إن الإنقسامات العميقه ضمن اوروبا تهدد بشكل متزايد القيم التي على اساسها قام المشروع الأوروبي " إتحاد أقرب من أي وقت مضى" وفي سنة 2...
لكن التهديد الآخر للوحده الأوروبيه يأتي من الدول الأوروبيه نفسها ففي المانيا فإن المحادثات لتشكيل تحالف بين يسار الوسط ويمين الوسط قد انهارت وفي هولندا احتاج رئيس الوزراء مارك روتي لفترة 208 يوم من أجل تشكيل حكومه جديده بعد الانتخابات في مارس وفي المملكه المتحده فإن السلطة السياسية هناك في حالة فوضى بسبب بريكست وفي بولندا قام القوميون البيض والنازيون الجدد بالخروج في مسيرة ضخمه في شوارع وارسو.
هل الاختلافات اكبر بين الدول الأعضاء أو ضمن الدول الأعضاء نفسها؟ إن الجواب على هذا السؤال مهم للغايه فلو كانت اكبر مشاكل اوروبا هي كونها مقسمة على اساس الحدود الوطنيه فإن من الممكن عندئذ ان تحاول الدول الليبراليه مثل فرنسا والمانيا تغيير توازن القوى ضمن البلدان غير الليبراليه على نحو متزايد .
لقد وافقت كل دوله من دول الاتحاد الأوروبي على مجموعة من المعايير الديمقراطيه الليبراليه (جزء مما يطلق عليه اسم معايير كوبنهاجن ) عندما انضمت للنادي ولكن مع مرور الزمن لم تعد حكومتا هنغاريا وبولندا تريدان الإلتزام بالأحكام حيث من الممكن ان احد الحلول هو انشاء نادي اصغر بفوائد افضل والبلدان التي تريد الإنضمام الى هذه الدائرة الضيقه المتميزه يجب ان توافق على مجموعة الأحكام الجديده أو الأصليه والبلدان التي تنتهك تلك الأحكام ستكون خارج تلك الدائرة حيث سيكون في نهاية المطاف ثمن لإنتهاك معايير الإتحاد الأوروبي.
لكن هذا الحل يمكن أن ينجح فقط في حالة ان المشكلة الأكبر هي الإنقسامات بين الدول الأعضاء فلو نظرنا الى المانيا كمثال على الإنقسامات ضمن الدول الأعضاء لوجدنا ان ميركل شرعت في تجربه رائعه حاولت فيها توحيد حزبها الديمقراطي المسيحي المنتمي ليمين الوسط مع اكثر الاحزاب القوميه قربا لحزبها الاتحاد الإجتماعي المسيحي وحزب الديمقراطيون الاحرار المؤيد لقطاع الاعمال بالاضافة الى الخضر من اليسار.
ميركل هي مفاوضه موهوبه وهي اكثر ملائمه بكثير للكتابه عن "فن الصفقات " مقارنة بالكثيرين الذين لن نذكرهم في هذا المقام ولكن من السابق لاوانه توقع ما اذا كانت قادره على حل الإنقسامات في بلادها .
بينما يرغب الخضر بالإبقاء على الثقافة الترحيبية فإن موقف حزب الإتحاد الإجتماعي المسيحي هو أقرب لموقف مجموعة فيزجراد (جمهورية التشيك وهنغاريا وبولندا وسلوفاكيا) وفي واقع الأمر في ذروة ازمة اللاجئين سنة 2015 استضاف حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي اوربان في أحد مؤتمرات الحزب.
بينما الخضر هم من الفيدرالين الاوروبيين الذين يدعمون المزيد من التضامن الإقتصادي مع اليونان وايطاليا فإن حزب الديمقراطيين الاحرار يؤيد الانضباط المالي للفنلنديين والهولنديين والشوابيين الالمان ويعترض بشده على التكامل الاقتصادي الاوروبي الأعمق.
لقد كان الكثيرون يأملون ان تتمكن ميركل من تشكيل ائتلاف "جامايكا" ( نسبة الى الوان علم ذلك البلد) ولكن في نهاية المطاف فشلت التجربه وانسحب حزب الديمقراطيون الاحرار من المحادثات بسبب الاحباط وكما قال زعيم الحزب كريسيتان ليندنير " ان شركاء المحادثات الاربع ليس لديهم رؤيه مشتركه لتحديث البلاد أو أسس مشتركه للثقه".
حتى بدون ائتلاف جامايكا فإن المانيا ما يزال لديها اغلبية ليبراليه مستقره في البوندستاج ولكن الكلام نفسه لا ينطبق على بقية الاتحاد الاوربي حيث في كل الدول الاخرى الاعضاء تقريبا يوجد الان انقسام ضمن المجتمع 50:50 اي النصف عالميون والنصف الاخر يركزون على مجتمعاتهم المحليه وفي تلك البلدان فإن الحكومه في اي وقت تمثل اي طرف فاز بآخر جوله من الحرب الثقافيه المستمره.
في بريطانيا على سبيل المثال فإن 52% من الناخبين اختاروا الخروج من الاتحاد الاوروبي والان تتجه البلاد لإن تصبح دولة منعزله تتسم بالمناطقية وكراهية الاجانب ولكن يواصل قادتها اخبار الناس بإن بريطانيا ستكون في وضع افضل لوحدها وبالنسبة لإولئك الذين يؤمنون بذلك فإن حقيقة ان بريطانيا ستخسر حقها في المشاركة في عملية اتخاذ القرارات ضمن الاتحاد الاوروبي والتي تؤثر على بيئتها الاقتصاديه لا يبدو مهما.
على الجانب الاخر فرنسا لديها رئيس جديد ونشيط مؤيد للإتحاد الأوروبي وهو ايمانويل ماكرون وهو ملتزم بإعداد بلاده للسنوات القادمه ولكن فرنسا لا تعتبر اكثر عالميه من بريطانيا وفي الجوله الاولى من الانتخابات الرئاسيه هذا الربيع فإن الحملات ذات التوجه القومي لمارين لوبين وجان لوك ميلانشون ونيكولاس ديوبونت –اجينان حظيت بشكل جماعي بما نسبته 46% من الأصوات أي مثل نسبة الاصوات التي حصلت عليها حملة الخروج من الاتحاد الاوروبي في بريطانيا تقريبا.
إن من الواضح ان الاتحاد الأوروبي هو مجتمع من الدول ومن المواطنين وهذا يعني ان الإنقسامات ضمن الدول هي بنفس اهمية الخلافات الدبلوماسيه بين البلدان.
في وقت سابق من هذا العام حاول تقرير لمعهد بروكنغز ان يقرر ما اذا كانت اوروبا "المنطقة السياسيه الأمثل" وهو مفهوم مأخوذ من نظرية روبرت مونديل المتعلقة بمناطق العملات الأمثل حيث خلص التقرير الى نتيجة مفادها ان الخلافات الثقافية والمؤسساتيه بين دول الاتحاد الاوروبي لم تتغير كثيرا خلال العقود الثلاثة الماضيه من التكامل الاوروبي ولكن وجد التقرير كذلك ان الإنقسامات بين البلدان هي أقل بكثير من الخلافات ضمن البلدان أو بعبارة اخرى فيما يتعلق بموضوع حرية الحركة والتنقل فإن هناك استقطاب بين لندن ومنطقة الميدلاندز البريطانيه اكثر من الاستقطاب ما بين بريطانيا وبولندا.
إن انشاء اوروبا مرنه او متعددة المستويات يمكن ان يحل بعض المشاكل قصيرة المدى وذلك عن طريق الجمع بين ائتلافات الراغبين من اجل التعامل مع قضايا محدده ولكن يمكن ان يؤدي ذلك لإخطار جديده فمعظم الدول الاوروبيه بغض النظر عن المستوى الذي يريدون ان يكونوا عنده ما تزال مجتمعات 50:50 يمكن ان تختار او لا تختار المزيد من التكامل وذلك من خلال انتخابات واحده او استفتاء واحد وفي المستقبل لا يستطيع احد ان يستبعد امكانية انتخاب لوبين كرئيسه لفرنسا أو ان تصل حركة الخمسة نجوم المعاديه للاتحاد الاوروبي للحكم في ايطاليا وعلى نفس المنوال فإن المنبر المدني الاكثر اعتدالا قد يعود للحكم في بولندا.
إن مواجهة التحدي ضمن المجتمعات للمشروع الاوروبي لن تكون عمليه سهله فهي عباره عن مشكلة عميقه تتعلق بالاجيال وهي مشكلة تتعلق بشكل وثيق بالهويه الوطنيه والتاريخ والجغرافيا ولا يوجد حل مؤسساتي سريع لمثل هذه المشكله.