أمام أسلحة تزداد تطورا وإتقانا بصفة مستمرة، صار الجندي هو "الحلقة الضعيفة" في سلسة المنظومات الدفاعية. هذا هو ما ذكرته "الوكا...
أمام أسلحة تزداد تطورا وإتقانا بصفة مستمرة، صار الجندي هو "الحلقة الضعيفة" في سلسة المنظومات الدفاعية. هذا هو ما ذكرته "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع" والمعروفة باسم (Darpa). وقد عبرت عنه في تقرير يعود تاريخه إلي سنة 2002. وهذا ما اقتضي علي الفور تقريرا ثانيا أشار إلي أن استخدام الروبوتات الإلكترونية في جبهات القتال لن يغني عن الجنود ولذلك سخّرت الوكالة المذكورة المعارف المتوفرة للرفع من قدرات الأجساد والأذهان لدي المقاتلين في الجيوش، ولإنتاج "جندي ذي قدرات إضافية".
منذ تسعينات القرن الماضي، بدأت "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع" تهتم اهتماما عميقا وعن قرب بالبيولوجيا، وذلك بقصد تحويل الجسم البشري لإعداده للحرب. جمّعت هذه الوكالة سنة 2014 مختصين في الفيزياء وعلوم الأحياء في "مكتب التكنولوجيات البيولوجية"، وقد أعلنت ما يلي: "بداية من اليوم التحقت البيولوجيا بالعلوم الأساسية التي تمثل مستقبل تكنولوجيات الدفاع".

هذه المباردة تهدف، علي وجه الخصوص، إلي تطوير الأساليب التي ترمي إلي "رفع كفاءات القتال إلي أقصي درجاتها" عند الجندي. لئن كانت الولايات المتحدة الأمريكية متفوّقة ومتقدمة علي الجميع في السباق إلي التمويل في هذا المجال، فإن المبالغ المرصودة لذلك غامضة غير معروفة بصفة دقيقة. تمتلك "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع" ميزانية تبلغ 2.97 مليار في سنة 2017، لكن البحث في تطوير قدرات الجندي يتم تمويله عن طريق تشابك معقد من المشاريع التي تنهض بها الوكالة. من ذلك مثلاً أن البرنامج المسمى بـ "تحليل وتكييف قدرات المقاومة البشرية" يحظي بميزانية تبلغ 18 مليون دولار بهدف "الرفع من صحّة المقاتل إلي أقصي درجاتها" ، وهو برنامج صار فرعا من "العلوم الطيبة العملياتية الأساسية".
بلدان أخري مثل روسيا والصين تهتم ولا شك بهذه المواضيع, لكنها أكثر تكتماً عن معلومات يُعوّل علي صحتها "في هذا الباب". الانتشار المرجح لتكنولوجيات بلوغ الحد البيولوجي الأقصي في المجال العسكرية خلال العقود القادمة يدعو إلي التفكير في الإعتبارات الأخلاقية والقانونية "المتصلة بهذا المبحث"، وقبل كل شيء يجب التفكير في تحديد معني عبارة "الإنسان الذي يزاد قدرات إضافية". العبارة تعني جملة من التكنولوجيات الهادفة إلي الرفع من أداء الجسد البشري إلي ما بعد المعايير الطبيعية "له". من ذلك مثلا أننا إذا قسنا القدرة البشرية في إبصار العينين علي سلم يتكون من عشر درجات (من 1 إلي 10) فإن كل إجراء يتم اتخاذه لإصلاح نظر دون الدرجة 10 يعتبر "علاجا"، في حين أن تقوية البصر إلي ما يتجاوز الدرجة 10 إنا هو أمر متصل بـ "قدرة إضافية".

هذه العبارة لا تتضمن الأساليب الخارجية التي لا تقتضي تغييرات بيولوجية مثل: ما هو خارج الهيكل العظمي، والنظارات الليلية، والتجهيزات التي تمكن الجنود من تسلق المساحات العمودية مثلما تفعل حراذين الزواحف. الجيش لايريد "زيادة قدرات" الجنود لتطوير كفاءاتهم فقط،، وإنما يريد بذلك أيضاً التخفيض في التكاليف: عندئذ يستطيع عدد قليل منهم أن يؤدّي نفس المهام التي تؤدّيها الوحدات العسكرية ذات العدد الوفير من الجنود "الطبيعيين"، وهذا ما يمكن أن يقلص من عدد قدماء المقاتلين الذين يُدعون إلي التجنيد علي حساب الجيش. وأخيراً، وفي عصر يتميّز برأي عامّ لا يستحسن إرسال الفرق العسكرية للقتال علي الأرض, فإن هؤلاء الجنود المشاة "المطوّرون" يمكنهم أن يحُدّوا من عدد الخسائر البشريّة. غير أن خبراء مسائل الأخلاقيات يحذّرون من الصعوبات علي المدي الطويل بخصوص إعادة إدماج هؤلاء في الحياة المدنية.
عدّة مشاريع للرفع من القدرات الجسدية تتعلّق بالبحث في هندسة التغيير الغذائي في الخلايا "لدي الجندي", وفي بقائه بحالة يقظة مستمرّة بما يتجاوز المألوف الطبيعي، وفي صموده أمام فقدان الدم، وفي المعالجات الجينيّة (خصوصاً في إزالة الإحساس بالوجع). البرنامج الذي يهدف إلي إيجاد "جنديّ ذي قدرة عُليا في التغير الغذائي للخلايا" إنما هو برنامج مُركّز علي عملية البلوغ بالوظائف الفيزيولوجية إلي أقصي حدودها مثل "التغييرات الخاصة بالتغذية" التي تمكن الجندي من أن يبقي علي قيد الحياة مدة طويلة دون غذاء. كما موّلت "الوكالة الأمريكيّة لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع" بحوثا جامعيّة في مجال البكتيريا التي تساعد البشر علي هضم مواد لا يستهلكها الإنسان في العادة، وبالتالي علي أن يستمدّ منها مواد مغذية. وبقدر ما يتطوّر علم البحوث الجينية تتطوّر أيضا عمليات إمكان تجويد أساليب تغيير خلايا الجهاز العصبي.

هذا الهاجس الملح ليس جديداً. لقد حاول الجيش دائما ومنذ القديم تطوير قدرات جنوده وذلك بمناهج ووسائل صارت تبدو بعد ذلك بدائية: فخلال معركة
"أوسترليتز" سنة 1805 كانت فرقتان عسكريتان من مشاة نابليون بونابرت مكلّفات باستعادة تلال "براتزن" تتلقيان "نصيبا يومياً مضاعفاً ثلاث مرات من الخمر"، وهو ما أثار آنذاك "موجة من الحماس" لدي الجنود. وفي القرن 19 عندما كان رجال جماعة "الزولو" في جنوب إفريقيا يقاتلون البريطانيين كانوا يتسلمون من رجال دين نوعا من العشب شبيها بالقنب الهندي كان يساعدهم علي القتال "بشدة، وإنكار للذات، وقوة باطشة".
المنشطات الجسدّية، وخصوصا منها تلك المواد التي تنشط الجاهز العصبي المركزي، وهي مواد من شأنها أن تُمكن من مقاومة التعب، كانت تعطي بكثافة للجنود النازيين واليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية. غير أن هذه المنشطات إذا أعطيت بمقدار مفرط تسبّبت في ردود فعل سلبية مثل الهياج أو الفزع الذي لا داعي إليه. خلال حرب فيتنام، كان اللجوء إلي الأدوية التي تنشط الجهاز العصبي المركزي والمكنّاة باسم "حبوب الإقدام" أمرا شائعا مألوفاً، وقد تسببت في موجة من خلل في عمل أعضاء الجندي داخل الجيش. خلال السنوات الأخيرة أدي البحث العلمي إلي إنتاج حلول مضمنة أكثر مثل حبوب "ريتالين" أو حبوب "موادفينيل" (التي تسوق تحت الماركة التجارية "بروفيجيل" – Provigil)، وقد اشترت منهما وزارة الدفاع البريطانية 5000 حبة سنة 2001، وهي السنة التي قامت فيها قوات التحالف الدولي بالهجوم في أفغانستان، كما اشترت منها 4000 حبة في السنة التالية، قبيل غزو العراق.

ضروب التقدم والترقي التي شهدها علم الأعصاب والتقنيات المتصلة به يمكن أن تعجّل بإنهاء أمر هذه الحبوب منذ شهر أبريل / نيسان 2013، اشتركت "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدّم في الدفاع" في المشروع العملاق المتعلق بالبحوث الخاصة بالدفاع وذلك بتقنيات متقدمة مستحدثة (وهو المشروع المعروف باسم "مشروع البحوث المتعلقة بالدفاع اعتمادا علي النهوض بالتكنولوجيا المتطورة المتصلة بالأعصاب". وقد أطلق هذا المشروع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. وقد صارت العلوم المتعلّقة بالأعصاب في قلب محاور الاهتمام الكبري. تبحث هذه الوكالة في استكشاف مجال منشطات الأعصاب التي من شأنها أن تُنشّط أدمغة الجنود بواسطة التيار الكهربائي مما يسهّل عليهم أخذ القرار، والاندفاع في المخاطرة، والقدرة علي مغالطة الطرف المعادي، وهذه كفاءة تنفع الأسري الذين يستجوبهم العدو. كما يوجد أيضا برنامج آخر متعلق بالتدخلات المعرفيّة والسلوكية والصيدلانيّة التي يمكن أن "تقي من التأثيرات المتمثلة في المخاطر الصحيّة التي تخص الإحساس بالضغط عند المقاتلين".
أن يكون الجندي ذا مقاومة، وأكثر حيوية ونشاطا, وأقل إحساساً بالضغط: ذلك هو الجندي الذي يُحلم به، ولكن يجب عليه أيضا أن يزيد من كفاءاته الذهنية. وهناك في هذا الشأن بحوث عن مرونة الأعصاب والتصرّف فيها تزيد من الطموح إلي تسريع عملية التعلم وذلك من خلال زيادة تنشيط الأعصاب والعروق غير المركزيّة وبطريقة غير موجعة. وهذا من شأنه أن يقلص من الوقت والمال المخصّصين لتدريب الجنود الذين يمكنهم بهذه الطريقة أن يتعملوا لغة أجنبيّة، وأن يحتفظوا في أذهانهم بتوجيهات قادتهم، وأن يختزنوا في ذاكراتهم خرائط مناطق الانتشار بطريقة أسرع بكثير. هذا البرنامج، كما يفسّره المسئولون عنه "لا يكتفي باستعادة وظائف كانت ضائعة: إنه يطمح "أيضاً" إلي تنمية كفاءاتنا إلي أبعد من المعيار المألوف". هذا هو أيضاً شأن "منظومة البحوث المتعلقة بالأعصاب"، وهي منظومة تنهض بها "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع". الأمر يتعلق هنا بتصور جهاز تفاعل يُتيح نقل المعطيات بين الدماغ وآلات إلكترونية، وعند زرع هذا "الجهاز الذي يتلائم مع العناصر الجسدية" ويبلغ حجمُة سنتيمترا مكعبا واحداً وهو يعمل عن بعد دون خيوط "يمكن أن يصلح كمترجم بين اللغة الكهروكيمائية التي تعمل بها الأجهزة الإلكترونية "في الحواسيب "." ولكن كيف السبيل إلي تبرير أخلاقي لإنتاج جندي أضيفت إليه قدرات إضافية؟ حسب القاعدة العامة، يقدم الباحثون العسكريّون تطوير القدرات البشرية بصفته تطويرا خادماً لغايات ذات أخلاقيّات، أي وجود أقل عدد ممكن من البشر المقاتلين علي الجبهة، وبالتالي حصول خسائر أقل في الأرواح، وكذلك أخذ قرار أفضل خصوصاً بالنسبة إلي الذين يعملون ساعات طويلة دون انقطاع. ولكن بصرف النظر عن هذه الاعتبارات ازدادت أسباب التخوّف والقلق "من هذه المشاريع" علي نحو مكثف. السبب الأول منها يخصّ القانون الدولي الإنساني، فمعاهدة جنيف والبروتوكولات المتّصلة بها تجبر الدول علي أن تُخضع جميع الأسلحة ووسائل الحرب الجديدة لفحص قضائي دقيق، بيد أن بحوث التطوير هذه لا تمسّ في كل الحالات سوى تغييرات في أجساد الجنود، ولذلك فهى لا تدخل في عداد "الأسلحة" "التي تنص عليها المواثيق سالفة الذكر".

ولكن ستظهر المصاعب عندما ستتّصل بعض تكنولوجيات زيادة هذه الكفاءات بالقدره الهجومية ــ مثلاً عندما يتعلق الأمر بجهاز تواصل بين الدماغ والحاسوب يكون متحكماً في الطائرات التي بدون طيار ــ وهو ما من شأنه أن يجعل من الجدي الذي زيد قدرات إضافيّة بتركيب هذا الجهاز في جسمه هدفاً مشروعاً للعدو.
من وجهة نظر القائلين بمذهب "الحرب العادلة" وهو المذهب الذي يفرض احترام قواعد القتال، فإنّ الزيادة في الكفاءات الإضافية "عند الجنود" تحمل في ذاتها بذور عواقب وخيمة، فالسيّد نيد دوبوس، المختص في الأخلاقيات العسكرية يتساءل عن التأثيرات الناجمة عن إزالة الانفعالات والأحاسيس "عند الجندي" وهي التأثيرات التي تُتّهم في الأغلب الأعمّ بكونها تتسبب في "جرائم هياج الغضب الشديد". هل يمكن أن تؤدّي جهود علماء الصيدلة إلي إيجاد مواد مانعة من شأنها أن تحول دون تكوّن ذكريات مرعبة من القتال وهو ما يجعل الجنود في حالة "موت انفعاليّ" فيكونون بلا انفعال ولا أحاسيس إزاء القتل؟.

مفهوم التعذيب ذاتُه يمكن أن يتغيّر مع جسد جنديّ تم إدخال تعديلات عليه بحيث يتحمّل حدّا أرفع من الألم. نظرياً, يُعرف التعذيب بحسب مقصد من يمارسه، ولكنّ الملاحقات القضائيّة ستكون معقدة إذا كان المقاتل الذي راح ضحيتها لا يحتفظ عنها بذكريات دقيقة: فلم يجد أدني ألم، أو لم يكد يعاني أدني وجع، حتي كأنه لم يكن طرفا فيه. السيّد إيان هندرسن، وهو ضابط في القوات الجوية الأسترالية يخشي من المعاملة التي سيتلقاها أحد أسري الحرب المزُوّد بقدرة بصرية أقوي من الحدّ الطبيعي الأقصي، وبسمع مرتبط مثلاً بجهاز التقاط بالأشعة.
مسائل الرضا المستنير الواضح واحترام الحقوق الإنسانية هي مسائل تثير أيضاً جدلاً حادّاً سينتهي بأن يكون من مشمولات نظم قضائيّة وطنية. في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، الجندي الذي يرفض التلقيح يتعرض لعقوبات بموجب قانون القضاء العسكري "هناك": كما يمنع نصٌ هذا القانون أيضاً عصيان القادة ومخالفة الأوامر العسكرية. إذا كان القانون يجعل الزيادة في القدرات "الجسدية" في نفس مرتبة المعالجات بالأدوية، فإن الجنود يصعب عليهم أن يتملصوا منها. يمكننا بلا شك أن نفترض أنّ الانتساب إلي الجيش يقتضي من المنتسب التخلي عن قسم من استقلاليّته، ولكن يمكن في المستقبل استحداث حق الموافقة أو عدم البموافقة علي التدخّلات التي تمارس علي الجندي بطريقة لا يمكن أن تزول نتائجها ويكون من شأنها المس من " الحرّية المعرفيّة للجندي".
غير أن السماح للعسكريّين برفض عملياّت إكسابهم قدرات إضافية يؤدّي إلي تعقيدات أخري: فهل ستقاتل الفرَق العسكرية المكوّنة من مقاتلين تعرّضوا لتبديلات "في قدراتهم الجسديّة" إلي جانب غيرهم "من الجنود"؟ وكيف سينعكس هذا الفرق "بين الطائفتين" على التضامن والانسجام الضروريين للجيش؟ سنة 1997 كانت مجموعة من العسكريين تدافع عن استعمال منشّطات نفسيّة في العمليّات الجوّيّة، مرددين تأكيد المبدأ القائل بأن "استعمال المخدّرات لرفع الكفاءة الرياضية قد يكون "لا أخلاقياً"، ولكن الحرب ليست حدثاً رياضياً".

غير أن وجهة النظر هذه لا تراعي بما يكفي أهمّيّة الإحساس بالمساواة داخل نفس الفريق من المجندين. وزارة الدفاع الأمريكيّة تعتبر الشرف والولاء المبدأين الأساسييّن لقانون الحرب: "نوع من الاحترام المتبادل بين القوات المتنازعة" وكذلك الاعتراف بأنّ "المقاتلين جميعا ينتمون إلي نفس المهنة".
فهل إنّ الجندي المبدّل يمكن أن يُوشّح صدره بأوسمة عسكرية إذا كانت شجاعته ناتجة عن تدخّلات عصبية "في جسده"؟ إذا لم يُعالج هذا الموضوع بحذر وانتباه فإن إكساب الجنود قدرات إضافيّة يمكن أن يهزّ القيم العسكرية الجوهرية، وبصفة أساسيّة أكثر يمكنه أن يدعم أنواع التفاوت بين التكنولوجيات العالميّة وهو أمر قد تفاهم بسبب الطائرات بدون طيار. وقد إعترف اللواء المتعاقد ستانلاي ماككريستال خلال حوار سنة 2013 بأن استعمال هذه الآلات في أفغانستان خلف عواقب كارثيّة: ففضلاً عمّا أدّت إليه من ضحايا لا يحصي عددهم، فقد تسبّبت "أيضا" في خلق حقد جذريّ جارف الولايات المتحدة الأمريكيّة.
إن نشر جنود ممّن تم زيادة قدراتهم يمكن أن يُعمِّق هذه الهوّة التكنولوجية وأن يزيد من حدة العنّف.
يوانا بيسكاس
باحثة في " مركز سياسة الأمن " بجنيف ( سويسرا ).
المصدر: لوموند ديبلوماتيك الطبعة العربية ملحق الأهرام
منذ تسعينات القرن الماضي، بدأت "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع" تهتم اهتماما عميقا وعن قرب بالبيولوجيا، وذلك بقصد تحويل الجسم البشري لإعداده للحرب. جمّعت هذه الوكالة سنة 2014 مختصين في الفيزياء وعلوم الأحياء في "مكتب التكنولوجيات البيولوجية"، وقد أعلنت ما يلي: "بداية من اليوم التحقت البيولوجيا بالعلوم الأساسية التي تمثل مستقبل تكنولوجيات الدفاع".

هذه المباردة تهدف، علي وجه الخصوص، إلي تطوير الأساليب التي ترمي إلي "رفع كفاءات القتال إلي أقصي درجاتها" عند الجندي. لئن كانت الولايات المتحدة الأمريكية متفوّقة ومتقدمة علي الجميع في السباق إلي التمويل في هذا المجال، فإن المبالغ المرصودة لذلك غامضة غير معروفة بصفة دقيقة. تمتلك "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع" ميزانية تبلغ 2.97 مليار في سنة 2017، لكن البحث في تطوير قدرات الجندي يتم تمويله عن طريق تشابك معقد من المشاريع التي تنهض بها الوكالة. من ذلك مثلاً أن البرنامج المسمى بـ "تحليل وتكييف قدرات المقاومة البشرية" يحظي بميزانية تبلغ 18 مليون دولار بهدف "الرفع من صحّة المقاتل إلي أقصي درجاتها" ، وهو برنامج صار فرعا من "العلوم الطيبة العملياتية الأساسية".
بلدان أخري مثل روسيا والصين تهتم ولا شك بهذه المواضيع, لكنها أكثر تكتماً عن معلومات يُعوّل علي صحتها "في هذا الباب". الانتشار المرجح لتكنولوجيات بلوغ الحد البيولوجي الأقصي في المجال العسكرية خلال العقود القادمة يدعو إلي التفكير في الإعتبارات الأخلاقية والقانونية "المتصلة بهذا المبحث"، وقبل كل شيء يجب التفكير في تحديد معني عبارة "الإنسان الذي يزاد قدرات إضافية". العبارة تعني جملة من التكنولوجيات الهادفة إلي الرفع من أداء الجسد البشري إلي ما بعد المعايير الطبيعية "له". من ذلك مثلا أننا إذا قسنا القدرة البشرية في إبصار العينين علي سلم يتكون من عشر درجات (من 1 إلي 10) فإن كل إجراء يتم اتخاذه لإصلاح نظر دون الدرجة 10 يعتبر "علاجا"، في حين أن تقوية البصر إلي ما يتجاوز الدرجة 10 إنا هو أمر متصل بـ "قدرة إضافية".

هذه العبارة لا تتضمن الأساليب الخارجية التي لا تقتضي تغييرات بيولوجية مثل: ما هو خارج الهيكل العظمي، والنظارات الليلية، والتجهيزات التي تمكن الجنود من تسلق المساحات العمودية مثلما تفعل حراذين الزواحف. الجيش لايريد "زيادة قدرات" الجنود لتطوير كفاءاتهم فقط،، وإنما يريد بذلك أيضاً التخفيض في التكاليف: عندئذ يستطيع عدد قليل منهم أن يؤدّي نفس المهام التي تؤدّيها الوحدات العسكرية ذات العدد الوفير من الجنود "الطبيعيين"، وهذا ما يمكن أن يقلص من عدد قدماء المقاتلين الذين يُدعون إلي التجنيد علي حساب الجيش. وأخيراً، وفي عصر يتميّز برأي عامّ لا يستحسن إرسال الفرق العسكرية للقتال علي الأرض, فإن هؤلاء الجنود المشاة "المطوّرون" يمكنهم أن يحُدّوا من عدد الخسائر البشريّة. غير أن خبراء مسائل الأخلاقيات يحذّرون من الصعوبات علي المدي الطويل بخصوص إعادة إدماج هؤلاء في الحياة المدنية.
عدّة مشاريع للرفع من القدرات الجسدية تتعلّق بالبحث في هندسة التغيير الغذائي في الخلايا "لدي الجندي", وفي بقائه بحالة يقظة مستمرّة بما يتجاوز المألوف الطبيعي، وفي صموده أمام فقدان الدم، وفي المعالجات الجينيّة (خصوصاً في إزالة الإحساس بالوجع). البرنامج الذي يهدف إلي إيجاد "جنديّ ذي قدرة عُليا في التغير الغذائي للخلايا" إنما هو برنامج مُركّز علي عملية البلوغ بالوظائف الفيزيولوجية إلي أقصي حدودها مثل "التغييرات الخاصة بالتغذية" التي تمكن الجندي من أن يبقي علي قيد الحياة مدة طويلة دون غذاء. كما موّلت "الوكالة الأمريكيّة لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع" بحوثا جامعيّة في مجال البكتيريا التي تساعد البشر علي هضم مواد لا يستهلكها الإنسان في العادة، وبالتالي علي أن يستمدّ منها مواد مغذية. وبقدر ما يتطوّر علم البحوث الجينية تتطوّر أيضا عمليات إمكان تجويد أساليب تغيير خلايا الجهاز العصبي.

هذا الهاجس الملح ليس جديداً. لقد حاول الجيش دائما ومنذ القديم تطوير قدرات جنوده وذلك بمناهج ووسائل صارت تبدو بعد ذلك بدائية: فخلال معركة
"أوسترليتز" سنة 1805 كانت فرقتان عسكريتان من مشاة نابليون بونابرت مكلّفات باستعادة تلال "براتزن" تتلقيان "نصيبا يومياً مضاعفاً ثلاث مرات من الخمر"، وهو ما أثار آنذاك "موجة من الحماس" لدي الجنود. وفي القرن 19 عندما كان رجال جماعة "الزولو" في جنوب إفريقيا يقاتلون البريطانيين كانوا يتسلمون من رجال دين نوعا من العشب شبيها بالقنب الهندي كان يساعدهم علي القتال "بشدة، وإنكار للذات، وقوة باطشة".
المنشطات الجسدّية، وخصوصا منها تلك المواد التي تنشط الجاهز العصبي المركزي، وهي مواد من شأنها أن تُمكن من مقاومة التعب، كانت تعطي بكثافة للجنود النازيين واليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية. غير أن هذه المنشطات إذا أعطيت بمقدار مفرط تسبّبت في ردود فعل سلبية مثل الهياج أو الفزع الذي لا داعي إليه. خلال حرب فيتنام، كان اللجوء إلي الأدوية التي تنشط الجهاز العصبي المركزي والمكنّاة باسم "حبوب الإقدام" أمرا شائعا مألوفاً، وقد تسببت في موجة من خلل في عمل أعضاء الجندي داخل الجيش. خلال السنوات الأخيرة أدي البحث العلمي إلي إنتاج حلول مضمنة أكثر مثل حبوب "ريتالين" أو حبوب "موادفينيل" (التي تسوق تحت الماركة التجارية "بروفيجيل" – Provigil)، وقد اشترت منهما وزارة الدفاع البريطانية 5000 حبة سنة 2001، وهي السنة التي قامت فيها قوات التحالف الدولي بالهجوم في أفغانستان، كما اشترت منها 4000 حبة في السنة التالية، قبيل غزو العراق.

ضروب التقدم والترقي التي شهدها علم الأعصاب والتقنيات المتصلة به يمكن أن تعجّل بإنهاء أمر هذه الحبوب منذ شهر أبريل / نيسان 2013، اشتركت "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدّم في الدفاع" في المشروع العملاق المتعلق بالبحوث الخاصة بالدفاع وذلك بتقنيات متقدمة مستحدثة (وهو المشروع المعروف باسم "مشروع البحوث المتعلقة بالدفاع اعتمادا علي النهوض بالتكنولوجيا المتطورة المتصلة بالأعصاب". وقد أطلق هذا المشروع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. وقد صارت العلوم المتعلّقة بالأعصاب في قلب محاور الاهتمام الكبري. تبحث هذه الوكالة في استكشاف مجال منشطات الأعصاب التي من شأنها أن تُنشّط أدمغة الجنود بواسطة التيار الكهربائي مما يسهّل عليهم أخذ القرار، والاندفاع في المخاطرة، والقدرة علي مغالطة الطرف المعادي، وهذه كفاءة تنفع الأسري الذين يستجوبهم العدو. كما يوجد أيضا برنامج آخر متعلق بالتدخلات المعرفيّة والسلوكية والصيدلانيّة التي يمكن أن "تقي من التأثيرات المتمثلة في المخاطر الصحيّة التي تخص الإحساس بالضغط عند المقاتلين".
أن يكون الجندي ذا مقاومة، وأكثر حيوية ونشاطا, وأقل إحساساً بالضغط: ذلك هو الجندي الذي يُحلم به، ولكن يجب عليه أيضا أن يزيد من كفاءاته الذهنية. وهناك في هذا الشأن بحوث عن مرونة الأعصاب والتصرّف فيها تزيد من الطموح إلي تسريع عملية التعلم وذلك من خلال زيادة تنشيط الأعصاب والعروق غير المركزيّة وبطريقة غير موجعة. وهذا من شأنه أن يقلص من الوقت والمال المخصّصين لتدريب الجنود الذين يمكنهم بهذه الطريقة أن يتعملوا لغة أجنبيّة، وأن يحتفظوا في أذهانهم بتوجيهات قادتهم، وأن يختزنوا في ذاكراتهم خرائط مناطق الانتشار بطريقة أسرع بكثير. هذا البرنامج، كما يفسّره المسئولون عنه "لا يكتفي باستعادة وظائف كانت ضائعة: إنه يطمح "أيضاً" إلي تنمية كفاءاتنا إلي أبعد من المعيار المألوف". هذا هو أيضاً شأن "منظومة البحوث المتعلقة بالأعصاب"، وهي منظومة تنهض بها "الوكالة الأمريكية لمشاريع البحث المتقدم في الدفاع". الأمر يتعلق هنا بتصور جهاز تفاعل يُتيح نقل المعطيات بين الدماغ وآلات إلكترونية، وعند زرع هذا "الجهاز الذي يتلائم مع العناصر الجسدية" ويبلغ حجمُة سنتيمترا مكعبا واحداً وهو يعمل عن بعد دون خيوط "يمكن أن يصلح كمترجم بين اللغة الكهروكيمائية التي تعمل بها الأجهزة الإلكترونية "في الحواسيب "." ولكن كيف السبيل إلي تبرير أخلاقي لإنتاج جندي أضيفت إليه قدرات إضافية؟ حسب القاعدة العامة، يقدم الباحثون العسكريّون تطوير القدرات البشرية بصفته تطويرا خادماً لغايات ذات أخلاقيّات، أي وجود أقل عدد ممكن من البشر المقاتلين علي الجبهة، وبالتالي حصول خسائر أقل في الأرواح، وكذلك أخذ قرار أفضل خصوصاً بالنسبة إلي الذين يعملون ساعات طويلة دون انقطاع. ولكن بصرف النظر عن هذه الاعتبارات ازدادت أسباب التخوّف والقلق "من هذه المشاريع" علي نحو مكثف. السبب الأول منها يخصّ القانون الدولي الإنساني، فمعاهدة جنيف والبروتوكولات المتّصلة بها تجبر الدول علي أن تُخضع جميع الأسلحة ووسائل الحرب الجديدة لفحص قضائي دقيق، بيد أن بحوث التطوير هذه لا تمسّ في كل الحالات سوى تغييرات في أجساد الجنود، ولذلك فهى لا تدخل في عداد "الأسلحة" "التي تنص عليها المواثيق سالفة الذكر".

ولكن ستظهر المصاعب عندما ستتّصل بعض تكنولوجيات زيادة هذه الكفاءات بالقدره الهجومية ــ مثلاً عندما يتعلق الأمر بجهاز تواصل بين الدماغ والحاسوب يكون متحكماً في الطائرات التي بدون طيار ــ وهو ما من شأنه أن يجعل من الجدي الذي زيد قدرات إضافيّة بتركيب هذا الجهاز في جسمه هدفاً مشروعاً للعدو.
من وجهة نظر القائلين بمذهب "الحرب العادلة" وهو المذهب الذي يفرض احترام قواعد القتال، فإنّ الزيادة في الكفاءات الإضافية "عند الجنود" تحمل في ذاتها بذور عواقب وخيمة، فالسيّد نيد دوبوس، المختص في الأخلاقيات العسكرية يتساءل عن التأثيرات الناجمة عن إزالة الانفعالات والأحاسيس "عند الجندي" وهي التأثيرات التي تُتّهم في الأغلب الأعمّ بكونها تتسبب في "جرائم هياج الغضب الشديد". هل يمكن أن تؤدّي جهود علماء الصيدلة إلي إيجاد مواد مانعة من شأنها أن تحول دون تكوّن ذكريات مرعبة من القتال وهو ما يجعل الجنود في حالة "موت انفعاليّ" فيكونون بلا انفعال ولا أحاسيس إزاء القتل؟.

مفهوم التعذيب ذاتُه يمكن أن يتغيّر مع جسد جنديّ تم إدخال تعديلات عليه بحيث يتحمّل حدّا أرفع من الألم. نظرياً, يُعرف التعذيب بحسب مقصد من يمارسه، ولكنّ الملاحقات القضائيّة ستكون معقدة إذا كان المقاتل الذي راح ضحيتها لا يحتفظ عنها بذكريات دقيقة: فلم يجد أدني ألم، أو لم يكد يعاني أدني وجع، حتي كأنه لم يكن طرفا فيه. السيّد إيان هندرسن، وهو ضابط في القوات الجوية الأسترالية يخشي من المعاملة التي سيتلقاها أحد أسري الحرب المزُوّد بقدرة بصرية أقوي من الحدّ الطبيعي الأقصي، وبسمع مرتبط مثلاً بجهاز التقاط بالأشعة.
مسائل الرضا المستنير الواضح واحترام الحقوق الإنسانية هي مسائل تثير أيضاً جدلاً حادّاً سينتهي بأن يكون من مشمولات نظم قضائيّة وطنية. في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، الجندي الذي يرفض التلقيح يتعرض لعقوبات بموجب قانون القضاء العسكري "هناك": كما يمنع نصٌ هذا القانون أيضاً عصيان القادة ومخالفة الأوامر العسكرية. إذا كان القانون يجعل الزيادة في القدرات "الجسدية" في نفس مرتبة المعالجات بالأدوية، فإن الجنود يصعب عليهم أن يتملصوا منها. يمكننا بلا شك أن نفترض أنّ الانتساب إلي الجيش يقتضي من المنتسب التخلي عن قسم من استقلاليّته، ولكن يمكن في المستقبل استحداث حق الموافقة أو عدم البموافقة علي التدخّلات التي تمارس علي الجندي بطريقة لا يمكن أن تزول نتائجها ويكون من شأنها المس من " الحرّية المعرفيّة للجندي".
غير أن السماح للعسكريّين برفض عملياّت إكسابهم قدرات إضافية يؤدّي إلي تعقيدات أخري: فهل ستقاتل الفرَق العسكرية المكوّنة من مقاتلين تعرّضوا لتبديلات "في قدراتهم الجسديّة" إلي جانب غيرهم "من الجنود"؟ وكيف سينعكس هذا الفرق "بين الطائفتين" على التضامن والانسجام الضروريين للجيش؟ سنة 1997 كانت مجموعة من العسكريين تدافع عن استعمال منشّطات نفسيّة في العمليّات الجوّيّة، مرددين تأكيد المبدأ القائل بأن "استعمال المخدّرات لرفع الكفاءة الرياضية قد يكون "لا أخلاقياً"، ولكن الحرب ليست حدثاً رياضياً".

غير أن وجهة النظر هذه لا تراعي بما يكفي أهمّيّة الإحساس بالمساواة داخل نفس الفريق من المجندين. وزارة الدفاع الأمريكيّة تعتبر الشرف والولاء المبدأين الأساسييّن لقانون الحرب: "نوع من الاحترام المتبادل بين القوات المتنازعة" وكذلك الاعتراف بأنّ "المقاتلين جميعا ينتمون إلي نفس المهنة".
فهل إنّ الجندي المبدّل يمكن أن يُوشّح صدره بأوسمة عسكرية إذا كانت شجاعته ناتجة عن تدخّلات عصبية "في جسده"؟ إذا لم يُعالج هذا الموضوع بحذر وانتباه فإن إكساب الجنود قدرات إضافيّة يمكن أن يهزّ القيم العسكرية الجوهرية، وبصفة أساسيّة أكثر يمكنه أن يدعم أنواع التفاوت بين التكنولوجيات العالميّة وهو أمر قد تفاهم بسبب الطائرات بدون طيار. وقد إعترف اللواء المتعاقد ستانلاي ماككريستال خلال حوار سنة 2013 بأن استعمال هذه الآلات في أفغانستان خلف عواقب كارثيّة: ففضلاً عمّا أدّت إليه من ضحايا لا يحصي عددهم، فقد تسبّبت "أيضا" في خلق حقد جذريّ جارف الولايات المتحدة الأمريكيّة.
إن نشر جنود ممّن تم زيادة قدراتهم يمكن أن يُعمِّق هذه الهوّة التكنولوجية وأن يزيد من حدة العنّف.
يوانا بيسكاس
باحثة في " مركز سياسة الأمن " بجنيف ( سويسرا ).
المصدر: لوموند ديبلوماتيك الطبعة العربية ملحق الأهرام