في السابع من نيسان/أبريل الجاري، بعد أقل من 72 ساعة على الهجوم المدمّر بالأسلحة الكيميائية في بلدة خان شيخون شمال سورية، أصدر الرئيس دونالد ...
في السابع من نيسان/أبريل الجاري، بعد أقل من 72 ساعة على الهجوم المدمّر بالأسلحة الكيميائية في بلدة خان شيخون شمال سورية، أصدر الرئيس دونالد ترامب أوامره للجيش الأميركي بقصف قاعدة الشعيرات الجوية بنحو 60 صاروخ كروز رداً على الهجوم.
لا يزال من السابق لأوانه تحديد ما إذا كان الهجوم – أول عمل عسكري تشنّه الولايات المتحدة ضد نظام الأسد عن سابق تصور وتصميم – يقتصر على ضربة لمرة واحدة ومعزولة، أم أنه بداية حملة جوية أطول. وفي حين أن الأثر العسكري ضئيل ومحدود، يمكن أن يكون الأثر النفسي على نظام الأسد الذي يعاني من البارانويا والعزلة أكثر أهمية، فيما يتوقّف أرباب النظام ملياً عند حسابات الأسد المُخطئة، واحتمال ظهور تفاهمات جديدة بين واشنطن وموسكو، وإمكانية وقوع مزيد من الهجمات.
الواضح هو أن ثمة ورقة دراماتيكية غير متوقّعة أُقحِمت في لجّة النزاع السوري. وفيما نحن نحاول أن نسبر غور الأثر الذي ستتركه الهجمات الأميركية، لابد من التوقّف عند نقطتَي تحوّل مهمتَين ربما تؤشران إلى "لعبة كبرى" روسية-أميركية جديدة في سورية. النقطة الأولى مرتبطة بالطبيعة الحالية للتدخل العسكري الروسي؛ أما الثانية فتتعلق بتبعات الحملة العسكرية على تنظيم الدولة الإسلامية. لهذه التطورات، وتفاعلاتها، القدرة على إحداث تحوّل في النزاع السوري. فهي تزيد من مخاطر النزاع، ليس بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحسب، إنما أيضاً روسيا وإسرائيل وتركيا وإيران. لكن يمكنها أن تولّد، في الوقت نفسه، الظروف التي قد تنبثق منها تسوية روسية- أميركية.
نجاح روسي، وأسئلة كثيرة
في ما يتعلق بالتدخل الروسي، حققت موسكو هدفها الأساسي المتمثل بإبقاء الأسد في السلطة في مستقبل منظور، ولو كان قد أصبح في وضع مضعضع. بيد أن هجوم خان شيخون سلّط الضوء ربما على فعل التوازن الدقيق في الجهود الروسية الآيلة إلى ترجمة التفوّق العسكري إلى مكاسب سياسية دائمة. فكلما أصبح الأسد أقوى، تراجع اعتماده على الدعم الروسي.
وفي حين أظهرت موسكو لامبالاة سافرة بالتداعيات الإنسانية لتدخلها العسكري في سورية، قد تتسبّب الهجمات الجوية الأميركية بزيادة التأثير الروسي على نظامٍ يجد نفسه في موقف دفاعي، أقلّه في الوقت الراهن. بعد الهجوم الكيميائي في العام 2013، ساهمت موسكو في التوصل إلى اتفاق لشحن الأسلحة الكيميائية في سورية إلى خارج البلاد، ولو أنه لم يُنفَّذ بالكامل. فكيف ستتعامل روسيا هذه المرة مع الرد الأميركي الأشد هجومية؟
في غضون ذلك، وفي حين أنه لا إسرائيل ولا حزب الله يرغبان في خوض معركة، تزداد احتمالات اندلاع نزاع مع اقتراب الجبهة الأمامية من مرتفعات الجولان. في ليل 16 آذار/مارس الماضي، أطلقت الدفاعات الجوية السورية صواريخ أرض-جو على طائرات إسرائيلية، في رد غير معهود إلى حد كبير على العمليات الإسرائيلية داخل المجال الجوي السوري. قد تؤدّي تحركات النظام ضد درعا، المحاذية للأردن والتي تقع على مسافة نحو 30 كيومتراً فقط من الجولان، إلى إحداث خلل في التوازن الدقيق في الجنوب السوري، حيث قبلت موسكو حتى الآن بـمنطقة عازلة مفروضة بحكم الأمر الواقع مع الأردن.
لقد تسبّب الهجوم الكيميائي هذا الأسبوع بتعاظم المخاوف الإسرائيلية. صحيح أن المسؤولين الإسرائيليين يلزمون الصمت في شكل عام في موضوع النزاع السوري، إلا أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ردّ على هجوم خان شيخون بـالدعوة إلى تحرّك دولي طارئ لاستكمال نزع الأسلحة الكيميائية السورية.
وفيما أشارت إدارة ترامب إلى أن المسألة اليمنية قد تكون محورية في الجهود الآيلة إلى درء التدخل الإيراني في المنطقة، من شأن قيام الولايات المتحدة بتعزيز دورها العسكري في سورية أن يترافق مع مجهود أكثر طموحاً لمحاولة قطع خطوط الإمدادات الإيرانية باتجاه دمشق. سوف يلقى مثل هذا المجهود ترحيباً شديداً في إسرائيل وعواصم الخليج، لكن قد يزيد من احتمالات اندلاع نزاع بين حزب الله وإسرائيل، مع ما تترتب عنه من تداعيات هائلة على لبنان أيضاً. فهل يمكن أن تدفع التشنجات المتعاظمة بين إسرائيل وحزب الله روسيا إلى وقف "التحرير" الكامل لجنوب سورية، من خلال نزع فتيل القتال بما يؤدّي إلى تجميد النزاع تقريباً عند خطوط المعارك الراهنة؟
تتمحور نقطة التحول الجيوسياسية الثانية حول التداعي الوشيك لدولة لخلافة في الرقة. ففي حين أن انحسار سيطرة الدولة الإسلامية على الأراضي أمرٌ مستحَب إلى حد كبير، من المؤكّد أنه سيولّد تعقيدات جديدة مقلقة، مع ظهور تحدّيات على صعيدَي الحكم والأوضاع الإنسانية، فضلاً عن أشكال جديدة من التشدّد – موزّعة جغرافياً على الأرجح.
ومايثير القلق بالدرجة نفسها هو احتمال حدوث تصفية حسابات بين تركيا والأكراد السوريين. فقد يتّضح بصورة مطردة أن الجهود الأميركية الهادفة إلى تفادي هذه المواجهة أمرٌ لا بد منه، مع اقتراب موعد الحملة البرية ضد الرقة. وهذا يساعد على فهم الأسباب التي دفعت بالقوات العسكرية الأميركية إلى التدخل في منبج في وقت سابق خلال العام الجاري، من أجل الحد من احتمالات اندلاع صدام مباشر بين القوات الكردية والتركية.
السؤال الأساسي المطروح الآن هو، مَن سيتولى زمام السيطرة في الرقة؟ لقد اقترحت أنقرة تعبئة خمسين قبيلة عربية سورية بقيادة تركية، فيما أكّدت السعودية من جديد استعدادها لإرسال قوات برية إلى سورية. بيد أن هدف أنقرة الأساسي هو إحداث خرق في تَجاوُر الأراضي في الجيب الكردي السوري في شمال سورية. أما السعودية فينصب اهتمامها في شكل خاص على شبه الجزيرة العربية، واليمن على وجه التحديد، مع قيام المملكة على ما يبدو بإسقاط سورية من حساباتها.
يبدو أن إدارة ترامب، شأنها في ذلك شأن إدارة أوباما قبلها، استنتجت أن قوات سورية الديمقراطية التي يسيطر عليها الأكراد هي القوة البرية الوحيدة القادرة على تحرير الرقة في المستقبل المنظور.
هذا الأمر غير مقبول في نظر تركيا التي تعتبر أنه لا فرق بين حزب الاتحاد الديمقراطي السوري وبين حزب العمال الكردستاني الذي تحمّله تركيا مسؤولية مقتل عشرات الآلاف منذ سبعينيات القرن العشرين، والذي صنّفه حلف شمال الأطلسي (الناتو) في خانة التنظيمات الإرهابية. من غير المرجّح أن يعمد الأكراد لاحقاً إلى تسليم السيطرة طوعاً على الأراضي التي استولوا عليها في شمال سورية، ولذلك من شأن تحرير الرقة على أيدي الأكراد أن تكون له تداعيات كبيرة ليس فقط بالنسبة إلى مستقبل التركيبة السياسية في سورية، إنما أيضاً في ما يختص بالديناميكيات الإثنية في الشرق الأوسط في شكل عام في العقود المقبلة.
نحو لحظة من لحظات "القوة العظمى"؟
لقد أخفقت المفاوضات الدولية على امتداد نحو ستة أعوام، في دفع النزاع السوري قدماً نحو التسوية. لكن على رغم عدم وضع خريطة طريق واضحة حتى الآن، عبّر دونالد ترامب مراراً وتكراراً عن رغبته في التباحث مع روسيا في تسوية سياسية طوية الأمد.
هل التوقيت مؤاتٍ لنكون أمام لحظة "قوة عظمى" روسية-أميركية في سورية؟ يبدو أن هناك أوجه تشابه محتملة بين مصلحة موسكو المفترضة في تجنّب تفجّر الأوضاع بين إسرائيل وحزب الله من جهة وبين الجهود الأميركية لتفادي اندلاع نزاع بين تركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكري، وحدات حماية الشعب الكردية، من جهة ثانية. قد يشتمل ترتيب روسي-أميركي مؤقت، في حال حدوثه، على إنشاء مناطق نفوذ غير رسمية تساهم في إرساء توازن بين المصالح الأساسية المتنافسة لأصحاب الشأن المتعددين في المعمعة الجيوسياسية شديدة التعقيد في سورية – وهؤلاء الأفرقاء هم إسرائيل وتركيا وإيران، فضلاً عن النظام السوري والأكراد والعرب السنّة.
لايمكن أن تكون موسكو قد فرحت برؤية مشاهد الأطفال الذين استنشقوا الغاز السام، لكن لطالما أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين احتراماً أكبر للديبلوماسية المدعومة بالقوة الصلبة. فهل يولّد لجوء الولايات المتحدة إلى رد انتقامي ضد نظام الأسد فرصة للتوصل إلى تسوية مع روسيا – أم أنه يحمل في طياته بذور تصعيد خطير؟ هل يمكن شراء الموافقة التركية على شنّ هجوم كردي على الرقة من خلال إنشاء منطقة عازلة بدعم من الولايات المتحدة بما يؤدّي إلى الحد من تدفق اللاجئين شمالاً، ويهدّئ المخاوف التركية من قيام منطقة كردية موحّدة عند الحدود الجنوبية؟ هل ستُظهر روسيا استعداداً – وقدرةً – للجم دور إيران وحزب الله في سورية إلى درجة معينة، بما يقلل من خطر التدخل الإسرائيلي؟ هل هناك أسسٌ كافية للتوصل إلى اتفاق بين واشنطن وموسكو من أجل فرض ترتيب جيوسياسي جديد لا يُعطي أياً من الجانبَين كل ما يريده، إنما قد يساعد على احتواء القتال؟ وهل بالمستطاع فرض مثل هذا التفاهم على الأفرقاء المحليين؟
يمكن أن تقطع الأجابة عن هذه الأسئلة شوطاً طويلاً نحو تحديد ما إذا كانت الحرب الأهلية الكارثية في سورية تتّجه نحو الانحسار، أو ما إذا كان سقوط حلب والرقة مجرد محطتَين على الطريق نحو مزيد من الموت والدمار.
جوزيف باحوط
بيري كاماك
موقع صدى الإخباري