روسيا مُحاطة بالأعداء، وهي مستعدة للقتال في حرب مَلْحَمِية من أجل البقاء، أو على الأقل هذا ما يريد فلاديمير بوتين أن يعتقده مواطنوه. يقدم ا...
يقدم التلفزيون الروسي الذي تسيطر عليه الدولة في كل مساء تقريباً بثّاً إخباريّاً مع تسجيل فيديو لطائرات روسية في أثناء عملياتها على سوريا، تتخللها صورٌ لدباباتِ حلفِ شمالِ الأطلسي والقوات التي تهدد حدود روسيا.
المحلل نيكيتا إساييف تحدث مؤخراً في برنامج “ستون دقيقة”، وهو أكثر البرامج الحوارية السياسية الروسية مشاهدةً، عن “نصر روسيا العظيم” في سوريا الذي يبشر بعودة البلاد إلى ” مركزها كقوة عظمى”.
وفي أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني وضع بوتين مجتمع الاعمال الروسي في حالة تأهب، وقال في اجتماع لكبار القادة العسكريين في سوتشي: “إن قدرة اقتصادنا على زيادة الإنتاج والخدمات العسكرية في وقت معين هي واحدة من أهم جوانب الأمن العسكري”.
وأضاف: “يجب ببساطة ان تكون جميع المشاريع الاستراتيجية والواسعة النطاق مستعدة “.
كما هو الحال في الدعاية الروسية؛ فإن ادعاء الكرملين بأن البلاد في حالة حرب قد أصاب نواة الحقيقة. ولكنها نواة صغيرة جداً في سوريا حيث يعمل سِربٌ واحد مكوَّن من حوالي 36 طائرةً مقاتلة روسية يقودهم 4,751 فرداً يتواجد معظمهم في مطار حميميم منذ سبتمبر/ أيلول 2015.
وفي أوكرانيا الشرقية رُصِد جنود نظاميون روسٌ يرتدون زيّاً عسكريّاً، وهم يقومون بدوريات إلى جانب المتمردين غير النظاميين -أحدثها كان في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني عندما ظهر عدة مئات من أفراد قوات مجهولة، عُرِفَت باسم “الرجال الخُضر الصغار” في مدينة لوهانسك المتمردة لمنع الصراع الدامي على السلطة بين الزعماء الانفصاليين الذين انفصلوا عن كييف في صيف العام 2014.
فمع المشاركة العسكرية الفعلية المحدودة من قبل الجيش الروسي، لماذا يروج بوتين لفكرة أن بلاده على وشك صراع كارثي يتطلب تعبئة كاملة لجميع موارد روسيا؟
السبب الأكثر وضوحاً هو الحيلة الأقدم في كِتَاب السياسيين -توحيد البلاد ضد عدو خارجي خيالي لصرف الانتباه عن المشاكل الداخلية.
وبما أن الاقتصاد الروسي ما يزال يعاني من تأثيرات العقوبات الغربية المفروضة بعد ضم بوتين لشبه جزيرة القِرَم في 2014، فإن خلق أسطورة الحرب الأبدية أصبح الدعامة الأساسية لبقاء النظام.
قال بافل فيلغنهاور، وهو كاتب عمود في صحيفة “نوفايا غازيتا” المستقلة في موسكو: “لا يملك بوتين المال ليقدم الكثير لشعبه-فَدَخْلُ الأسرة آخذ في التضاؤل لأربعة أعوام متتالية. سوف يقود حملةَ إعادةِ انتخابه في 2018 على أساس الأمن القومي، عارضاً روسيا بوصفها دولةً تحت الحصار والهجوم”.
ولكنَّ هناك سبباً آخر أكثر إثارة للقلق في خطاب الكرملين العدواني الذي يحمل لهجة حربية -وهو اليقين بأن الحرب وشيكة.
إذ، ومنذ فترة طويلة تعود إلى العام 2013، أي حتى قبل الصراع في أوكرانيا، كان عنوانُ الخطة الإستراتيجية السنوية لوزارة الدفاع الروسية “الدفاع عن روسيا”.
وتوقعت الخطة دخول روسيا في صراعات عالمية وإقليمية خطيرة قبل عام 2023.
يقول أندرو موناغان، من كلية بيمبروك بأكسفورد، وكلية دفاع حلف الناتو في روما: “يتحدث كبار الروس بصيغة عندما وليس إذا وقعت حرب كبيرة. هم بالفعل في حالة حرب، وقد كانوا كذلك لوقت طويل”.
إن دعوة بوتين للصناعة حتى تكون على أهبة الاستعداد من أجل أن تتحول إلى الإنتاج الحربي هو عودةٍ إلى نظرية الدفاع في العقود السوفيتية القديمة، أنه يجب على كلَّ مصنعٍ في أرض الوطن بأن يكون جاهزاً على الفور لإنتاج الدبابات والرصاصات والطائرات.
ويقول فيلغنهاور: “بُني الاقتصاد السوفيتي ونظامه الاجتماعي على الاستعداد لحرب شاملة. جَعَلَ هذا النظام الاقتصاد الروسي غيرَ قادرٍ على المنافسة البتة… وإذا كان بوتين جادّاً في تنفيذ هذه التعبئة فعليّاً؛ فسوف تُفلس روسيا كما أفلس الاتحاد السوفياتي من قبل، وفكرةَ أنَّه باستطاعتك تحويل مصنع سجائر إلى مصنع رصاصات هي فكرة مضحكة في العالم الحديث”.
ومع ذلك ما تزال قطاعات الاقتصاد الروسي تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على إنفاق الدولة على الدفاع.
وحتى مع تدهور عائدات الكرملين بسبب انخفاض أسعار البترول والعقوبات، أَمَرَ بوتين بزيادةٍ كبيرة في الإنفاق العسكري.
ومن المقرر أن تتجاوز النفقات العسكرية في العام 2017، 65 مليارَ دولارٍ.
ولا تزال هذه النفقات تمثل جزءاً إذا ما قورنت بما تنفقه الولايات المتحدة وهو 611 مليار دولار، ومع ذلك فهو يمثل 3.3% من إجمالي الناتج المحلي الروسي، ولا يشمل ذلك ما ينفقه الكرملين على المنظمات شبه العسكرية مثل الحرس الوطني الروسي الذي شُكِّل حديثاً -وهو قوة مكونة من 330,000 جندي تحت قيادة بوتين المباشِرة، وتُمول من ميزانية وزارة الداخلية- أو الإعانات المالية لمتعهدي الفضاء وغيرها من المجالات المرتبطة بالدفاع.
[caption id="attachment_3747" align="aligncenter" width="768"] زاد بوتين من نسبة مخصصات وزارة الدفاع في الموازنة العامة[/caption]
الأمر الذي يقلق الكثيرين في الولايات المتحدة وأوروبا هو كيف يخطط بوتين لاستخدام السفن الحربية الروسية الجديدة والغواصات والمروحيات والصواريخ من طراز بولافا.
قال سفير بريطاني سابق لدى روسيا، لم يرغب في الاستشهاد بكلامه بطريقة تُشير له حيث أنه يشغل مهمة أخرى الآن: “تنهمك روسيا في نوع غريب من سباق التسلح أحادي الجانب. تاريخيّاً انتهت كل سباقات التسلح الماضية بالحرب، ما عدا في حالة روسيا، لا يمكن لأحد أن يكون متأكداً تماماً مِن هُوِيَّة مَن يستعدون لقتاله وأين”.
إن الشرق الأوسط هو المسرح الواضح الذي ضاعفت فيه روسيا من وجودها خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
وأظهر التلفزيون الروسي بفخر في الصور الأخيرة من بلدة دير الزور السورية العلم الروسي بجانب العلم السوري في الوقت الذي حررت فيه القوات التابعة للرئيس بشار الأسد المدينة من تنظيم داعش الإرهابي.
لكن تُفصح بقية الصورة عن عَلَمَيْنِ آخرين يرفرفَان أيضاً على المبنى الحكومي المحرَّر حديثاً -هَذَيْن العلمين لإيران وحزب الله.
وقد قرر بوتين في دعمه لنظام بشار الأسد في سبتمبر/ أيلول 2015 أن يأخذ عمليّاً جانب إيران في المعركة السنية-الشيعية المتصاعدة في المنطقة.
وقد زار اللواء قاسم سليماني، قائد قوات القدس الإيرانية التي تقاتل في سوريا ومنظم المليشيات الشيعية المعادية للولايات المتحدة في العراق والتي قتلت ما يزيد عن 500 جندي أمريكي خلال التمرد من 2003 حتى 2015، فقد زار موسكو ثلاث مرات على الأقل منذ يوليو/ تموز 2015 للتنسيق مع القوات الجوية والقوات الخاصة الروسية لدعم الأسد ودعم القوات الإيرانية في أرض المعركة.
ويهيئ هذا التحالف روسيا لتقف ضد الولايات المتحدة في أي حرب إقليمية مستقبلية بين إيران والمملكة العربية السعودية، وهي الدولة التي وعد الرئيس دونالد ترمب بإقامة علاقات أوثق معها.
يقول موناغان إن السيناريو الأكثر احتمالاً للصدام هو أن تجد كلاً من موسكو وواشنطن أنفسهم على طرفي نقيض من الصراع الإقليمي الذي “يخلق مواجهة أوسع -على سبيل المثال كوريا الشمالية، أو إيران مقابل المملكة العربية السعودية”.
أصبح إغراءُ روسيا بالتورط في صراع آخر بعد النصر الإستراتيجي السهل الذي حققته في سوريا كبيراً.
وبحسب مسؤول بريطاني رفيع المستوى غير مصرح له بالتحدث رسميّاً: “بَذَلَتْ روسيا جزءاً صغيراً من الدماء والثروة التي استثمرتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في العراق. وحصلوا على رأس مال دبلوماسي ضخم من ذلك، واستطاعوا الادعاء بأن تدخلهم كان نصراً عظيماً، حيث عادوا الآن قوةً يُعتَدُّ بها في الشرق الأوسط؛ لذا فسوف يرغبون بالتأكيد في محاولة تكرار هذه الخدعة في مكان آخر… يحب الجميع الحرب القصيرة الظافرة”.

[caption id="attachment_3746" align="aligncenter" width="768"]

الحرب الباردة الساخنة
تتجاوز مصلحةُ روسيا في سوريا مجردَ دعم الأسد بكثير.
فقد دعا وزير الدفاع الروسي في 2013 إلى وجود بحري واسع النطاق في البحر الأبيض المتوسط؛ ووَسَّعَتْ موسكو بشكل كبير منذ 2015 قاعدة بحريةً روسيةً صغيرةً تركت من الحرب الباردة، في طرطوس سوريا، وكذلك قاعدة جوية ساحلية رئيسة قريبة من حميميم، والتي تعطي للطائرات الروسية تغطيةً لمعظم المنطقة الجنوبية الشرقية من البحر المتوسط.
وقد بذلت روسيا كل ما في وسعها لإظهار قوة معداتها لجميع الأطراف في المنطقة عن طريق الاستخدام المتعمد لوسائل محكمة لضرب أهداف في سوريا.
وضربتْ قوات البحرية الروسية في العام الماضي أهدافَ المتمردين شمال حلب عن طريق إطلاق صواريخ كروز من الزوارق البحرية في بحر قزوين، أطلقتها على مدى أكثر من 900 ميل فوق إيران والعراق.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني استخدمت روسيا قاذفات قنابل بعيدة المدى من طراز تو-22M3 لضرب تنظيم داعش في دير الزور-لم تطلقها من حميميم بل من موزدوك، في غرب الشيشان في شمال القوقاز الروسي.
بالنسبة لبوتين “فإن المشاركة السورية هي جزء من المواجهة العالمية مع الولايات المتحدة” كما يقول فيلغنهاور.
ويكمن جزء من هذه المعركة في التودد إلى الحلفاء الغربيين السابقين في جميع أنحاء العالم، مع وعود بالمال والغاز والأسلحة، تماماً كما وقَّعت روسيا اتفاقاً مع مصر في نوفمبر/ تشرين الثاني يسمح لطائرات روسيا العسكرية باستخدام مجالها الجوي وقواعدها مما يزعزع الصداقة التي استمرت لعقود من الزمن مع الولايات المتحدة، التي شهدت تلقي القاهرة مساعدات بأكثر من 70 مليار دولار من العام 1973 وحتى العام 2013، عندما أوقف الرئيس باراك أوباما البرنامج بعد الانقلاب العسكري.
[caption id="attachment_3750" align="aligncenter" width="1080"]

وفي السياق نفسه زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موسكو العام الماضي، ووافق على شراء طائرات ومروحيات وصواريخ بقيمة 3.5 مليار دولار. وقد عقدت الدولتان تدريبات مشتركة لمكافحة الإرهاب، ووقَّعت مصر على شراء محطات طاقة نووية روسية الصنع، أما الأمر الأكثر خطورة فهو دعم كلٍّ من السيسي وبوتين تمرد القائد العسكري الليبي خليفة حفتر ضد الحكومة المدعومة من الغرب في طرابلس -بقوة روسية صغيرة متمركزة في الصحراء المصرية الغربية لدعم الجنرال، وفقاً لمصادرَ عسكرية أمريكية مقتبسة في صحيفة نيويورك تايمز.
ثُم هناك تركيا التي أبرَمَتْ معها روسيا صفقةً في سبتمبر/ أيلول لبيع صواريخ متقدمة بقيمة 2 مليار دولار، وهي عضو حلف شمال الأطلسي التي إنهار تحالفها القديم مع الولايات المتحدة بسبب تراجع الرئيس رجب طيب أردوغان عن الديمقراطية، وبسبب دعم الولايات المتحدة للأكراد في سوريا.
في أكتوبر/ تشرين الاول قررت روسيا على الرغم من تقربها الجديد من إيران، أن تبيع أيضاً للمملكة العربية السعودية حليفةِ الولايات المتحدة صواريخ بقيمة 3 مليار دولار؛ للدفاع ضد الهجمات الصاروخية للمتمردين الحوثيين في اليمن.
ومع المزيد من انتشار الأسلحة النارية على طول وخارج الحدود الروسية أكثر من أي وقت منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن المواجهة غير المقصودة هي إمكانية حقيقية.
ففي أواخر نوفمبر/ نشرين الثاني حلَّقت الطائرات الحربية الروسية على ارتفاع منخفض من طائرات بوسايدون الأمريكية المضادة للغواصات على بعد 6 أميال قُبالة ساحل شبه جزيرة القِرَم، التي يعترف بكونها منطقة روسية 7 دول فقط إضافة لروسيا.
وقال فليغنهاور: “أعطى الجيش الروسي أوامره لإسقاط الطائرات الأمريكية إذا تجولت في المجال الجوي البحري الروسي حول شبه جزيرة القِرَم. قال القائد المحلي [الروسي] أن الطيار الأمريكي كان محظوظاً لبقائه على قيد الحياة”. وقد أبلغت دول البلطيق عن تصعيد ثابت للمخالفات الروسية العدوانية لمجالها الجوي وغيرها من الحوادث الخطيرة، كان آخرها في يونيو/ حزيران الماضي، عندما زاحمت طائرة روسية طائرة تجسس سويدية لمضايقتها فوق المياه الدولية وحلقت على بعد 6 أقدام من الطائرة قبل أن تتراجع.
إن العلاقات الأمريكية الروسية في أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة؛ مما يزيد إلى حد كبير من مخاطر تصاعد حادث صغير إلى صراع خطير.
[caption id="attachment_3748" align="aligncenter" width="1080"]

لدى ترمب، الذي يتعرض للانتقاد الشديد بسبب علاقات فريقه بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية في 2016، حافز بسيط ليكون متساهلاً مع روسيا.
وفي الوقت نفسه كان بوتين يروج لقصةٍ تُظهر روسيا ضحيةً للعدوان الأمريكي، ويُعزز ذلك يوميّاً على التلفزيون الروسي الحكومي مع قصص عن الدعم الأمريكي للمناهضين لروسيا “الفاشيين” في أوكرانيا ودعم الولايات المتحدة المزعوم لتنظيم داعش في سوريا.
حتى أطفال المدارس في روسيا يُجنَّدون في جهودٍ لإلقاء الضوء على روسيا بوصفها مدافعاً شجاعاً عن الأمم الضعيفة ضد التنمر الأمريكي. وأظهر فيديو حديث على الإنترنت له شعبية في روسيا أطفالاً في عمر العاشرة يرتدون زيّاً عسكريّاً، ويقفون أمام تمثال الأم روسيا في ساحة المعركة في ستالينغراد، ويغنون: “لقد تعبنا من هيمنة أمريكا…نحن مستعدون لأن نتبعكم إلى المعركة، العم فلاديمير [بوتين]”.
[caption id="attachment_3749" align="aligncenter" width="768"]

يشعر بعض أعضاء المؤسسة الروسية بالفزع من الاستيلاء العسكري للسياسة الخارجية الروسية وآلية الدعاية. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني حذر سيرغي روغوف، رئيس مركز أبحاث ذو نفوذ يموله الكرملين يُسمَّى معهد الدراسات الأمريكية والكندية، من أنه يجب اتخاذ خطوة ما لتجنب وقوع حرب غير مقصودة، وعلى الرغم من أن روغوف ألقى اللوم على الأوروبيين والأمريكيين فيما يتعلق بإثارة الوضع، فقد حذر من أن “هذا الوضع قد يجلب الحرب في أي وقت” وهذا ليس مجرد كلام. ولذا يبدو جليّاً أن شعبية بوتين تعتمد بشكل أكبر على إبقاء روسيا في حالة حرب للأبد، فكلما زادت الخطورة زادت شعبيته.
أوين ماثيوز
موقع نيوزويك الشرق الأوسط