"كما قلت.. أنا قلق" هكذا اختتم الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان، المتخصص في قضايا الشرق الأوسط، مقاله المنشورة بصحيفة "ن...
"كما قلت.. أنا قلق" هكذا اختتم الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان، المتخصص في قضايا الشرق الأوسط، مقاله المنشورة بصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بتاريخ7 نوفمبر 2017، كاشفًا النقاب عن حزمة من التخوفات التي انتابته في أعقاب مذبحة السبت الدامي الرابع من نوفمبر التي أطاح فيها محمد بن سلمان بما يقرب من 11أميرًا و38 من كبار رجال الأعمال في ضربة واحدة
لم يكن يتوقع أكثر المقربين من ولي العهد الشاب سيناريو الرابع من نوفمبر، ففي أقل من 48 ساعة شهدت الخارطة السياسية للمملكة حزمة من التغيرات الجوهرية التي ربما تعيد رسم ملامحها مرة أخرى، وتضع اللبنات الأولى نحو تدشين مرحلة جديدة في مسيرة حكم آل سعود.
أربعة مشاهد متتابعة التزامن حملت معها عشرات علامات الاستفهام بدءًا من الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، والتي بثتها قناة العربية من الرياض، والتي أثارت الكثير من الجدل بخصوص التوقيت والمكان والهدف، مرورًا بالصاروخ الباليستي – الذي قيل إنه إيراني الصنع- الذي سقط في محيط مطار الملك خالد بالرياض، ثم حزمة الأوامر الملكية الأخيرة وما تبعها من حملات اعتقالات غير مسبوقة تجاوزت الكتاب والدعاة والأكاديميين لتشمل الأمراء وكبار رجال الأعمال، وانتهاءً بمصرع نائب أمير منطقة عسير الأمير منصور بن مقرن ومعه ثمانية مسؤولين آخرين إثر سقوط طائرة كانت تقلهم في زيارة تفقدية لمحافظة البرك بالمنطقة الجنوبية، في اليوم الثاني لمذبحة السبت.
حصان طروادة الذي يقوده بن سلمان نحو خلافة والده دفع ببورصة التكهنات إلى الصعود بصورة متكررة خلال الأيام الماضية لتطل حزمة من علامات الاستفهام برأسها باحثة عن إجابة أبرزها: ماذا حدث على وجه التحديد؟ وإلى أي مصير ستنتهي لعبة الكراسي الموسيقية داخل الأسرة المالكة في السعودية؟ وهل يكون سيناريو مذبحة المماليك جواز عبور بن سلمان نحو كرسي العرش؟
مذبحة الأمراء
في قراءة سريعة للأوامر الملكية التي أصدرها العاهل السعودي مساء الرابع من نوفمبر الجاري يمكن الوقوف على مرحلتين أساسيتين مرت بهما هذه الأوامر : الأولى ولها شقان: أحدهما يتمثل في الإطاحة بما تبقى من جبهة الأمير محمد بن نايف، ولي العهد السابق – حيث قضت بإعفاء الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز وزير الحرس الوطني من منصبه، وتعيين الأمير خالد بن عبد العزيز بن محمد بن عياف آل مقرن وزيرًا للحرس الوطني، كذلك وزير الاقتصاد والتخطيط عادل فقيه وتعيين محمد التويجري وزيرًا للاقتصاد والتخطيط، إضافة إلى إنهاء خدمة قائد القوات البحرية عبد الله السلطان وإحالته للتقاعد، وترقية اللواء فهد الغفيلي إلى رتبة فريق ركن وتعيينه قائدًا للقوات البحرية.
بينما الشق الثاني فكان استكمالا للأول حيث تضمن تشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد وعضوية رئيس هيئة الرقابة والتحقيق ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ورئيس ديوان المراقبة العامة والنائب العام ورئيس أمن الدولة، هدفها حصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، وبالتحقيق وإصدار أوامر القبض والمنع من السفر، واتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام.
أما المرحلة الثانية: فكانت عبارة عن ترجمة فعلية لقرارات المرحلة الأولى، فبعد دقائق معدودة من تشكيل لجنة مكافة الفساد فوجئ الجميع بالأنباء تتوارد نبأ تلو الآخر بشأن توقيف أمراء ورجال أعمال وشخصيات عامة بتهم الفساد واستغلال النفوذ، ليبلغ عدد المعتقلين حتى كتابة ما يقرب من 18 أميرًا وأربعة وزراء حاليين، وعشرات من الوزراء والمسؤولين السابقين بتهم فساد، فضلاً عن قرابة 38 رجل أعمال.
[caption id="attachment_3469" align="aligncenter" width="1080"] صور الأمراء المقبوض عليهم (المصدر: موقع الخليج الجديد).[/caption]
ما الهدف؟
سعى محمد بن سلمان من خلال خطوته الأخيرة التي تجاوز سقف التوقعات إلى تحقيق هدفين أساسيين:
الأول: الاستيلاء على أموال المعتقلين والتي تتراوح قيمتها وفق بعض التوقعات ما بين 2 – 3 تريليون ريال، خاصة في ظل ما تعاني منه المملكة من أزمة سيولة نتيجة تراجع أسعار النفط في الوقت الذي كشفت فيه النقاب عن مشروعات يتجاوز بعضها حاجز الـ500 مليار دولار، ومن ثم كان لا بد من البحث عن مصادر تمويل، علمًا بأن إعلان مثل هذه المشروعات جزء من مخطط تسويق ابن سلمان لنفسه من أجل خلافة والده. (موقع الخليج الجديد /مغردون عن التحفظ على أموال المعتقلين: «بن سلمان» يسرق عيال عمه )
[caption id="attachment_3768" align="aligncenter" width="1000"]
الوليد بن طلال مالك قنوات روتانا[/caption]
هذه الحملة التي تستهدف الحصول على أموال الأمراء وكبار رجال الأعمال ما كان لها أن تتم دون يقين واضح لدى بن سلمان بأن باب الاعتراض على ما يقوم به محكم الغلق، وهو ما تأكد منه حين اعتقل الأمير عبد العزيز بن فهد، وسعى لابتزازه ماديًا ، ليقيس ردة فعل الأسرة المالكة، ومن ثمَّ يقرر الخطوة التالية، وحين لم يعترض أحد قرَّر المضي قدمًا في الحملة، وهيَّأ لها بعدة خطوات تبيّن أن المقصود منها هو الأموال: منع سفر الأمراء إلا بإذنه، ووضع سقف للتحويل خارج المملكة لا يسمح بتجاوزه إلا بإذنه، وإعداد تقرير عن ممتلكات الأمراء في الداخل والخارج.
أما ما يثار بشأن مكافحة الفساد فلا يعدو ذلك إرهابًا لأي شخص يسعى أن يغرد خارج السرب وأن يعترض على ما يقوم به ولي العهد، وبذلك ضمن الأخير إخراس جميع الألسنة التي من الممكن أن تعيق حلمه نحو الوصول إلى الهدف الأسمى وهو أن يخلف والده على عرش المملكة.
الثاني: التخلص من الأصوات المعارضة من بقايا جبهة محمد بن نايف ومتعب بن عبدالله، بما فيهم الوليد بن طلال والذي قيل إنه كان يعترض على طريقة التخلص من بن نايف وهدد بنقل استثماراته خارج المملكة، هذا بخلاف التساؤلات التي فرضتها حادثة سقوط الطائرة التي كانت تقل نائب أمير منطقة عسير الأمير منصور بن مقرن الذي لقي مصرعه وثمانية آخرين من كبار المسؤولين خلال زيارة تفقدية لهم في مدينة البرك بالمنطقة الجنوبية الأحد 5 نوفمبر، ورغم الإشارة إلى أن الحادثة جاءت نتيجة اصطدام جسم الطائرة بارتفاع جبلي، فإن التوقيت كان علامة استفهام كبيرة.
منصور بن مقرن هو نجل الأمير مقرن بن عبد العزيز ولي العهد السابق المجبر على التخلي عن منصبه استجابة للضغوط التي مورست عليه، ويعد بجانب آخرين من التيار الرافض لتوسعة نطاق صلاحيات محمد بن سلمان، فضلاً عن كونه صاحب توقيع الرسالة المسربة المقدمة للملك سلمان التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام بشأن اعتراض عدد من الأمراء على تنصيب ولي العهد ملكًا، والتي أثارت الكثير من الجدل خاصة أن معظم من اعتقلوا كانوا ضمن الأسماء الموقعة على هذه الرسالة وهو ما دفع البعض إلى التأكيد على صحتها رغم عدم التيقن حتى الآن من دقتها.
كما كان يلقب ابن مقرن في عسير بـ"الأمير المحبوب" فهو صاحب العطاءات الكبيرة لأهالي المنطقة، ويذكر أن آخر ما كتب كان يتعلق بإعلانه سداد ديون الكثير من المتعثرين والغارمات من نفقته الخاصة، وهو ما أهله لأن يحتل مكانة كبيرة في نفوس أهالي المنطقة الجنوبية في الوقت الذي يئن فيه السعوديون من الضرائب المتتالية التي يفرضها ابن سلمان لسد العجز الناجم عن انخفاض أسعار النفط.
ورغم التكتم على تفاصيل سقوط الطائرة، فإن ما يتردد على لسان البعض كونها أسقطت عمدًا مسألة غاية في الخطورة، فهل كان المقصود عقاب الأمير مقرن بقتل ولده؟ أم كان المقصود عقاب منصور نفسه نظرًا لما يتمتع به من حب من سكان المنطقة الجنوبية؟ أم كان الهدف رسالة إرهاب لكل من يشذ عن الطريق المرسوم نحو خلافة ابن سلمان لوالده؟ أسئلة قد تكون خارج النص في الوقت الراهن، إلا أنها تفتح الباب أمام سيناريو خطير حال ثبوت صحته وهو الدخول في مرحلة التصفيات المباشرة والاغتيالات السياسية.
[caption id="attachment_3767" align="aligncenter" width="996"]
صالح كامل مالك قنوات إيه أر تي[/caption]
لعبة الكراسي الموسيقية
منذ خلافة سلمان بن عبد العزيز لعرش المملكة عقب رحيل الملك عبدالله، والامور تسير إلى محاولة إعادة تشكيل البيت الملكي السعودي، وإضفاء بعض التغييرات على خارطة الأسرة الحاكمة، فالبداية كانت بإجبار الأمير منصور بن مقرن ولي العهد السابق على التنحي في مقابل الحصول على بعض الامتيازات، ليتم الزج بمحمد بن سلمان كولي ولي العهد..
ثم جاء انقلاب القصر ليلة الـ21 من يونيو الماضي، حين تمت الإطاحة بولي العهد الأمير محمد بن نايف- الرجل القوي في المملكة- ووضعه تحت الإقامة الجبرية لينصب مكانه محمد بن سلمان، وهنا كانت الخطوة الأكثر خطورة.
وبعد نجاح هذه الخطوة التي كان يراهن الكثير على فشلها في ظل ما كان يتمتع به بن نايف من قوة ونفوذ داخلي، ما عاد يطمئن ولي العهد الجديد لوجود بعض الأسماء من الأسرة المالكة المحسوبين على تيار ابن نايف، ولعل بعضهم تحدث أكثر من مرة بشأن الإفراج عنه وإلغاء الإقامة الجبرية المفروضة عليه، ومن ثم كان التخلص من كل رجال ابن نايف داخل الأسرة وخارجها من رجال الأعمال والسياسيين المحسوبين عليه خطوة هامة نحو تعبيد الطريق أمام الكرسي، فكانت مذبحة الرابع من نوفمبر.
ويمكن قراءة ما حدث في إطار لعبة الكراسي الموسيقية التي تشهدها الأسرة الحاكمة في المملكة خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بعد تولي محمد بن سلمان مقاليد الأمور، والذي أبدى استعداده التام لتجاوز قواعد الأقدمية والخلافة في مجتمع المحافظات التي كانت تقدر منذ زمن طويل تلك المعايير، فالرجل لم تتوقف مساعيه عند سيطرة السدريين - وهم أبناء الملك عبد العزيز آل سعود من زوجته حصة السديري - فحسب على كرسي الملك، بل تجاوز ذلك إلى سيطرته هو وأولاده فقط، مبعدا بذلك عشرات الأمراء من دائرة الصراع على العرش.
[caption id="attachment_3769" align="aligncenter" width="720"]
وليد بن إبراهيم مالك قنوات إم بي سي[/caption]
صفقة أمريكية برعاية إماراتية
في تقرير نشرته صحيفة "الإنترسبت" الأمريكية صاحبة السبق في نشر تسريبات السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، كشفت أن مذبحة الرابع من نوفمبر كانت جزءًا من صفقة مبرمة بين محمد بن سلمان والإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب بوساطة إماراتية عن طريق محمد بن زايد.(https://theintercept.com/2017/11/05/what-happened-in-saudi-arabia-last-night-and-how-washington-corruption-enabled-it/)
التقرير استند في كشفه لملامح تلك الصفقة إلى أن "عملية التطهير" كما تصفها الصحيفة جاءت بعد أيام قليلة من زيارة مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر، المقرب من يوسف العتيبة، كذلك بعد ساعات قليلة من تغريدة ترامب المثيرة للجدل، والذي تمنى خلالها أن تستثمر شركة أرامكو السعودية في بورصة وول ستريت.
الصحيفة الأمريكية في استعراضها لملامح تلك الصفقة أشارت إلى أن إرهاصاتها الأولى تعود محاولة أبناء زايد عن طريق ذراعهم في واشنطن، يوسف العتيبة، التسويق لمحمد بن سلمان لدى الإدارة الأمريكية من خلال العديد من المنصات الإعلامية والسياسية التي تمولها أبو ظبي في الولايات المتحدة، فضلاً عن مراكز الأبحاث على رأسها معهد الشرق الأوسط، والذي حصل وحده على دعم قيمته 20 مليون دولار من الإمارات.
وبعيدًا عما تطرقت إليه "الانترسبت" فإن ولي العهد نجح في تقديم أوراق اعتماده للإدارة الأمريكية الجديدة من خلال استراتيجيتين ساهمتا بشكل كبير في تعبيد الطريق أمامه نحو خلافة والده وغض طرف البيت الأبيض وسيده الجديد عما يمارسه ولي العهد الشاب من اعتقالات وتوقيفات وقفز واضح على أبجديات القانون الدولي والدساتير المتعارف عليها.
الإستراتيجية الأولى التي اعتمد عليها بن سلمان تمركزت حول تصحيح الصورة الذهنية الخاطئة عن رعاية المملكة للتنظيمات المتطرفة، وهو ما قام به بالفعل، وتجسده قراراته الأخيرة التي تقود السعودية نحو اللبرلة بخطوات سريعة، ومن ضمنها تقليل النفوذ الديني وتحجيم دور الدعاة والعزف على وتر حقوق المرأة من خلال السماح بقيادة السيارة أو الدخول للملاعب الرياضية، ومشروع نيوم والاستثمارات المليارية ورؤية 2030 وغير ذلك من القفزات الداخلية التي تخرج بها المملكة رويدًا رويدًا من عباءة الدين التي كانت صمام الأمان الإقليمي لها طيلة السنوات الماضية.
أما الثانية فأشبعت البراجماتية الأمريكية نحو الحصول على العديد من الامتيازات المادية والاستثمارية، ولعل ما حدث في زيارة مايو الأخيرة والتي حصل من خلالها ترامب على ما يزيد على نصف تريليون دولار قيمة صفقات أبرمها مع الرياض خير تجسيد على ذلك.. إذا ما المقابل؟
هدف بن سلمان من وراء مغازلة واشنطن عبر الآليات سالفة الذكر إلى الحصول على المباركة الأمريكية لتحركاته الأخيرة كافة والتي تقوده نحو خلافة والده، بصرف النظر عن قانونية الطرق والوسائل المستخدمة، فواشنطن تعرف جيدًا ما تريده من السعودية في هذا التوقيت الذي تعاني فيه من أزمات اقتصادية، ويبدو أنها أيقنت أنها لن تجد أفضل من محمد بن سلمان لتنفيذ ما تريده.
ومع تردد بعض الأنباء التي تشير إلى إحتمالية تنحي الملك سلمان عن عرش المملكة ما يعني تنصيب نجله ملكًا خلال الأيام القادمة، يظل المشهد السعودي خارج نطاق التوقعات، فالزلزال الذي هز أركانها خلال الأيام الماضية وإن كان خمل أثره رويدا رويدأ إلى أن احتمالات تأثير تبعاته لا تزال قائمة.
لم يكن يتوقع أكثر المقربين من ولي العهد الشاب سيناريو الرابع من نوفمبر، ففي أقل من 48 ساعة شهدت الخارطة السياسية للمملكة حزمة من التغيرات الجوهرية التي ربما تعيد رسم ملامحها مرة أخرى، وتضع اللبنات الأولى نحو تدشين مرحلة جديدة في مسيرة حكم آل سعود.
أربعة مشاهد متتابعة التزامن حملت معها عشرات علامات الاستفهام بدءًا من الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، والتي بثتها قناة العربية من الرياض، والتي أثارت الكثير من الجدل بخصوص التوقيت والمكان والهدف، مرورًا بالصاروخ الباليستي – الذي قيل إنه إيراني الصنع- الذي سقط في محيط مطار الملك خالد بالرياض، ثم حزمة الأوامر الملكية الأخيرة وما تبعها من حملات اعتقالات غير مسبوقة تجاوزت الكتاب والدعاة والأكاديميين لتشمل الأمراء وكبار رجال الأعمال، وانتهاءً بمصرع نائب أمير منطقة عسير الأمير منصور بن مقرن ومعه ثمانية مسؤولين آخرين إثر سقوط طائرة كانت تقلهم في زيارة تفقدية لمحافظة البرك بالمنطقة الجنوبية، في اليوم الثاني لمذبحة السبت.
حصان طروادة الذي يقوده بن سلمان نحو خلافة والده دفع ببورصة التكهنات إلى الصعود بصورة متكررة خلال الأيام الماضية لتطل حزمة من علامات الاستفهام برأسها باحثة عن إجابة أبرزها: ماذا حدث على وجه التحديد؟ وإلى أي مصير ستنتهي لعبة الكراسي الموسيقية داخل الأسرة المالكة في السعودية؟ وهل يكون سيناريو مذبحة المماليك جواز عبور بن سلمان نحو كرسي العرش؟
مذبحة الأمراء
في قراءة سريعة للأوامر الملكية التي أصدرها العاهل السعودي مساء الرابع من نوفمبر الجاري يمكن الوقوف على مرحلتين أساسيتين مرت بهما هذه الأوامر : الأولى ولها شقان: أحدهما يتمثل في الإطاحة بما تبقى من جبهة الأمير محمد بن نايف، ولي العهد السابق – حيث قضت بإعفاء الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز وزير الحرس الوطني من منصبه، وتعيين الأمير خالد بن عبد العزيز بن محمد بن عياف آل مقرن وزيرًا للحرس الوطني، كذلك وزير الاقتصاد والتخطيط عادل فقيه وتعيين محمد التويجري وزيرًا للاقتصاد والتخطيط، إضافة إلى إنهاء خدمة قائد القوات البحرية عبد الله السلطان وإحالته للتقاعد، وترقية اللواء فهد الغفيلي إلى رتبة فريق ركن وتعيينه قائدًا للقوات البحرية.
بينما الشق الثاني فكان استكمالا للأول حيث تضمن تشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد وعضوية رئيس هيئة الرقابة والتحقيق ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ورئيس ديوان المراقبة العامة والنائب العام ورئيس أمن الدولة، هدفها حصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، وبالتحقيق وإصدار أوامر القبض والمنع من السفر، واتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام.
أما المرحلة الثانية: فكانت عبارة عن ترجمة فعلية لقرارات المرحلة الأولى، فبعد دقائق معدودة من تشكيل لجنة مكافة الفساد فوجئ الجميع بالأنباء تتوارد نبأ تلو الآخر بشأن توقيف أمراء ورجال أعمال وشخصيات عامة بتهم الفساد واستغلال النفوذ، ليبلغ عدد المعتقلين حتى كتابة ما يقرب من 18 أميرًا وأربعة وزراء حاليين، وعشرات من الوزراء والمسؤولين السابقين بتهم فساد، فضلاً عن قرابة 38 رجل أعمال.
[caption id="attachment_3469" align="aligncenter" width="1080"] صور الأمراء المقبوض عليهم (المصدر: موقع الخليج الجديد).[/caption]
ما الهدف؟
سعى محمد بن سلمان من خلال خطوته الأخيرة التي تجاوز سقف التوقعات إلى تحقيق هدفين أساسيين:
الأول: الاستيلاء على أموال المعتقلين والتي تتراوح قيمتها وفق بعض التوقعات ما بين 2 – 3 تريليون ريال، خاصة في ظل ما تعاني منه المملكة من أزمة سيولة نتيجة تراجع أسعار النفط في الوقت الذي كشفت فيه النقاب عن مشروعات يتجاوز بعضها حاجز الـ500 مليار دولار، ومن ثم كان لا بد من البحث عن مصادر تمويل، علمًا بأن إعلان مثل هذه المشروعات جزء من مخطط تسويق ابن سلمان لنفسه من أجل خلافة والده. (موقع الخليج الجديد /مغردون عن التحفظ على أموال المعتقلين: «بن سلمان» يسرق عيال عمه )
[caption id="attachment_3768" align="aligncenter" width="1000"]

هذه الحملة التي تستهدف الحصول على أموال الأمراء وكبار رجال الأعمال ما كان لها أن تتم دون يقين واضح لدى بن سلمان بأن باب الاعتراض على ما يقوم به محكم الغلق، وهو ما تأكد منه حين اعتقل الأمير عبد العزيز بن فهد، وسعى لابتزازه ماديًا ، ليقيس ردة فعل الأسرة المالكة، ومن ثمَّ يقرر الخطوة التالية، وحين لم يعترض أحد قرَّر المضي قدمًا في الحملة، وهيَّأ لها بعدة خطوات تبيّن أن المقصود منها هو الأموال: منع سفر الأمراء إلا بإذنه، ووضع سقف للتحويل خارج المملكة لا يسمح بتجاوزه إلا بإذنه، وإعداد تقرير عن ممتلكات الأمراء في الداخل والخارج.
أما ما يثار بشأن مكافحة الفساد فلا يعدو ذلك إرهابًا لأي شخص يسعى أن يغرد خارج السرب وأن يعترض على ما يقوم به ولي العهد، وبذلك ضمن الأخير إخراس جميع الألسنة التي من الممكن أن تعيق حلمه نحو الوصول إلى الهدف الأسمى وهو أن يخلف والده على عرش المملكة.
الثاني: التخلص من الأصوات المعارضة من بقايا جبهة محمد بن نايف ومتعب بن عبدالله، بما فيهم الوليد بن طلال والذي قيل إنه كان يعترض على طريقة التخلص من بن نايف وهدد بنقل استثماراته خارج المملكة، هذا بخلاف التساؤلات التي فرضتها حادثة سقوط الطائرة التي كانت تقل نائب أمير منطقة عسير الأمير منصور بن مقرن الذي لقي مصرعه وثمانية آخرين من كبار المسؤولين خلال زيارة تفقدية لهم في مدينة البرك بالمنطقة الجنوبية الأحد 5 نوفمبر، ورغم الإشارة إلى أن الحادثة جاءت نتيجة اصطدام جسم الطائرة بارتفاع جبلي، فإن التوقيت كان علامة استفهام كبيرة.
منصور بن مقرن هو نجل الأمير مقرن بن عبد العزيز ولي العهد السابق المجبر على التخلي عن منصبه استجابة للضغوط التي مورست عليه، ويعد بجانب آخرين من التيار الرافض لتوسعة نطاق صلاحيات محمد بن سلمان، فضلاً عن كونه صاحب توقيع الرسالة المسربة المقدمة للملك سلمان التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام بشأن اعتراض عدد من الأمراء على تنصيب ولي العهد ملكًا، والتي أثارت الكثير من الجدل خاصة أن معظم من اعتقلوا كانوا ضمن الأسماء الموقعة على هذه الرسالة وهو ما دفع البعض إلى التأكيد على صحتها رغم عدم التيقن حتى الآن من دقتها.
كما كان يلقب ابن مقرن في عسير بـ"الأمير المحبوب" فهو صاحب العطاءات الكبيرة لأهالي المنطقة، ويذكر أن آخر ما كتب كان يتعلق بإعلانه سداد ديون الكثير من المتعثرين والغارمات من نفقته الخاصة، وهو ما أهله لأن يحتل مكانة كبيرة في نفوس أهالي المنطقة الجنوبية في الوقت الذي يئن فيه السعوديون من الضرائب المتتالية التي يفرضها ابن سلمان لسد العجز الناجم عن انخفاض أسعار النفط.
ورغم التكتم على تفاصيل سقوط الطائرة، فإن ما يتردد على لسان البعض كونها أسقطت عمدًا مسألة غاية في الخطورة، فهل كان المقصود عقاب الأمير مقرن بقتل ولده؟ أم كان المقصود عقاب منصور نفسه نظرًا لما يتمتع به من حب من سكان المنطقة الجنوبية؟ أم كان الهدف رسالة إرهاب لكل من يشذ عن الطريق المرسوم نحو خلافة ابن سلمان لوالده؟ أسئلة قد تكون خارج النص في الوقت الراهن، إلا أنها تفتح الباب أمام سيناريو خطير حال ثبوت صحته وهو الدخول في مرحلة التصفيات المباشرة والاغتيالات السياسية.
[caption id="attachment_3767" align="aligncenter" width="996"]

لعبة الكراسي الموسيقية
منذ خلافة سلمان بن عبد العزيز لعرش المملكة عقب رحيل الملك عبدالله، والامور تسير إلى محاولة إعادة تشكيل البيت الملكي السعودي، وإضفاء بعض التغييرات على خارطة الأسرة الحاكمة، فالبداية كانت بإجبار الأمير منصور بن مقرن ولي العهد السابق على التنحي في مقابل الحصول على بعض الامتيازات، ليتم الزج بمحمد بن سلمان كولي ولي العهد..
ثم جاء انقلاب القصر ليلة الـ21 من يونيو الماضي، حين تمت الإطاحة بولي العهد الأمير محمد بن نايف- الرجل القوي في المملكة- ووضعه تحت الإقامة الجبرية لينصب مكانه محمد بن سلمان، وهنا كانت الخطوة الأكثر خطورة.
وبعد نجاح هذه الخطوة التي كان يراهن الكثير على فشلها في ظل ما كان يتمتع به بن نايف من قوة ونفوذ داخلي، ما عاد يطمئن ولي العهد الجديد لوجود بعض الأسماء من الأسرة المالكة المحسوبين على تيار ابن نايف، ولعل بعضهم تحدث أكثر من مرة بشأن الإفراج عنه وإلغاء الإقامة الجبرية المفروضة عليه، ومن ثم كان التخلص من كل رجال ابن نايف داخل الأسرة وخارجها من رجال الأعمال والسياسيين المحسوبين عليه خطوة هامة نحو تعبيد الطريق أمام الكرسي، فكانت مذبحة الرابع من نوفمبر.
ويمكن قراءة ما حدث في إطار لعبة الكراسي الموسيقية التي تشهدها الأسرة الحاكمة في المملكة خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بعد تولي محمد بن سلمان مقاليد الأمور، والذي أبدى استعداده التام لتجاوز قواعد الأقدمية والخلافة في مجتمع المحافظات التي كانت تقدر منذ زمن طويل تلك المعايير، فالرجل لم تتوقف مساعيه عند سيطرة السدريين - وهم أبناء الملك عبد العزيز آل سعود من زوجته حصة السديري - فحسب على كرسي الملك، بل تجاوز ذلك إلى سيطرته هو وأولاده فقط، مبعدا بذلك عشرات الأمراء من دائرة الصراع على العرش.
[caption id="attachment_3769" align="aligncenter" width="720"]

صفقة أمريكية برعاية إماراتية
في تقرير نشرته صحيفة "الإنترسبت" الأمريكية صاحبة السبق في نشر تسريبات السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، كشفت أن مذبحة الرابع من نوفمبر كانت جزءًا من صفقة مبرمة بين محمد بن سلمان والإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب بوساطة إماراتية عن طريق محمد بن زايد.(https://theintercept.com/2017/11/05/what-happened-in-saudi-arabia-last-night-and-how-washington-corruption-enabled-it/)
التقرير استند في كشفه لملامح تلك الصفقة إلى أن "عملية التطهير" كما تصفها الصحيفة جاءت بعد أيام قليلة من زيارة مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر، المقرب من يوسف العتيبة، كذلك بعد ساعات قليلة من تغريدة ترامب المثيرة للجدل، والذي تمنى خلالها أن تستثمر شركة أرامكو السعودية في بورصة وول ستريت.
الصحيفة الأمريكية في استعراضها لملامح تلك الصفقة أشارت إلى أن إرهاصاتها الأولى تعود محاولة أبناء زايد عن طريق ذراعهم في واشنطن، يوسف العتيبة، التسويق لمحمد بن سلمان لدى الإدارة الأمريكية من خلال العديد من المنصات الإعلامية والسياسية التي تمولها أبو ظبي في الولايات المتحدة، فضلاً عن مراكز الأبحاث على رأسها معهد الشرق الأوسط، والذي حصل وحده على دعم قيمته 20 مليون دولار من الإمارات.
وبعيدًا عما تطرقت إليه "الانترسبت" فإن ولي العهد نجح في تقديم أوراق اعتماده للإدارة الأمريكية الجديدة من خلال استراتيجيتين ساهمتا بشكل كبير في تعبيد الطريق أمامه نحو خلافة والده وغض طرف البيت الأبيض وسيده الجديد عما يمارسه ولي العهد الشاب من اعتقالات وتوقيفات وقفز واضح على أبجديات القانون الدولي والدساتير المتعارف عليها.
الإستراتيجية الأولى التي اعتمد عليها بن سلمان تمركزت حول تصحيح الصورة الذهنية الخاطئة عن رعاية المملكة للتنظيمات المتطرفة، وهو ما قام به بالفعل، وتجسده قراراته الأخيرة التي تقود السعودية نحو اللبرلة بخطوات سريعة، ومن ضمنها تقليل النفوذ الديني وتحجيم دور الدعاة والعزف على وتر حقوق المرأة من خلال السماح بقيادة السيارة أو الدخول للملاعب الرياضية، ومشروع نيوم والاستثمارات المليارية ورؤية 2030 وغير ذلك من القفزات الداخلية التي تخرج بها المملكة رويدًا رويدًا من عباءة الدين التي كانت صمام الأمان الإقليمي لها طيلة السنوات الماضية.
أما الثانية فأشبعت البراجماتية الأمريكية نحو الحصول على العديد من الامتيازات المادية والاستثمارية، ولعل ما حدث في زيارة مايو الأخيرة والتي حصل من خلالها ترامب على ما يزيد على نصف تريليون دولار قيمة صفقات أبرمها مع الرياض خير تجسيد على ذلك.. إذا ما المقابل؟
هدف بن سلمان من وراء مغازلة واشنطن عبر الآليات سالفة الذكر إلى الحصول على المباركة الأمريكية لتحركاته الأخيرة كافة والتي تقوده نحو خلافة والده، بصرف النظر عن قانونية الطرق والوسائل المستخدمة، فواشنطن تعرف جيدًا ما تريده من السعودية في هذا التوقيت الذي تعاني فيه من أزمات اقتصادية، ويبدو أنها أيقنت أنها لن تجد أفضل من محمد بن سلمان لتنفيذ ما تريده.
ومع تردد بعض الأنباء التي تشير إلى إحتمالية تنحي الملك سلمان عن عرش المملكة ما يعني تنصيب نجله ملكًا خلال الأيام القادمة، يظل المشهد السعودي خارج نطاق التوقعات، فالزلزال الذي هز أركانها خلال الأيام الماضية وإن كان خمل أثره رويدا رويدأ إلى أن احتمالات تأثير تبعاته لا تزال قائمة.