجلا إلا بعد عملية تفتيش وتثبت في الهوية. وتجمع هذه الهيئة، التي تضم 101 أعضاء نصفهم من النساء، ممثلي الأحزاب السياسية التي وقعت "العقد الاجتماعي". كما يضم ممثلي جمعيات المجتمع المدني التي ترسل عضوين عنها، رجل وامرأة، إجباريا. ويتم اقتراحهم من قبل منظمتهم او جمعيتهم قبل المصادقة عليهم من قبل المجلس التشريعي. وإضافة الى ذلك، هناك زهاء عشر منظمات سياسية كردية أو عربية قد حصلت علي الترخيص وعلي دعم مالي لمساعدتها علي النشاط، دون أن تتمتع بعضوية المجلس.
ولا يمثل تأسيس دولة قومية كردية أحد الأهداف التي وضعها أو جلان، الذي يقدم حركته علي أنها حركة مناهضة للقومية. وفي هذا الصدد، كتب من سجنه أن حركته "ترمي الى تكريس حق الدفاع الذاتي عن الشعوب، عبر الإسهام في تقدم الديمقراطية في كل أرجاء كردستان, دون المساس بالحدود السياسية القائمة". وتؤكد السيدة سهام كيريو، الرئيسة المشاركة في لجنة الشؤون الخارجية في الحكومة الذاتية لمقاطعة الجزيرة، "نحن لا نريد أن يتم فصلنا عن الأراضي السورية الأخري، والأكراد والعرب والسريان في المنطقة قد اتفقوا سنة 2013 علي إرساء حكومة ذاتية. وعندما شرعنا في ذلك، لم نكن ننتظر أن يطول ذلك لأكثر من أربعة أشهر". وتذكر السيدة كيريو، وهي عضوة الطائفة المسيحية التي تضم بالخصوص السريان والآشوريين والكلدانيين، بأن حرية العبادة مضمونة، وبأنه ليس هناك دين دولة.
وبالنسبة للتحالف الوطني السوري، الذي من المفترض أنه يجمع المعارضة وهو القريب من الإخوان المسلمين، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي ومجموعات عسكرية أخري تظل "منظمات إرهابية" متحالفة مع حزب العمال الكردستاني. كما تتهمه عديد شخصيات المعارضة السورية بأنه يلعب ورقة النظام، وبأنه لا يقاتل في الميدان. إلا أن آخرين غيروا وجهة نظرهم، علي غرار بسام إسحاق، المدير التنفيذي السابق لمنظمة الدفاع في الحقوق الإنسانية، وهو من منطقة الحسكة . فقد التحق في البداية بالمجلس الوطني السوري، الذي يعد من أطراف التحالف والذي يوجد مقره باسطنبول، قبل أن يلتحق بروج آفا. يقول في هذا الشأن "عندما تحولت الثورة من مرحلة المظاهرات السلمية الى مرحلة التمرد العسكري، أضحي جليا بأن لهم مشروعا مخالفا لمشروعي فهذه المعارضة تريد طرد الرئيس الأسد والسيطرة علي السلطة، وهكذا كان لدي الخيار بين مشروع الدولة الدينية الذي يدعو له المجلس الوطني السوري، ومشروع سوريا عربية قومية، ومشروع دولة تعددية وإني أعتقد أن أفضل وسيلة للحيلولة دون ظهور ديكتاتور جديد في دمشق، هي توزيع السلطة بين المناطق".
[caption id="attachment_4017" align="aligncenter" width="890"]
يرسم الفنانان احمد شمس الدين (إلى جي) وعبد الله عبد (للدكتور) اللوحات التي ستشكل سقف البرلمان في ديرك ، في منطقه روجاوا المستقلة ذاتيا[/caption]الإدعاءات المتعلقة بالتجنيد القسري
وخلال مجمل زياراتنا وتنقلاتنا ، عبّر العديد من الأكراد عن استنكارهم للاتهامات بالتواطؤ مع دمشق، كما كرروا دون هوادة التأكيد علي مايرونه أخطاء استراتيجية ارتكبتها المعارضة، من ذلك أن السيد مسلم نابو وهو مدرس تابع تعليمه في جامعة اللاذقية، يتولي هو وأصدقاؤه بصورة سرية، نشر مجلة باللغة الكردية. وقد تم إيقافهم سنة 2007 ونقلهم إلى دمشق حيث تم تجميعهم في زنزانة وتعرضوا للضرب علي مدي ثلاثة أشهر. يؤكد نابو: "يقول البعض إننا ندعم نظام الأسد. إنها لكذبة وقد تم الإفراج عنه بعد سنة وأسبوع من الاعتقال، وهي المدة الأقصي في مجال الإعتقال الإداري دون محاكمة. وفي هذا الصدد يقول عانينا كثيرا من هذا لنظام الذي عذب وقتل عددا من قادتنا السياسيين غير أن الأحزاب الكردية ليست من أنصار ثورة عسكرية تابعة لتركيا وقطر وغيرهما. فمساندة هذه البلدان للمجموعات الجهادية، مثلت كارثة بالنسبة للثورة السورية".
وقد أثار تقريران دوليان نشرا سنتي 2014 و 2015 الكثير من الغبار والجدل حول السياسة الحقيقية لحزب الاتحاد الديمقراطي في المناطق التي تم استعادتها من تنظيم الدولة الإسلامية، وبخاصة منطقة تل أبيض. وفي هذا الخصوص، صرحت السيدة لاما فقيه، المستشار في الأزمة السورية بمنظمة العفو الدولية في أكتوبر 2015 قائلة: "من خلال تدميرها المتعمد لمساكن المدنيين، وقيامها في بعض الأحيان بنسف وإحراق قري بأكملها وبترحيل سكانها دون أي مبرر عسكري أظهرت إدارة الحكم الذاتي شططاً مبالغاً فيه وإفراطا في استخدام السلطة، وضربت عرض الحائط بالقانون الدولي الإنساني، في نطاق هجمات تمثل جرائم حرب". وقد تضمن تقرير صادر عاما قبل ذلك عن منظمة هيومان رايتس ووتش وقائع تشابه ما أوردته السيدة فقيه. تقول السيدة فيريو مدافعة، لا يمكننا الحديث عن تطهير عرقي للعرب, وتضيف "عندما كانت المعارك علي وشك الاندلاع، طالبت وحدات حماية الشعب الكردي السكان بمغادرة منازلهم طيلة فترة المعارك. وقد زرت شخصيا بعد المعارك العديد من القري المحررة حول تل أبيض أو الرقة وقد أعلمني الناس هناك بأن الأمور سارت كذلك ، وقد عادوا الى منازلها بعد 15 يوماً".
ويفند تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، الذي نشر في مارس 2017 الاتهامات بالتطهير العرقي، إذ جاء فيه "لم تعثر اللجنة علي أي دليل يدعم الاتهامات التي تقول بأن قوات الاتحاد الديمقراطي الكردستاني أو مقاتلي القوات الديمقراطية السورية قد استهدفت السكان العرب علي أسس عرقية، أو أن السلطات المحلية التابعة للاتحاد الديمقراطي قد سعت بشكل منظم الى تغيير التركيبة الديمغرافية للأراضي التي تخضع لسيطرتها، عبر استهدف أية واحدة من المجموعات الأثنية". كما أشار التقرير إلى أن القنابل التي تم زرعها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية, هى التي تبرر عمليات الترحيل, لكن المجلس إنتقد نقص المساعدة الإنسانية "الملائمة" المقدمة الى المجموعات السكانية التي تم ترحيلها, وكذلك عمليات "التجنيد القسري" من قبل حزب الإتحاد الديمقراطي, من أجل أداء الخدمة العسكرية.
غادرنا عمودي باتجاه كوباني شرق روج آفا. ويحاذي الطريق حائط طويل على امتداد 500 كيلومتر بنته تركيا من خلال اختراق الأراضي السورية. وهذا الحائط الذي بني بالإسمنت المسلح والمدجج بالأسلاك الشائكة, يقوي الإحساس بعزلة هذه الأراضي. ومع بداية شهر يوليو, كانت حقول الحبوب الشاسعة قد تم حصادها وترعى فيها قطعان الخراف بحثا عما تأكله. كما تغطي الهضاب أشجار الزيتون المغروسة حديثاً في خطوط متساوية, ويلتحق العمال الزراعيون, وهم غالباً من صغار السن, بعملهم مبكرا لينهوا شغلهم قبل تصاعد درجات الحرارة. وقريبا من تل أبيض يمر الطريق فوق نهر ذي تفق عال, إنه مجرد تفريعة صغيرة, لكن مع حبس مياه الفرات, فإن تركيا تحول مياه الأمطار نحو وديان ثانوية, بما يرجع بالفائدة في مجال ري المزروعات.
وعند مدخل كوباني، تغطي صور "الشهداء" والكثير منهم من النساء، البناية المركزية للمدينة، على غرار كل التجمعات الحضرية بالمنطقة. كما نلاحظ حضور لافت لصور اوجلان. فهذه المدينة، التي دمر جزء كبير منها قبل عامين، تزخر اليوم بالطاقة والنشاط. فالآلات الرافعة والعمارات طور التشييد تجاور بقايا البيوت المدمرة بالصواريخ وقذائف المدفعية. تقول السيدة هاوزين عزيز، التي تعمل في جمعية للتطوير العمراني، "نحن نريد في اسرع وقت ممكن إعادة البناء حتى يعود الناس". ووفق روايتها، فإن المساعدة الإنسانية ليست على مستوى المتوقع ولا مستوى الوعود، موضحة: "عملية إعادة البناء، تتم أساسا بإمكانياتنا الذاتية".
وقد مثلت معركة كوباني، التي دارت بين سبتمبر 2014 ويناير 2015، منعطفا حاسما في الكفاح ضد الدولة الإسلامية. فبعد السيطرة على الموصل في العراق، والرقة في سوريا، سجل توسع داعش في هذه المدينة أولى نقاط توقفه. كما أن هذه المعركة مكنت العالم من اكتشاف مكانة أخرى للنساء في الشرق الأوسط. وقد أطلق اسم "كونجرا ستار"ت Kongra Star على "بيت النساء" في المدينة. ففي شارع صغير وهادئ، تستقبل هذه البناية الشاسعة بالخصوص النساء اللائي يقدمن من أجل تقديم الشكوى في قضايا العنف الزوجي. هناك قاعة اجتماعات كبرى تفتح على الحديقة علقت على حائطها نسخة من لوحة رسمها فنان في غزة: امرأة شابة تبرز من الخراب كرمز للمستقبل والأمل. وفي كل جوانب هذه اللوحة، كانت الحوائط مغطاة بصور نساء قتلن خلال معركة كوباني. أما الجانب الآخر من الدار والذي له مدخل خاص فإنه يمكن من استقبال النساء اللائي يواجهن حالات صعبة.
وتؤكد مخاطباتنا على المساواة بين الجنسين كركيزة أساسية في "العقد الاجتماعي" لمنطقة روج أفا. وفي هذا السياق، يتم المساواة في الميراث بين الأبناء في حين تعطي الشريعة الإسلامية للمرأة نصف نصيب الرجل في الميراث وفي هذا تقول السيدة سارة الخالي أحد المديرين في كونجرا: "ليس من السهل تطبيق هذه الأحكام الجديدة في مجتمع تقليدي. ولكن، شيئاً فشيئاً، يبدأ الناس بقبول ذلك". كما تمنع سلطة الحكم الذاتي تعدد الزوجات، رغم أنه توجد دوما استثناءات للقاعدة. فـ" نقص عدد الشباب" يجبر بعض النساء على قبول التزوج من رجال متزوجين، مثلما تروي ذلك السيدة عزيز مبينة "إذا كانت كل الأطراف المعنية راضية، فإنه بإمكان القاضي أن يسند هذا الحق بصورة استثنائية".
اللغات الثلاث على قدم المساواة
وتوضح سارة الخالي، إحدى مسئولات "كونجرا ستار"، التي تعبر عن اعتزازها بالمشاركة في القضاء على "جرائم الشرف"، "في هذه المنطقة، هناك عادة مروعة هي الثأر. إذا قتل أحد ما شقيقي، فإن عائلتي مطالبة بالثأر بقتل أحد أعضاء الأسرة الأخرى. وقد شكلت كونجرا ستار لجنة من اجل تحقيق مصالحة بواسطة ممثلين عن الأسرتين بهدف الحيلولة دون الثأر. وإذا ما طرأت مشكلة في أحد الأحياء، فإن لجنة من النساء تتدخل لمحاولة حلها، وإن لم تتوصل إلى ذلك، فإنهن تأتين إلى هنا، وإذا لم تجد دار النساء حلا، فإن النزاع يرفع إلى المحكمة والقضاء".
ونحن نجد في هذا، تطبيقا مباشراً لمبادئ مستلهمة من نظرية "الكوميونة" التي طورها موراي بوكشين. وفي هذا الصدد يقول إبراهيم موسى، أحد سكان كوباني "هنا، يمكن لكل شارع ولكل حي أن يكون كوميونة، وهي بمثابة حكومة قاعدية منتخبة من قبل السكان، ويمكن إنهاء مهامها. وقد تم خلال العام الماضي إنشاء 2300 كوميونة في إقليم كوباني، أمكن لها معالجة 9700 شكوى، 500 منها فقط تم تحويلها إلى جهاز القضاء. وكمثال آخر فإن السكان يتثبتون من أن القانون المضاد للهيمنة، قد تم احترامه في كل حي، كي لا يستفيد التجار من الحصار، لرفع الأسعار". ويجسد الوضع في كوباني أيضا التحديات التي تلاقيها عملية التعايش بين عدة مجموعات سكانية وحّدها القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية،
ولكنها غير متوافقة بالضرورة علي ما تبقي من القضايا. وفي ظل نظام الأسد، كان التعليم يتم فقط باللغة العربية. وقد مكن إصلاح للمنظومة المدرسية، في ظل بعض الصعوبات، من تحقيق التساوي بين اللغات الرسمية الثلاث، السريانية والعربية والكردية، مثلما يوضح ذلك السيد ديلدار كوباني، عضو إدارة التربية في هذه المقاطعة: "إن جمعنا هو فسيفساء من الزهور ذات الألوان المتعددة، والبعض يتهمنا بتكريس هيمنة البعد الكردي، وهذا مردود عليه، ذلك أن نصف عدد مدرسينا الــ 20 ألفا هم من العرب. وفي كوباني، الجزء الأكبر من الإدارة كردي، علي غرار السكان، ولكن في تل أبيض، وهي منطقة مختلطة، فإن الإدارة نصفها كردي، ونصفها الآخر عربي".
[caption id="attachment_4014" align="aligncenter" width="890"]
النازحون السوريون في مخيم بالقرب من منبيج يبحثون عن السلامة في الأراضي التي تشغلها القوات الديمقراطية السورية[/caption]الإرث المأساوي
كانت مامبيدج، المرحلة قبل الأخيرة من زيارتنا، وهي مدينة حررت في أغسطس2016 من هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية، من قبل مقاتلي تنظيم "القوات الديمقراطية السورية"، في أعقاب معركة شرسة وجد هؤلاء الأخيرون أنفسهم فيها في مواجهة القوات التركية وجزء من الجيش السوري الحر. وفي سوق المدينة، الذي يزخر بالتوابل والبهارات والحلويات ومتاجر الجزارة والمخابز، يبرز التنوع الثقافي ساطعا أمام العيون. فهناك نساء منقبات يقضين أغراضين إلى جانب نساء سافرات. وهناك عرب يبيعون الغلال الى جانب قصابين أكراد وخبازين شركسيين. وهناك أيضا أحمد التركماني بصدد إعداد البيتزا وهو يرفض مطلقا الفكرة التي تقول بأن مجموعته الإثنية تساند تدخلا تركيا، إذ يؤكد قائلا " إننا نعيش هنا جميعا كأشقاء، فالعلاقة بين المجموعات التركمانية والكردية والعربية والشيشانية علاقة جيدة جدا، وهناك حتي عمليات زواج مختلطة، وعليه، ماذا يمكن لتركيا أن تأتي لتفعله هنا؟".
وتنتمي السيدة عبير العبود، التي ترتدي الحجاب، إلى قبيلة بني سلطان العربية الكبري، واسمها يتم تداوله لعضوية حكومة مامبيدج المدنية، وهي أيضا ترفض مطلقا الطموحات المنسوبة لتركيا، وتقول "نستنكر بشكل كبير الاتهامات التركية، التي تقول بأن الأكراد يهيمنون علي المواطنين العرب والتركمان والشيشان والشركس. فالمجموعات الخمس ممثلة في المجلس الكبير، والعرب يحظون بالأغلبية في كل المجالس الأخري. إن تركيا تريد إلحاق الأذي بصورتنا. وإذا كانت تريد القتال ضد الأكراد تحت هذه الذريعة، فإننا نحن العرب سنكون إلى جانب الأكراد من أجل الدفاع عن تنوعنا الاجتماعي".
وغير بعيد عن السوق، التقينا علي حاتم، وهو عربي عمل طول حياته كسائق في مجال البناء، ويبيع اليوم السجائر، وهي مهنة جزاؤها القتل تحت حكم تنظيم داعش. يقول في هذا الخصوص: "عندما قدم الجيش السوري الحر وجبهة النصرة الى هنا، أضحي الوضع جد صعب. فقد كانوا يتدخلون في كل مظاهر الحياة. وإضافة الى ذلك، كانوا يسرقوننا ويتقاتلون فيما بينهم. أما في ظل تنظيم داعش، فقد كانت الأوضاع أشد سوءا، إذ كنا نخاف أن نتكلم، وكنا نعتبر أن للحوائط آذانا. أما اليوم، وإذا ما طرأت مشكلة ما، فإنه لدينا "مجلس حي". وقبل تحرير مامبيدج، أنشأ السكان مجلسا مدنيا بمشاركة كل المجموعات الإثنية بالمدينة، ومن بينها الأقلية من الأكراد (30 بالمائة من السكان). وبعد التحرير، أحال المجلس العسكري للقوات السورية الديمقراطية، السلطات السياسية، إلى هذا المجلس.
كما يتعين علي السلطات المحلية التعاطي مع الإرث المأساوي للماضي القريب، ومع ضرورة الحيلولة دون بروز أحقاد جديدة. فالسيدة عبير محمود، عضو المجلس المكلفة بالمصالحة والإدماج، فقدت أخبار زوجها منذ ثلاث سنوات بعد إيقافه من قبل تنظيم داعش. ورغم ذلك، فإنها تؤكد على الجهود التي يتعين بذلها في مجال المصالحة, وتقول في هذا الخصوص "عندما تم تحرير مامبيدج, جاء الكثير من الناس للقاء أعضاء القوات السورية الديمقراطية بهدف الوشاية بالمتعاونين. وقد تم إيقاف هؤلاء من قبل المجلس العسكري للحيلولة دون حصول عمليات ثأر دون محاكمة. وعلى إثر عملنا في مجال المصالحة، تم الإفراج عن 250 رجلاً ممن لم يلوثوا أياديهم بالدماء، وذلك بالتوافق مع وجهاء مسؤولي مجموعتهم الإثنية. فعقوبة الإعدام غير موجودة هنا". ويتم سجن الجهاديين الذين يشتبه بهم أو أدينوا بجرائم قتل في سجون تقول إنها تحترم اتفاية جنيف التي وقعها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني.
على طريق الرقة، عرجنا على بلدة آينيسا، مركز القيادة العسكرية للقوات السورية الديمقراطية. كان هناك عضو للميليشيا بصدد رسم عبارة "القوات الديمقراطية السورية" على الحائط باللغات العربية والكردية والسريانية وتفرض الحكومة الذاتية خدمة عسكرية لمدة تسعة أشهر، لكن الغالبية العظمى من المقاتلين المتواجدين على جبهة. القتال هم متطوعون، ومن بينهم بعض الأجانب، على غرار روبيرت جرود، الناشط السابق في "حركة احتلال وول ستريت"، الذي قتل في 6 يوليو، خلال دخول حزب الاتحاد الديمقراطي أحواز مدينة الرقة. وهناك قوافل عسكرية مصفحة خفيفة أمريكية تقوم بدوريات في الطرقات الصغيرة للمنطقة. وبعد ساعتين من السير عبر مشهد يعج بالمباني المهدمة والسيارات المحترقة، برزت لنا في الأفق المدينة. فالقناصة، وهجمات الجهاديين، تعرقل تقدم القوات السورية الديمقراطية. وعند مدخل المدينة، كان هناك مركز نجدة صغير تم إقامته في مستودع سابق يتولى معالجة المصابين بجراح خفيفة. وأبعد من ذلك بقليل، كان هناك مبنى يضم مجموعة شباب الميليشيات اليزيدية، وهي أقلية دينية كردية في العراق بصدد الاستعداد للذهاب إلى الجبهة. تؤكد إحدى عضوات هذه المليشيات أنها تريد الثأر لكل النساء ضحايا داعش، قائلة "أيا كنت النساء المعتقلات، يزيديات أم عربيات أو تركمانيات، فإننا جئنا هنا من أجل تحريرهن، وبعدها سنعود إلى ديارنا، لأننا هنا لسنا قوة احتلال".
ومن شرفات هذا المبنى، الذي يأتيه المقاتلون للتزود بالطعام او للراحة، يبدو المشهد العام لهذا التجمع السكني، الذي كان يضم سابقاً مائتي ألف نسمة، موسوما بالإثارة، فبين المنازل المهدمة، وتلك التي لا تزال قائمة، كانت الطرقات فارغة. فكل سكان الحي تم إجلاؤهم كتدبير وقائي. كما كنا نسمع طلقات متفرقة وبعض الانفجارات. وفي الطابق الاسفل من المبنى، كان هناك مقاتلون يتقاسمون طبقا كبيرا من الارز والخضر والدجاج، وكانت الشعارات الموضوعة على بدلاتهم مختلفة، فبعضهم من العرب، والآخرون أكراد أو يزيديون، لكنهم جميعا يستمعون باهتمام لمكالمة لاسلكي بين عضو من المجموعة ومركز قيادة قوات سوريا الديمقراطية، ينقل لهم الأوامر. إن فترة راحتهم قصيرة الأمد. فتنظيم الدولة الإسلامية يقاوم، وحتى وإن كانت هزيمته أمرا محسوما ولا شك فيه، فإن يتعين خوض عديد المعارك الأخرى قبل النصر.
ميراي كور
أستاذ اللغة الإنجليزية وعضو تنسيقية التضامن مع كردستان
كريس دان هوند
صحفي. وقد تولى الاثنان مهمة التنسيق (بالتعاون مع ستيفن بوكان) لإعداد مؤلف "منطقة روج آفا. كالبديل الكردي للدولة القومية".
المصدر: لوموند ديبلوماتيك الطبعة العربية ملحق جريدة الأهرام
