تمكن باحث مصري من اكتشاف البروتين المُسبب لمرض تليف الكبد، ما من شأنه أن يُسهم مستقبلاً في ابتكار أدوية تستهدف الجين المنتج له بشكل مباشر لمنع الإصابة به. ووفق الدراسة المنشورة في مجلة نيتشر-علوم الجينات، في مارس الماضي، نجح البروفيسور محمد إسلام، وفريقه البحثي في معهد «ويستميد» بجامعة سيدني الأسترالية، في التوصل إلى أن البروتين «إنترفيرون لمادا- 3 IFN-λ3» هو المسؤول عن الإصابة بمرض تليُّف الكبد. إذ أظهرت نتائج الدراسة أن زيادة معدلات هجرة الخلايا الالتهابية المسببة للمرض من الدم إلى الكبد، يقترن بالزيادة في إفراز البروتين IFN-λ3. اعتمدت الدراسة على تحليل بيانات مأخوذة من 2000 من المرضى.


والإنترفيرون هو عائلة من البروتينات التي يصنعها الجهاز المناعي ويفرزها داخل خلايا الجسم، وذلك كخطوة أولى لتعزيز مواجهة الفيروسات والبكتيريا. ولا يقتل الإنترفيرون الخلايا الفيروسية مباشرة، وإنما يُسهم في تعزيز استجابة جهاز المناعة، من خلال تنظيم عمل العديد من الجينات التي تتحكم في إفراز البروتينات الخلوية، ما يمكِّن المناعة من تدمير الأجسام الغريبة. ويؤدي عدم التحكم في إفراز الإنترفيرون إلى حدوث التهابات في الأنسجة، تنتج عنها الإصابة بتليف الأعضاء الداخلية للجسم، وبخاصة الكبد.


وكان الفريق البحثي قد نشر في عام 2015، ورقة علمية في مجلة نيتشر كميونيكيشن Nature Communications، ارتكزت على دراسة أكثر من ٤٠٠٠ مريض، كشفت عن أن الجينات الموجودة في كروموسوم 19 والتي تتحكم في الكمية المنتجة من بروتين الإنترفيرون لمادا- 3 و4 هي ذاتها الجينات المسؤولة عن تحديد معدلات سرعة تليف الكبد.


لم يتمكن الباحثون آنذاك من التوصل إلى البروتين المسبب للتليف، على وجه الدقة، غير أنهم سارعوا من وتيرة البحث، ليتمكنوا من تحديده بعد أكثر من عامين. وتُعَد الالتهابات الفيروسية B وC، وكذلك الالتهابات غير الفيروسية الناجمة عن دهون الكبد السبب الرئيس لتليف الكبد.


ومرض تليف الكبد، والذي يُعرف أيضًا بتشمُّع الكبد يصيب خلايا الكبد السليمة بندوب، ويبدأ النسيج المتليف في الإحلال مكان السليم، ما يعوق الكبد عن القيام بوظائفه بشكل طبيعي، وقد يعجز عن إنتاج المواد المسؤولة عن تخثر الدم وتوقفه عن السيلان في حالات الجروح، وقد يفشل في تنقية السموم التي تتراكم في الدورة الدموية. ويُعَد مرضى تليف الكبد أكثر تعرُّضًا من غيرهم للإصابة بسرطان الكبد، وكذلك المرض المعروف بالتحصي الصفراوي، وقد يؤدي أيضًا إلى الوفاة.


ووفق إحصائية نشرها موقع worldlifeexpectancy توفي نحو 41 ألف شخص في مصر بسبب أمراض الكبد، بما يعادل نحو 9% من إجمالي عدد المتوفين في عام 2014.



حلقة مفرغة


وتُعد مجموعة «الإنترفيرون لمادا» بذلك هي الفئة الأحدث في اكتشافها ضمن بروتينات الإنترفيرون جميعها، والتي تتكون من ثلاث فئات رئيسية هي «ألفا وبيتا وجاما». وتمكن الباحثون من إثبات أن مجموعة لمادا هي المسؤولة عن الاستجابة المناعية الرئيسية، مُقارنة بالأنواع الثلاثة الأخرى في الكبد.


ولكن، كيف لبروتين يُفرزه الجهاز المناعي في الأساس لمحاربة الأمراض، إحداث تليف في الكبد؟ الإجابة يقدمها الدكتور محمد إسلام، الباحث الرئيس في الدراسة، والذي يقول لـ«العلم»: إن الفريق البحثي افترض في البداية أن التليف ربما يكون نتيجة إفراز الإنترفيرون لمادا- 3، إذ تؤدي هجرة واجتذاب الخلايا الالتهابية للكبد إلى زيادة التليف، فتقوم الخلايا بإفراز المزيد من لمادا-3 لمحاربة الالتهاب، الأمر الذي يزيد من وتيرة حدوث التليف، "يبدو الأمر وكأن الجسم يدور في حلقة مفرغة، يحاول مقاومة التليف بإفراز البروتين، فتتسبب زيادة معدلاته عن المعدل الطبيعي في زيادة نسب التليف»، على حد قول إسلام.


 لإثبات صحة هذه الفرضية، قام الفريق البحثي بصبغ عينات من الكبد مستخرجة من 90 مريضًا بعلامات ومحددات لخلايا التهابية مختلفة، ليجدوا أن لمادا-3 يُسهم بشكل كبير جدًّا في ارتفاع وتيرة هجرة الخلايا الالتهابية من الدم إلى الكبد. 


ولمزيد من التأكيد، قام الفريق البحثي بقياس معدل إحدى دلالات الخلايا الالتهابية، تحديدًا (سي دي 163 163CD)، وهي دلالة على نشاط أحد أهم الخلايا المناعية والالتهابية تسمى الميكروفاج marker of activated macrophages، وذلك في 506 مرضى، إذ تم تأكيد نفس الفرضية.


"لم نتوقف عند ذلك" يقول إسلام، مشيرًا إلى أن الفريق البحثي قام بقياس مستويات الحمض النووي الريبوزي RNA باستخدام تقنية قياس حديثة جدًّا تُسمى PCRD، ليكتشفوا أن فرضيتهم التي تقول إن زيادة معدلات إنتاج الإنترفيرون لمادا- 3 تؤدي إلى جذب مزيد من الخلايا الالتهابية إلى الكبد "صحيحة تمامًا". 


متابعة الأبحاث


يتعين على الفريق العلمي متابعة أبحاثه بخصوص الأمر، إذ إن اكتشاف البروتين المُسبب لتليف الكبد قد يكون خُطوة على طريق اكتشاف البروتينات المُسببة لتليف الأعضاء الداخلية كلها، والمسؤولة عن نحو 45% من الوفيات حول العالم، وفق الدراسة.


وفي هذا الصدد، يقول إسلام إن الخطوة التالية هي دراسة كيفية تحوير استجابة البروتين بشكل دقيق، للتمكن من تطوير علاجات جديدة تمنع الإصابة بتليف الكبد من الأساس، مع استمرارهم في محاولة الكشف الكامل عن الشفرة الجينية للمرض لتحسين التنبؤ بسرعة حدوثه، وإيجاد علاج فعال للمُصابين به. ويضيف أن مهمة الفريق لن تنتهي عند إيجاد علاج التليف، بل ستمتد لتشمل دراسة كل مُسببات تليف الأعضاء الداخلية، فـ"ربما يحمل المستقبل بُشرى سارة لهؤلاء الذين يُعانون من تليف القلب وغيره من الأعضاء الداخلية".


وإلى الآن، لا يوجد أي علاج لتليف الأعضاء الداخلية، ومن بينها الكبد بطبيعة الحال، سوى زراعة عضو آخر جديد مكان نظيره المُصاب.


ويحول عدم توافر الأعضاء الداخلية وصعوبة الوصول إلى متبرعين دون إتمام عمليات الزراعة، فهناك عبء كبير على المرضى المُصابين بالتليف وعلى أسرهم وعلى المجتمع بأسره، وربما يكون اكتشاف البروتين المُسبب للتليف "حجر الزاوية" للتخلص من تلك الأعباء، وهو أمر يُحسِّن من كفاءة النظام الصحي في مصر، ويخفف من التكاليف الباهظة التي تدفعها الحكومات لعلاج المرض.


أداة حسابية مقترحة


لم تقتصر نتائج الدراسة على اكتشاف البروتين ونشر الورقة العلمية، إذ قام الفريق البحثي بتصميم أداة حسابية دقيقة وبسيطة ومتاحة مجانًا على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، لمساعدة الأطباء على التنبؤ باحتمالية حدوث داء تليف الكبد للمرضى، عبر تزويد تلك الأداة بمجموعة من البيانات للمريض، كعدد الصفائح الدموية ومستويات إنزيمات الكبد. وحصلت الأداة المقترحة على موافقة السلطات الصحية في أستراليا، الأمر الذي قد يُسهم في الاكتشاف المبكر لاحتمالات الإصابة بتليف الكبد، دون الحاجة للحصول على عينات بيولوجية من المريض.


"هناك العديد والعديد من الفوائد التي يُتيحها اكتشاف البروتين"، يقول الدكتور جاد محمد، المتخصص في زراعة الكبد، ويشدد على أن الكشف الجديد يُحسِّن من قدرة الأطباء على تشخيص المرض دون استخدام الخزعات الاستئصالية Excisional biopsy، وهو ما يعني سهولة في التشخيص، علاوة على إمكانية الاستفادة من الكشف في تطوير علاجات جديدة.


غير أنه يستطرد: "لكن الأمر مرهون بحالة المريض، فالدواء المعتمد على وقف إفراز البروتين لن يفيد المرضى في حالة التليف المتقدم، إذ إن استخدامه سيقتصر على الحالات البسيطة أو لغرض منع التليف من الأساس".


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


جرى تغيير الإحصائية التى تتعلق بأن معدلات أمراض تليف الأعضاء الداخلية للجسم البشري حول العالم يبلغ 45%، نظرًا لأنه اتضح مع مزيد من البحث أنها تخص الولايا ت المتحدة الأمريكية وحدها دون بقية بلدان العالم، وعليه لا يمكن اعتبارها نسبة عالمية.