يمكن أن نتبين داخل أنواع هذا الإعلام ثلاث طوائف على الأقل أولها طائفة وسائل الإعلام القائمة على الجمع بين الإعلام والترفيه والموجهة إلى العا...
يمكن أن نتبين داخل أنواع هذا الإعلام ثلاث طوائف على الأقل أولها طائفة وسائل الإعلام القائمة على الجمع بين الإعلام والترفيه والموجهة إلى العامة (1)، وهي وسائل ذات شبكات إنترنت ذائعة الصيت مثل موقع "بوزفيد Buzz Feed" أو موقع "هافينجنتون Huffington" وكذلك القنوات التلفزيونية الوطنية الكبرى، على غرار CBS وشركة الإذاعة الأمريكية (ِABC) وشركة الإذاعة الوطنية (NBC) وشبكة الإعلام الأمريكي المستمر (CNN) والفروع التلفزيونية المحلية التابعة لها، ثم تأتي مجموعة وسائل الإعلام التابعة لأحزاب معينة (2)، الطائفة الثانية وهي طائفة الإذاعات ذات التوجه المحافظ أساساً وتمثلها إذاعة "الشركة التليفزيونية التجارية "فوكس" (Fox) وشركة الإعلام المتواصل" (MSNBC) (التقدمية) التي تقدم برامج فكاهية ساخرة مثل "الإستعراض اليومي" (The Daily Show) الذي يقدمه تريفور نواه، والأسبوع الأخير من جون أوليفار".
الطائفة الثالثة قائمة تفضيل إعلام ذي جودة مع عناوين جيدة مثل صحيفة "نيويورك تايمز" أو "وول ستريت جورنال – The wall street journal" أو الصحيفة السياسية "بوليتيكو-Politico" وتوجد في هذه الطائفة أيضاً مجلات وطنية مثل مجلة "تايم" أو "ذي أتلانتيك"، وكذلك أبرز الصحف المحلية، ويعرض القطاع العام والتعاوني، وهو يمثل أقلية لكنها نشطة، منتجات إعلامية توازن الكفة أحياناً إزاء هذه المنظومة القائمة على إقتصاد السوق.
ولكن الحدود بين هذه الفئات ضبابية، كما أنها قريبة يلامس بعضها بعضاً: فبعض الشبكات التلفزيونية الإعلامية الإلكترونية مثل"Fox"& "Huffington Post' تحاول التوفيق بين الصحافة ذات الجودة والإعلام القائم على "الجمع بين الإعلام والترفيه"، والحياد السياسي الذي تتبناه صحيفة "نيويورك تايمز" وبعض وسائل الإعلام الأخرى المهيمنة يلاقي إعتراضاً شديداً من النقاد المحافظين.
في الطرف الأخر من مكونات هذا الطيف الإعلامي نجد أن أكبر قناة تلفزيونية محلية وهي قناة "سنكلير- Sinclair" التي تشاهدها 70% من العائلات الأمريكية، قد عينت ناطقاً سابقاً بإسم الرئيس دونالد ترامب في منصب رئيس التحليل السياسي، وهي في الوقت ذاته قناة متهمة بإستعمال القنوات التابعة لها والبالغ عددها 173 قناة في "نشر برنامج يميني أساساً(3).
ولكي نفهم ظهور هذه المنظومة الإقتصادية فهما جيداً يجب الرجوع إلى الفترة التي جاءت بعد "العصر الذهبي" المزعوم خلال السبعينات "من القرن الماضي" والتي وصمتها فضيحة "ووترجيت": أنها مرحلة الثمانينات والتسعينات التي صار فيها الربح يمثل كل شيء بالنسبة إلى الصحف ووسائل الإعلام، ففي الوقت الذي وجدنا فيه عدد كبير من الصحف في فرنسا تنفق من الأموال أكثر مما تكسبه، ولم يكن في وسعها أن تجتنب الإفلاس لولا مساعدات الدولة، نجد أن الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية يدر على أهله أموالاً طائلة، وذلك منذ زمن بعيد.
خلال الثمانينات نجد أن مجموعة إعلامية مدرجة في البورصة مثل "مجموعة الصحف "جانيت" (Gannett) التي تنشر عدة صحف في الولايات المتحدة الأمريكية منها على وجه الخصوص صحيفة "الولايات المتحدة الأمريكية اليوم" (USA Today) (وهي أكبر صحيفة وطنية من حيث الإنتشار في البلاد كلها)، تحقق بالصحف المائة التابعة له أرباحاً صافية تقدر ب 25%، وربما أكثر من ذلك، وبذلك فرضت هذه المجموعة نفسها مثالاً نموذجياً ناجحاً يقتدى به، ماهي الوصفة التي مكنتها من ذلك؟ إنها تتمثل في قضائها على المنافسة بحيث تضمن الإحتكار محلياً، كما تتمثل في التخفيض من عدد الموظفين، وكذلك في الضغط على ميزانيات النفقات، وفي حشو الصفحات ببرقيات وكالات أنباء زهيدة الكلفة، وفي الإعتماد على الإعلان إلى أقصى درجة ممكنة، وقد مثلت الإعلانات مؤخراً نسبة 80% من حجم أعمال الصحافة الأمريكية المكتوبة، وهي أعلى نسبة في جميع البلدان الغربية قاطبة.

هذا الإنقلاب التام من خدمة الشأن العام إلى منطق الربح التجاري ظهر في وضح النهار ذات يوم من أيام عام 1986، عندما تراجعت أسعار أسهم مؤسسة "كنايت ريدار" في البورصة الأمريكية "وول ستريت"، في الوقت الذي كان فيه هذا المجمع الإعلامي الناجح بصفة عظيمة قد أحرز منذ مدة قصيرة سبع جوائز "بولتزر" الصحفية، وهي إحدى أرقى الجوائز المهنية في العالم، يبدو أن أحد أهل البورصة حلل للسيد فرانك هاوكنس، مدير هذا المجمع الإعلامي الذي كان يسأله عن سبب هذا الإنهيار في أسعار الأسهم قائلاً: "السبب هو أنك تربح أكثر من اللازم من جوائز "بولتزر". إن المال المخصص لهذه المشاريع ينبغي أن يبقى في خانة "النتائج" (4)، تواصل هذا الضغط في الإشتداد خلال سنوات التسعينات وهو ما جعل السعي إلى تحقيق أقصى الأرباح فوق جميع الإعتبارات الأخرى.
في هذا السياق غير المجيد بالذات جاءت أزمة بداية القرن الواحد والعشرين، وكان ذلك في شكل أمواج متتابعة تمثلت في: هبوط حاد في الإعلانات الصغيرة وفي الإعلانات المطبوعة التي لا تدر أرباحاً مالية عبر النشر الإلكتروني، وفي الأزمتين الماليتين عام 2001 (شهدت كل من تركيا والأرجنتين أزمتين هددتا بإفلاس الدولتين مع إرتفاع معدل التضخم والدين الأجنبي) ثم عام 2008 (حين عانى العالم من توابع أزمة الرهم العقاري الأمريكي وما تلاها من موجات هددت الإقتصاد العالمي بسلسلة من النكسات يعاني منها حتى الآن)، وهما أزمتان زادتا في إنهيار الدخول المتأتية من الإعلانات، بين 2005 و2016 تراجعت تلك الإيرادات من 49 مليون دولار إلى 20 مليون دولار منها نسبة 30% فقط متأتية من النشر الإعلامي على شبكات الإنترنت حيث تبقى التكلفة المالية أقل إرتفاعاً، ورغم أن إيرادات الإشتراكات في إزدياد، فإنها لا تعوض الخسائر الحاصلة من تراجع الإعلانات، إنهارت قيمة الأسهم وتم القضاء على ثلث فرص العمل ذات الوقت الكامل في الصحافة المكتوبة، وحصل أكبر تقليص في الميزانيات المخصصة للريبورتاج وللتحقيقات ولتغطية أمور الشأن العام (5).
وكانت النتيجة هي أن عدداً متزايداً من المجموعات الإعلامية المدرجة في البورصة إضطرت لأن تبيع صحفاً هامة لرجال أعمال ذوي ثروات كبيرة: عام 2013 إشترى جيفري بيزوس، مؤسس شركة "أمازون"، صحيفة "واشنطن بوست"، كما أشترى جون هنري، صاحب فريق البايسبول في مدينة بوسطن المعروف "ريد سوكس"، "صحيفة بوستن جلوب".
في العام التالي أستحوذ جلين تايلر، صاحب فريق كرة السلة المعروف باسم "منيسوتا تنمبروولفز" على صحيفة "ستار تريبيون"، وهي أهم صحيفة في منيسوتا، في نهاية عام 2015 أشترى الملياردير المحافظ شيلدون أدلسون صحيفة "لاس فيجاس ريفيو جورنال".
[caption id="attachment_5781" align="aligncenter" width="1000"]
جيفري بيزوس مالك أمازون[/caption]
هؤلاء الأثرياء الكبار أدخلوا عامل تنوع في عالم إقتصادي متناغم، وفي أستطاعتهم لو شاءوا أن يصمدوا أمام ضغط هاجس الربح، كانت صحيفتا "واشنطن بوست" و "نيويورك تايمز" سباقتين في التحقيقات الدقيقة المتعلقة بإدارة الرئيس دونالد ترامب، وليس من باب الصدفة أن هاتين الصحيفتين ليستا من أملاك مجمع إعلامي صحفي (فأغلبية أسهم صحيفة "نيويورك تايمز" هي ملك عائلة سولسبيرجر).
هذا النوع من الملكية الخاصة يثير مخاوف جديدة بخصوص إمكانية خدمة خلفيات سياسية بطريقة ملتوية، أو إمكانية وجود تضارب مصالح فيها، أو قلة الشفافية، الرئيس دونالد ترامب لم يفوت هذه الفرصة فكتب على تغريدة له هجوماً على صحيفة "أمازون واشنطن بوست"، كما هدد هذه المؤسسة بأن يبيع عبر الشبكات الإلكترونية تحقيقاً معارضاً للتكتلات الإحتكارية بغية تخويف جيفري بيزوس، لئن لم تكن الدوافع الحقيقية للرئيس الأمريكي متمثلة بلا شك في حق المنافسة فقط، فإن الحقيقة هي أن مؤسسة "أمازون" تسيطر على عدد متزايد من القطاعات، وهو ما من شأنه أن يزيد من خطر تضارب المصالح.
بالنسبة إلى أغلبية المواطنين "الأمريكيين" يبقى التلفزيون المصدر الرئيسي للمعلومة "الإخبارية" (57%) من الأشخاص البالغين لجئوا إلى هذه الوسيلة عام 2016، مقابل 38% منهم لجئوا إلى شبكات الإنترنت للحصول على تلك المعلومة حسب ما نشره مركز "بيو للبحوث"، حرصاً من الصحف الكبرى المتلفزة على المحافظة على نسبة الجمهور المتابع لها في عصر متميز بشبكات التليفزيونات الموصولة بأنظمة التلقي عبر الإشتراكات الخاصة وطغيان الشبكات العنكبوتية للإنترنت، صارت هذه الصحف (ABC و CBS و NBC) متسمة تدريجياً وعلى نحو متزايد بالسطحية وبتملق الأحاسيس، تغطية المسائل الجوهرية خلال الحملة الرئاسية إنحدرت مدتها من مائتين وعشرين دقيقة عام 2008 إلى إثنتين وثلاثين دقيقة "فقط" عام 2016 (6)، وبالعكس تماماً صارت المواقع المتصلة جهاراً بالأحزاب، مثل موقعي اليمين المتطرف "برايتبارت" و"أنفووارز" (أخبار الحروب)، تعالج مسائل جوهرية، لكنها تحرف الوقائع، هذا إذا لم تكن تكذب تماماً وبكل بساطة، في كل الديموقراطيات، يكون من المنطقي أن تتدخل الدولة لكي تخفف من الإنهيار الإقتصادي لهذه المنظومة الموغلة في طابعها التجاري المفرط والمتسمة بنقص فادح في إنتاج المعلومة الجيدة، وبزيادة مفرطة في الأخبار المضللة أو التي تدغدغ المشاعر، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن عملاً كهذا تقوم به الدولة يمكن أن يثير المعارضة الشرسة لدى تحالف المحافظين المعارضين لدور الدولة وكذلك لدى الصحفيين المحترفين الذين تحركهم قراءة صارمة ضيقة لتنقيح القانون الذي يمنع في رأيهم كل تدخل للجهاز التنفيذي في مجال الصحافة، لاشك أن وسائل الإعلام " التابعة للقطاع العام" ليست بمنأى عن ضغوط الدولة، لكن إستقلاليتها تحظى بحماية هيكلية مثلما هو الشأن في بريطانيا، أو في ألمانيا، أو في الدول الإسكندينافية (7)، ولذلك فهي تقدم عادة معلومات نقدية ومعمقة أكثر بكثير مما تقدمه نظيراتها التجارية.
[caption id="attachment_5782" align="aligncenter" width="774"]
جون هنري مالك نادي ليفربول[/caption]
ومقارنة بدول أخرى ديموقراطية كبرى، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أخر القائمة، صاحبة أصغر قطاع إعلامي مدعوم من الدولة: فتمويل "هيئة الإذاعة العمومية – Public Broadcasting Service" والإذاعة العمومية الوطنية – National Public Radio" يمثل أقل من 3 يورو للفرد الواحد، مقابل 70 يورو للفرد في فرنسا، و86 يورو في المملكة المتحدة، و116 يورو في ألمانيا، و152 يورو في النرويج، الحقيقة أن جل أموال "هيئة الإذاعة العمومية" و "الإذاعة العمومية الوطنية" متأتية من الهبات وذلك وفق قانون هجين لهذه المجموعات الإذاعية والتليفزيونية التي هي في الآن ذاته مجموعات تابعة للقطاع العام وذات أهداف غير ربحية، ورغم ذلك وحتى لو أدخلنا في الحسبان هذه الهبات فإن إيراداتها لا تبلغ 8 يورو للفرد الواحد (8).
ورغم أنها خفضت من طموحاتها الصحفية إثر الأزمة الإقتصادية، فإن وسائل الإعلام الصحفية التجارية "التقليدية" (أي شركات كانت في الأصل تنتج صحفاً ومجلات وقنوات تلفزيونية) تبقى مهيمنة، سواء في مستوى حجم أعمالها أو في مستوى أرباحها، أو في نسبة الجمهور الذي يتابعها عبر الوسائل الإلكترونية.
أبرز المواقع الإعلامية الإلكترونية، أي الموقع الإخباري الإلكتروني "هافينجتون" والموقع الإعلامي الإلكتروني "بوزفيد" يحققان أرباحاً زهيدة جداً، ولعلهما لا يحققان أدنى ربح، إنهما بعيدتان جداً عن هامش الربح المعتاد في الصحافة المكتوبة والذي يتراوح بين 8% و15%، هذا دون إحتساب النتائج الطيبة التي تحققها شبكات الإعلام التي يتابعها أصحابها عن طريق شبكة إشتراكات خاصة.
[caption id="attachment_5783" align="aligncenter" width="1000"]
جلين تايلر صاحب فريق السلة مينسوتا تمبرولفز[/caption]
وسائل الإعلام الرقمية الممولة بصفة حصرية من الإعلانات عبر الشبكات الإلكترونية تعمل مع فرق صغيرة جداً، ويتقاضى أفرادها أجوراً أقل بكثير مما يتقاضاه نظراؤهم العاملون في وسائل التحرير التقليدية "أي في الصحف المكتوبة": فمؤسسة "هافينجتون بوست" ليس بها سوى حوالي 250 محرراً يعملون كامل الوقت، وكثيرون منهم يكتفون بإعادة إستخدام المواد التي تستغنى عنها وسائل إعلامية أخرى في حين أن صحيفة "نيويورك تايمز" تستخدم 1300 صحفي محترف يعملون كامل الوقت، ويفترض أنه لا أحد فيهم يكتفي بنقل محتويات سبق أن صدرت في صحف آخرى.
حسب المعلومات التي جمعتها الوكالة الأمريكية لتحليل الإعلانات "كومسكور" عام 2015، فإن وسائل الإعلام التقليدية تجذب من مستخدمي شبكة الإنترنت عدداً أكبر من ذلك الذي تجذبه وسائل المنافسة لها التي كانت منذ البداية تبث إلكترونياً، وهي في ذلك على الترتيب التالي: أسماء كبيرة لامعة مثل "شركة الإذاعة الأمريكية" و "شبكة الإعلام الأمريكي المستمر" و"شركة الإذاعة الوطنية" و"نظام بث كولومبيا" و"USA Today" و"نيويورك تايمز" و"فوكس". وهي تحل المراتب العشر الأولى لمواقع المعلومات الإلكترونية التي يتابعها الناس أكثر من سواها في الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا أخذنا بعين الإعتبار وسائل الإعلام التي يطلع عليها الناس هناك وهي آتية من الخارج مثل "هيئة الإذاعة البريطانية" (وهي تحتل المرتبة 15 في الولايات المتحدة الأمريكية)، وصحيفة "ذي جارديان – Gardian" البريطانية (وهي تحتل المرتبة 17 هناك) فإن هذه الأسماء الكبيرة اللامعة تحتل 29 مرتبة من لـ 50 مرتبة الأولى في هذا الترتيب.
أن تكون 21 صحيفة من الجيل الجديد ضمن هذا الترتيب هو أمر يدل على كل حال على أن تحولا مهماً بصدد الحصول: الصحف الموجودة فقط على شبكة الإنترنت تقدم طائفة واسعة من المواضيع، ومن الأفكار، ومن الأحجام، فبعض الصحف الجامعة مثل "هافينجتون بوست" و"بوزفيد" تنتج محتويات جديدة على نحو متزايد، بما في ذلك معلومات إخبارية وريبورتاجات سياسية، أما صحيفتا "بوليتيكو" و"ذي هيل – The Hill" "فتقدمان ملمحاً مفصلاً لكواليس السياسة، المواقع الموجودة بعد "توب 50" في الترتيب هي مواقع أقل شأناً منها صحيفة "ميديوم – Medium" (التي أسسها السيد إيفان وليامس وهو المنشئ المشارك لشبكة "تويتر")، وهي تفضل المقالات الطويلة المتعلقة بالجوهر، ثمة صحيفتان تستحقان إهتماماً خاصاً لما لديهما من ممارسات صحفية متميزة: إنهما صحيفة "فوكس Vox" وصحيفة "فايسنيوز- Vice News".
[caption id="attachment_5772" align="aligncenter" width="1000"]
شيلتون أديلسون[/caption]
بعيداً عن الأخبار الهامة الحصرية، يختار محررو صحيفة "فوكس" مواضيع معقدة مثل الصراع السوري، وقانون الضمان الصحي الذي أقره الرئيس الأمريكي السابق الديموقراطي باراك أوباما والمعروف باسم "أوباما كير"، والتغير المناخي، وهم يقدمون تحليلاً عميقاً مشفوعاً برسوم بيانية، ولوحات تتضمن أسئلة وأجوبة، وبصور توضيحية شاملة. توجد بها أيضاً ملفات في مواضيع مختلفة مطروحة بطريقة فيها أسلوب شيق لكنها متسمة بالجدية، وهي تعالج مواضيع بالغة التنوع مثل "أفضل البرامج التليفزيونية ال 18 الموجودة حالياً" (ويتم تحديثها كل أسبوع)، أو "أنواع العنف البوليسي: 9 وقائع يجب أن تعرف" (بتاريخ 4يناير/ كانون الثاني 2016)، أو تفسير العملة الإلكترونية "Bitcoin" (بتاريخ 3نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، أو "فهم المنظومة الأمريكية للهجرة" (بتاريخ 4 أغسطس/ آب 2015).
تتسم صحيفة "فايسنيوز" بعمل صحفي متعمق مع ملمح شخصي جداً فيه تركيز على الجانب البصري. في سلسلة من الأعمال الوثائقية التي بثت على قناة "هوم بوكس أوفيس – Home Box Office" التي يتم تلقيها على شبكة إشتراكات خاصة – ولكنها موجودة أيضاً وبصفة مجانية على موقعها الإلكتروني أو على شبكتها "يوتيوب"- تقدم هذه القناة التليفزيونية لمحة نفسية عن الحياة اليومية في بلدان مثل أوكرانيا، أو كوريا الشمالية، أو جمهورية إفريقيا الوسطى أو حتى في الأراضي الخاضعة لسلطة ما يسمى بـ "تنظيم الدولة الإسلامية"، وهو ما بثته عام 2014، (وهو عمل وثائقي فاغز بجائزة"بيبودي" التي هي جائزة راقية)، حسب دانيت جولد، مراسل صحيفة "ايسنيوز" فإن الأمر متعلق بـ "تجرد المحرر" ويجعل التحرير "جسرا" لكي تعبر المواضيع الوثائقية ذاتها عن وجهة نظرها الشخصية(9)، تستهدف صحيفة "فايسنيوز" جمهورا شابا أكثر بكثير ــــــ معدل الأعمال فيه 25 عاماً ـــــ من جماهير سائر الصحف التقليدية، غير أن لوحتها هذه توجد فيها أيضا نقطة قاتمة: إنها النقطة التي يضفيها على المعلومة الإخبارية الريبورتاج المعروف باسم "الإعلان الناشئ" (الموضوع التسجيلي) لأن المضمون المستخدم يتم إدراجه بطريقة لطيفة بحيث يتماهي مع المادة التحريرية، صحيفة "فايسنيوز"، تماماً مثل صحيفة "بوزفيد"، هي أحدى الرائدات السباقات، وذلك بفضل وكالتها التجارية "فرتي"، في هذا المجال. من ذلك مثلا أن احد مواقعها وهو الموقع المسمى باسم "مشروع الإبداعات" والممول من طرف مهندسون أوفنانون بصدد استعمال أجهزة من إنتاج الشركة الإعلامية ذاتها وأطلاق صفة "شريك مؤسس" على سبيل التسمية يعني أن الماركات لا تكتفي بربط اسمها ببرنامج معين "في الصحيفة"، وإنما هي تسعى أيضاً إلى توجيه السياسة التحريرية بحسب مصلحتها.
[caption id="attachment_5777" align="aligncenter" width="700"]
يداية الصحافة[/caption]
خلف الصورة المتطورة الدائمة والبديلة التي تظهر بها صحيفة "فايسنيوز" وتحسن استغلالها، تختفي في الحقيقة صورة خطة تجارية رأسمالية إلى أبعد الحدود. من بين مموليها نجد مؤسسة "فوكس" (فالسيد جيمس ميردوخ، ابن الملياردير الكبير في قطاع الأعمال روبرت ميردوخ، صار من أعضاء مجلس الإدارة فيها)، وكذلك مؤسسات "تايم وارنر"، و"هيرسيت"، و"ديزني"، و " إنتوورك"، إلى جانب عدد آخر من شركات في رأس المال –المخاطرة. والحاصل في النهاية أن مواقع الإعلام الجديدة على شبكات التواصل الالكترونية تمثل مشهدا ذا تضاد وتناقض، والخصال المميزة لها يمكن ان يتضح انها هشة إذا ما أدركتها وسيطرت عليها المقتضيات التجارية، ومن المبادئ المتعارف عليها هي أن المجالات التي لا تستطيع الصحف التجارية الخوض فيها أو هي لا تريد ذلك، وخصوصا مجال التحقيق والريبورتاج في القضايا الاجتماعية، هي مجالات تخص الصحف المتخصصة في الأنشطة الإنسانية. ولكن هل تكفي الصحافة ذات الأهداف غير الربحية حقاً لملئ الفراغ في هذه القطاعات؟
الصحافة غير الهادفة للربح
بين 2005و 2014 ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية 308 صحيفة ذات أهداف غير ربحية، وهي موزعة على خمس وعشرين ولاية (10)، تعمل كلها أساسا بفضل مساهمات مالية من مؤسسات كبرى مثل شركة "فورد"، و"ماك أرتور"، وجيتس"، و"كنايت" وهي تعتبر أنها تقدم شكلا من اشكال الخدمة الاجتماعية، بينت دراسة حديثة متعلقة بثماني عشرة صحيفة من هذه الصحف (منها المحلي، والإقليمي، والفيدرالي) أنها تخصص ما بين 34% و 85% من ميزانيتها للافتتاحات، مقابل نسبة تتراوح بين 12% و 16% في الصحف التجارية (11).
وهي تتخصص عموما في الريبورتاجات والتحقيقات عن السياسة الداخلية أو عن الشئون الخارجية. هذه الصحافة ذات الأهداف غير الربحية ساهمت في تجديد صحافة الاستقصاء، من ذلك موقع "بروبيبليكا" (الذي أنشئ عام 2008) وهو حصل على جائزة"بوليتزر" مرتين، إلى جانب مواقع أخرى أقدم منه، لكنها في أوج ازدهارها مثل "مركز ريبورتاجات التحقيقات" الذي تأسس عام 1977، و"مركز النزاهة العمومية" الذي تأسس عام 1989. على سبيل المثال، سلط موقع "بروبيبليكا" الأضواء على "الصليب الأحمر" ("كيفية جمع "الصيب الأحمر" نصف مليار دولار ليبني بها ستة منازل في هايتي (12)") وعلى العلاقات الخفية بين الخزانة الفيدرالية وبعض عمالقة القطاع المالي، أو على المجهودات المجحفة بشكل خاص والتي تبذلها المستشفيات لاسترجاع الأموال التي لها لدى العائلات المتواضعة.
ورغم هذه الإنجازات، الراسخة كلها تماماً في تيار إصلاح ليبيرالي يساري، فإن الشركات لا يمكنها تعديل كفة الفشل الاقتصادي للصحافة التجارية الأمريكية الهبات الممنوحة للصحف تبلغ 150مليون دولار سنويا في احسن الأحوال: أنه مبلغ بمثابة قطرة ماء في محيط بالنسبة إلى خسارة إيرادات الإعلانات في الصحف الكبرى،ت أهم الصحف ذات الأهداف غير الربحية أي صحيفة "بروبييلاكا"، وصحيفة "كريستيان ساينس مونتيور" تستخدم كل منهما ما بين 70و 80 صحفيا، ولكن يوجد ايضا عددا آخر من هذه الصحف تستخدم فرقا يتكون كل منها من حوالي اثنى عشر صحفيا على اقصى تقدير.
[caption id="attachment_5780" align="aligncenter" width="800"]
العصر الذهبي للصحافة الورقية[/caption]
هذا فضلا عن كون كل الشركات التجارية لا تلتزم على المدى الطويل بمساعدة الصحف. فمجالس إدارة تلك الصحف يهيمن عليها رؤساء شركات. ويرى هؤلاء أن عملهم يتركز في مساعدة الصحف غير ذات الأهداف الربحية على أن تتحول إلى مؤسسات تجارية حقيقية، ولذلك تنصحها بأن توجه إنتاجها الصحفي إلى جمهور من النخبة التي هي قادرة في الآن ذاته على تقديم معونات مالية وعلى جلب شركات إعلان مرموقة. بعض الصحف، مثل صحيفة "بروبيبليكا" تضع مقالاتها تحت تصرف المواقع التجارية بصفة حرة مجانية: إنها تربح في مستوى الرؤية، ولكن ليس في مستوى الاستقلالية الاقتصادية، ولا في مستوى استقلالها إزاء المانحين الذين يقدمون لها الهبات.
الصحف التي هي ذات أهداف غير ربحية والتي تحاول الوصول إلى جمهور أقل نخبوبة تواجه صعوبات اشد فمؤسسة "الصحافة العمومية بسان فرانسيسكو" التي اسسها مايكل ستول عام 2009 وقد أراد أن يجعلها بمثابة "صحيفة وول ستريت"الموجهة إلى الشعب، ولذلك رفض الإعلانات والوصاية من الشركات التجارية الكبرى، وقد فسر السيد مايكر ستول ذلك قائلا: "العمال ذوو الأجور الزهيدة لا يهمون ذوي الإعلان في الصحف التقليدية التي ترمى إلى النهوض بالمنتجات التجارية الرفيعة الفاخرة، مؤسسة الصحافة العمومية بسان فرانسيسكو تشتغل أساسا بفضل يد عاملة مجانية وبميزانية سنوية أقل من 100000 دولار،ورغم جودة تحقيقاتها فإنها تجد صعوبة كبيرة في توسيع مجال انتشارها. من هنا تظهر خاتمة تفرض نفسها وهي التالية: الصحف ذات الأهداف غير الربحية التي تسعى إلى بلوغ جماهير تزدري صحافة السوق لا تكاد تستطيع تحقيق ذلك ما دامت الشركات التي تمولها لا تنظر باهتمام إلا إلى النماذج الجديدة للمؤسسات ذات الأهداف التجارية.
أخيراً يجب ألا يغيب عن الاذهان أن الهبات التي تعطي للصحف ليست "بلا مقابل"، ذلك أن هذه المبالغ التي يتم دفعها بفضل تخفيضات ضريبية سخية إنما تمثل في الحقيقة" إعادة توجيه لموارد مالية عمومية نحو كيانات غير ذات شفافية، وقد شهد بذلك أحد المسئولين عن الهبات المقدمة إلى الصحافة قائلا: "لسنا محكومين بنظم دقيقة، ,لا نطالب تقديم حساب لأحد، لست محتاجا إلى تحديد موعد لمقابلة أشخاص لا أرغب في رؤيتهم، وكذا شأن جميع الناس العاملين في هذه المؤسسة، على أن اجتهد أفضل اجتهاد في ممارسة وظائفي، ولكني لا أظن أن المؤسسات تمثل أفضل طريقة لخدمة المصلحة العامة في بلد ديمقراطي (13).
في الأغلب الأعم يقترن سخاء المانحين بالتزامات ضمنية، فالمانحون الكبار يفضلون تمويل مشاريع محددة بدقة على تمويل تكاليف تشغيل الصحف، وهو ما يؤدي إلى إيجاد ضغط متواصل لتكييف المحتوى التحريري وفقاً لمتطلباتهم، وبحكم خضوع الصحف العمومية لهبات ذوي السخاء الخاصة فإنها تواجه منهم ضغوطا قوية مباشرة. ففي عام 2012 أذاعت مؤسسة "شبكة التليفزيون" العمومي" PBS سلسلة حلقات عن الاقتصاد الأمريكي، وهي سلسلة مولتها مؤسسة "دور الكيميائية"، ولذلك وجدنا سلسلة الحلقات التليفزيونية متماشية تماشيا دقيقا مع مصالح هذه الشركة الصناعية، في عام 2013، انجزت القناة ذاتها عملاً وثائقيا عن الطائرات بدون طيار الممولة جزئيا من جانبت مؤسسة "لوكهيد مارتن" التي تصنع ايضا هذا النوع من الطائرات.
اخيرا، وفي عام 2014 ، انتجت سلسلة "خطر الفندق الصغير" وفيها تفصيل دقيق للمشاكل الناجمة عن تقاعد الموظفين، وكان ذلك بفضل مساعدات مالية لمستثمر من اصحاب المليارات يود إزالة تلك المشاكل، وقد اعترف وسيط مؤسسة "بشبكة التلفزيون العمومي" قائلا: "هذه الفضائح تكشف التنازلات الأخلاقية المتصلة بتسوية الأمور المالية، كما تكشف قلة الشفافية بالنسبة إلى المتفرجين، وهذه الظواهر آتية جزئيا من صعوبات تمويل المنظومة العمومية الإذاعية والتلفزيونية"(14).
[caption id="attachment_5779" align="aligncenter" width="670"]
هل الصحافة الورقية قادرة على الإستمرار[/caption]
فما هي خلاصة النتائج التي يجب استخلاصها من التجارب الأمريكية في مجال عملية التسويق التجاري المفرط وفي مجال الأعمال الإنسانية التي تقوم بها بعض وسائل الإعلام؟ رغم بعض النقاط الإيجابية، فإن مشاكل هيكلية تحد من طاقة المنظومة في مد مجموع المواطنين بإعلان سوى ومتوازن حول المواضيع التي تعنيهم.
المجمعات الإعلامية الكبرى منهكة، لكنها لم تنته وما زالت باقية "رغم ذلك"، مؤخرا حاول مجموعة جانيت ولكن دون جدوى- ان تشتري مؤسسة الصحافة الإعلانية "ترون" التي كانت في السابق تسمى"تريبيون كو- Tribune Co)) وهي ملك الصحيفة اليومية "شيكاغو تريبيون" وصحيفة "لوس أنجيلوس تايمز" التي كانت ذائعة الصيت في السابق، ما زال تدعيم القطاع متواصلا، حيث تمتلك سبع مؤسسات مدرجة في البورصة ربع الصحف الأمريكية. ملكية القنوات المحلية تشهد تجمعا في الملكية على نحو لم يسبق له مثيل، ودورها في المشهد المتواصل حول الرئيس دونالد ترامب لا يكاد يلهمها أي تأنيب ضمير: فبما أن نسب الاستماع والأرباح في ازدياد، فما المشكلة؟
مهنة الصحافة المحترفة تواصل انحدارها نحو الندرة (فحتى صحيفة "نيويورك تايمز" التي طالما قاومت في السابق أعلنت في الربيع الماضي أنها ألغت وظائف مائة سكرتير تحرير). في الوقت الذي تزيد فيه الشركات المعلنة من تأثيرها على العملية التحريرية من خلال المحتويات التي يدعمونها ماليا، تتعرض الصحافة التجارية الرقمية لضغوط اكثر قوة مما تعرضت له سابقتها من الصحف التقليدية. لا شك أن الاشتراكات تمثل متنفساً جيداً بالنسبة إلى بعض الصحف الخاصة بالنخبة مثل صحيفة "وول سترويت جورنال"، أو صحيفة "واشنطن بوست" او صحيفة "نيويورك تايمز" (التي صار لها اكثر من مليوني مشترك على شبكة الانترنت)، ولكن الاشتراكات لا يمكن أن، تكفي لتشغيل جميع الصحف.
الهجمات التي لا تتوقف من الرئيس دونالد ترامب ضد الصحفيين الذين ينتقدونه زادت من التفتت "الإيديولوجي" للمشهد الإعلامي. لتحديد مواقع القراء "بين اليمين واليسار" تم عام 2014 وضع سُلم سياسي بياني من 10 نقاط ذات علامة إيجابية على اليمين (السياسي) و10 نقاط ذات علامة إيجابية على اليمين (السياسي)، فكان قراء صحيفة "نيويورك تايمز" وصحيفة "واشنطن بوست" وصحيفة "بوليتيكو" بين الدرجات 3و 5 على اليسار، أما المؤسسة التلفزيونية الإخبارية "فوكس نيوز" (خارج بث الآراء) فيقع قراؤها على بعد درجتين من يمين الوسط، في حين أن بقية صحف اليمين (مثل صحيفة "برايت بايت"، والمعلقان سان هنيتي وروش ليمباوج) تتوجه إلى مستعمين يقعون على بعد ست درجات في يمين مركز الرسم البياني، صحيفة "ياهو نيوز" و"وول سترويت جورنال" هما الصحيفتان الوحيدتان اللتان تجذبان قراء يعتبرون أنفسهم وسيطين نسبياً(15).
مثل هذا الوضع يطرح تساؤلاً جوهرياً صعباً هو التالي: كيف السبيل إلى ترويج المعلومة بين طوائف متنافرة من الناس؟ شبكات التواصل الاجتماعي التي غالبا ما تتهم بتقوية الآراء المسبقة هي في الحقيقة تقدم من الحلول أكثر مما تطرح من المشاكل: حسب دراسة حديثة، فإن مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي هم أبعد ما يكون عن الانغلاق في "فقاقيع من المصافي" بحيث لا تصل إليهم سوى الأخبار التي تقوي قناعاتهم، ولهم في الاصطدام بوجهات نظر مضادة لوجهات نظرهم أوفر حظوظ أولئك الذين لا يستعملون شبكات التواصل الاجتماعي(16).
[caption id="attachment_5778" align="aligncenter" width="1000"]
هل ستختفي هذه الصورة[/caption]
في النهاية، خوف القراء من عملية الاستقطاب الحزبية للصحف يخفى وراءه تنافراً طبقيا هو أشد عمقاً. أكثر الأمريكيين ثروة وأرقاهم تعلماً يعرفون كل شيء سواء عن الشئون العامة أو عن نظائرهم الأوروبيين. لكن في الولايات المتحدة الأمريكية توجد هوة عميقة تفصل بين الربع السفلي والربع العلوي "في مستوى الإطلاع الإعلامي"، في حين أنه في أوروبا الغربية حتى أقل الناس تعلما وأقلهم ثراء هم متساوون تقريبا في متابعة الإعلام مع أوفر الناس حظوظاً في التعلم والثروة(17).
لا غرابة أن نعرف أن نخبة الصحف الأمريكية تلتزم بتوفير "معلومات إخبارية ذات جودة لجمهور ذي جودة(18)"، تاركة بقية الناس يتدبرون أمورهم كما استطاعوا إزاء محتوى شحيح أو محرف في النشرات الإخبارية التلفزيونية أو في بعض مواقع الانترنت. وسواء كانت مؤسسات الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية نخبوية، أو حزبية، أو متصلة بعموم الناس، فلا نجد أيا منها استطاعت ان تنكب على "موضوع" التشغيل الهش المرتبط بالعولمة التي تدل ضمنيا على المأزق السياسي الحالي. قلائل هم الذين يقبلون الحديث عن السكان الذين يعيشون على هامش النخبة الحضرية والثقافية، أو حتى يقبلون التوجه إليهم.
إن الأمر هنا متعلق بمجموعات اجتماعية ذات وزن هام على المستوى الانتخابي، ولكن لا مؤشر يضع في هذه الخانة ذوي الهبات الممكنة، والمشتركين الممكنين، والأهداف المختارة. معالجة ما يتصل بدونالد ترامب تحقق أرباحاً هاماً، وذلك سواء كانت إطراء له أو نقداً، وقلة قليلة جداً من الصحف لها الشجاعة اللازمة لتوجيه اهتمامها في اتجاه آخر ":غير ما يتصل بترامب". وهكذا تصير الدوافع التجارية هي المتحكمة "في الإعلام" والموجهة "له". والحاصل أن المشهد الإعلامي الأمريكي الجديد يمكن يتضح أنه في نهاية الأمر أقتل تنوعاً بكثير مما يبدو عليه في الظاهر.
رودني بينسون
أستاذ علم الاجتماع وعلوم الاتصال بجامعة نيويورك...
الهوامش:
المصدر: لوموند دوبلوماتيك محلق الأهرام المصري
الطائفة الثالثة قائمة تفضيل إعلام ذي جودة مع عناوين جيدة مثل صحيفة "نيويورك تايمز" أو "وول ستريت جورنال – The wall street journal" أو الصحيفة السياسية "بوليتيكو-Politico" وتوجد في هذه الطائفة أيضاً مجلات وطنية مثل مجلة "تايم" أو "ذي أتلانتيك"، وكذلك أبرز الصحف المحلية، ويعرض القطاع العام والتعاوني، وهو يمثل أقلية لكنها نشطة، منتجات إعلامية توازن الكفة أحياناً إزاء هذه المنظومة القائمة على إقتصاد السوق.
ولكن الحدود بين هذه الفئات ضبابية، كما أنها قريبة يلامس بعضها بعضاً: فبعض الشبكات التلفزيونية الإعلامية الإلكترونية مثل"Fox"& "Huffington Post' تحاول التوفيق بين الصحافة ذات الجودة والإعلام القائم على "الجمع بين الإعلام والترفيه"، والحياد السياسي الذي تتبناه صحيفة "نيويورك تايمز" وبعض وسائل الإعلام الأخرى المهيمنة يلاقي إعتراضاً شديداً من النقاد المحافظين.

في الطرف الأخر من مكونات هذا الطيف الإعلامي نجد أن أكبر قناة تلفزيونية محلية وهي قناة "سنكلير- Sinclair" التي تشاهدها 70% من العائلات الأمريكية، قد عينت ناطقاً سابقاً بإسم الرئيس دونالد ترامب في منصب رئيس التحليل السياسي، وهي في الوقت ذاته قناة متهمة بإستعمال القنوات التابعة لها والبالغ عددها 173 قناة في "نشر برنامج يميني أساساً(3).
ولكي نفهم ظهور هذه المنظومة الإقتصادية فهما جيداً يجب الرجوع إلى الفترة التي جاءت بعد "العصر الذهبي" المزعوم خلال السبعينات "من القرن الماضي" والتي وصمتها فضيحة "ووترجيت": أنها مرحلة الثمانينات والتسعينات التي صار فيها الربح يمثل كل شيء بالنسبة إلى الصحف ووسائل الإعلام، ففي الوقت الذي وجدنا فيه عدد كبير من الصحف في فرنسا تنفق من الأموال أكثر مما تكسبه، ولم يكن في وسعها أن تجتنب الإفلاس لولا مساعدات الدولة، نجد أن الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية يدر على أهله أموالاً طائلة، وذلك منذ زمن بعيد.
خلال الثمانينات نجد أن مجموعة إعلامية مدرجة في البورصة مثل "مجموعة الصحف "جانيت" (Gannett) التي تنشر عدة صحف في الولايات المتحدة الأمريكية منها على وجه الخصوص صحيفة "الولايات المتحدة الأمريكية اليوم" (USA Today) (وهي أكبر صحيفة وطنية من حيث الإنتشار في البلاد كلها)، تحقق بالصحف المائة التابعة له أرباحاً صافية تقدر ب 25%، وربما أكثر من ذلك، وبذلك فرضت هذه المجموعة نفسها مثالاً نموذجياً ناجحاً يقتدى به، ماهي الوصفة التي مكنتها من ذلك؟ إنها تتمثل في قضائها على المنافسة بحيث تضمن الإحتكار محلياً، كما تتمثل في التخفيض من عدد الموظفين، وكذلك في الضغط على ميزانيات النفقات، وفي حشو الصفحات ببرقيات وكالات أنباء زهيدة الكلفة، وفي الإعتماد على الإعلان إلى أقصى درجة ممكنة، وقد مثلت الإعلانات مؤخراً نسبة 80% من حجم أعمال الصحافة الأمريكية المكتوبة، وهي أعلى نسبة في جميع البلدان الغربية قاطبة.

هذا الإنقلاب التام من خدمة الشأن العام إلى منطق الربح التجاري ظهر في وضح النهار ذات يوم من أيام عام 1986، عندما تراجعت أسعار أسهم مؤسسة "كنايت ريدار" في البورصة الأمريكية "وول ستريت"، في الوقت الذي كان فيه هذا المجمع الإعلامي الناجح بصفة عظيمة قد أحرز منذ مدة قصيرة سبع جوائز "بولتزر" الصحفية، وهي إحدى أرقى الجوائز المهنية في العالم، يبدو أن أحد أهل البورصة حلل للسيد فرانك هاوكنس، مدير هذا المجمع الإعلامي الذي كان يسأله عن سبب هذا الإنهيار في أسعار الأسهم قائلاً: "السبب هو أنك تربح أكثر من اللازم من جوائز "بولتزر". إن المال المخصص لهذه المشاريع ينبغي أن يبقى في خانة "النتائج" (4)، تواصل هذا الضغط في الإشتداد خلال سنوات التسعينات وهو ما جعل السعي إلى تحقيق أقصى الأرباح فوق جميع الإعتبارات الأخرى.
في هذا السياق غير المجيد بالذات جاءت أزمة بداية القرن الواحد والعشرين، وكان ذلك في شكل أمواج متتابعة تمثلت في: هبوط حاد في الإعلانات الصغيرة وفي الإعلانات المطبوعة التي لا تدر أرباحاً مالية عبر النشر الإلكتروني، وفي الأزمتين الماليتين عام 2001 (شهدت كل من تركيا والأرجنتين أزمتين هددتا بإفلاس الدولتين مع إرتفاع معدل التضخم والدين الأجنبي) ثم عام 2008 (حين عانى العالم من توابع أزمة الرهم العقاري الأمريكي وما تلاها من موجات هددت الإقتصاد العالمي بسلسلة من النكسات يعاني منها حتى الآن)، وهما أزمتان زادتا في إنهيار الدخول المتأتية من الإعلانات، بين 2005 و2016 تراجعت تلك الإيرادات من 49 مليون دولار إلى 20 مليون دولار منها نسبة 30% فقط متأتية من النشر الإعلامي على شبكات الإنترنت حيث تبقى التكلفة المالية أقل إرتفاعاً، ورغم أن إيرادات الإشتراكات في إزدياد، فإنها لا تعوض الخسائر الحاصلة من تراجع الإعلانات، إنهارت قيمة الأسهم وتم القضاء على ثلث فرص العمل ذات الوقت الكامل في الصحافة المكتوبة، وحصل أكبر تقليص في الميزانيات المخصصة للريبورتاج وللتحقيقات ولتغطية أمور الشأن العام (5).
وكانت النتيجة هي أن عدداً متزايداً من المجموعات الإعلامية المدرجة في البورصة إضطرت لأن تبيع صحفاً هامة لرجال أعمال ذوي ثروات كبيرة: عام 2013 إشترى جيفري بيزوس، مؤسس شركة "أمازون"، صحيفة "واشنطن بوست"، كما أشترى جون هنري، صاحب فريق البايسبول في مدينة بوسطن المعروف "ريد سوكس"، "صحيفة بوستن جلوب".
في العام التالي أستحوذ جلين تايلر، صاحب فريق كرة السلة المعروف باسم "منيسوتا تنمبروولفز" على صحيفة "ستار تريبيون"، وهي أهم صحيفة في منيسوتا، في نهاية عام 2015 أشترى الملياردير المحافظ شيلدون أدلسون صحيفة "لاس فيجاس ريفيو جورنال".
[caption id="attachment_5781" align="aligncenter" width="1000"]

هؤلاء الأثرياء الكبار أدخلوا عامل تنوع في عالم إقتصادي متناغم، وفي أستطاعتهم لو شاءوا أن يصمدوا أمام ضغط هاجس الربح، كانت صحيفتا "واشنطن بوست" و "نيويورك تايمز" سباقتين في التحقيقات الدقيقة المتعلقة بإدارة الرئيس دونالد ترامب، وليس من باب الصدفة أن هاتين الصحيفتين ليستا من أملاك مجمع إعلامي صحفي (فأغلبية أسهم صحيفة "نيويورك تايمز" هي ملك عائلة سولسبيرجر).
هذا النوع من الملكية الخاصة يثير مخاوف جديدة بخصوص إمكانية خدمة خلفيات سياسية بطريقة ملتوية، أو إمكانية وجود تضارب مصالح فيها، أو قلة الشفافية، الرئيس دونالد ترامب لم يفوت هذه الفرصة فكتب على تغريدة له هجوماً على صحيفة "أمازون واشنطن بوست"، كما هدد هذه المؤسسة بأن يبيع عبر الشبكات الإلكترونية تحقيقاً معارضاً للتكتلات الإحتكارية بغية تخويف جيفري بيزوس، لئن لم تكن الدوافع الحقيقية للرئيس الأمريكي متمثلة بلا شك في حق المنافسة فقط، فإن الحقيقة هي أن مؤسسة "أمازون" تسيطر على عدد متزايد من القطاعات، وهو ما من شأنه أن يزيد من خطر تضارب المصالح.
بالنسبة إلى أغلبية المواطنين "الأمريكيين" يبقى التلفزيون المصدر الرئيسي للمعلومة "الإخبارية" (57%) من الأشخاص البالغين لجئوا إلى هذه الوسيلة عام 2016، مقابل 38% منهم لجئوا إلى شبكات الإنترنت للحصول على تلك المعلومة حسب ما نشره مركز "بيو للبحوث"، حرصاً من الصحف الكبرى المتلفزة على المحافظة على نسبة الجمهور المتابع لها في عصر متميز بشبكات التليفزيونات الموصولة بأنظمة التلقي عبر الإشتراكات الخاصة وطغيان الشبكات العنكبوتية للإنترنت، صارت هذه الصحف (ABC و CBS و NBC) متسمة تدريجياً وعلى نحو متزايد بالسطحية وبتملق الأحاسيس، تغطية المسائل الجوهرية خلال الحملة الرئاسية إنحدرت مدتها من مائتين وعشرين دقيقة عام 2008 إلى إثنتين وثلاثين دقيقة "فقط" عام 2016 (6)، وبالعكس تماماً صارت المواقع المتصلة جهاراً بالأحزاب، مثل موقعي اليمين المتطرف "برايتبارت" و"أنفووارز" (أخبار الحروب)، تعالج مسائل جوهرية، لكنها تحرف الوقائع، هذا إذا لم تكن تكذب تماماً وبكل بساطة، في كل الديموقراطيات، يكون من المنطقي أن تتدخل الدولة لكي تخفف من الإنهيار الإقتصادي لهذه المنظومة الموغلة في طابعها التجاري المفرط والمتسمة بنقص فادح في إنتاج المعلومة الجيدة، وبزيادة مفرطة في الأخبار المضللة أو التي تدغدغ المشاعر، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن عملاً كهذا تقوم به الدولة يمكن أن يثير المعارضة الشرسة لدى تحالف المحافظين المعارضين لدور الدولة وكذلك لدى الصحفيين المحترفين الذين تحركهم قراءة صارمة ضيقة لتنقيح القانون الذي يمنع في رأيهم كل تدخل للجهاز التنفيذي في مجال الصحافة، لاشك أن وسائل الإعلام " التابعة للقطاع العام" ليست بمنأى عن ضغوط الدولة، لكن إستقلاليتها تحظى بحماية هيكلية مثلما هو الشأن في بريطانيا، أو في ألمانيا، أو في الدول الإسكندينافية (7)، ولذلك فهي تقدم عادة معلومات نقدية ومعمقة أكثر بكثير مما تقدمه نظيراتها التجارية.
[caption id="attachment_5782" align="aligncenter" width="774"]

ومقارنة بدول أخرى ديموقراطية كبرى، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أخر القائمة، صاحبة أصغر قطاع إعلامي مدعوم من الدولة: فتمويل "هيئة الإذاعة العمومية – Public Broadcasting Service" والإذاعة العمومية الوطنية – National Public Radio" يمثل أقل من 3 يورو للفرد الواحد، مقابل 70 يورو للفرد في فرنسا، و86 يورو في المملكة المتحدة، و116 يورو في ألمانيا، و152 يورو في النرويج، الحقيقة أن جل أموال "هيئة الإذاعة العمومية" و "الإذاعة العمومية الوطنية" متأتية من الهبات وذلك وفق قانون هجين لهذه المجموعات الإذاعية والتليفزيونية التي هي في الآن ذاته مجموعات تابعة للقطاع العام وذات أهداف غير ربحية، ورغم ذلك وحتى لو أدخلنا في الحسبان هذه الهبات فإن إيراداتها لا تبلغ 8 يورو للفرد الواحد (8).
ورغم أنها خفضت من طموحاتها الصحفية إثر الأزمة الإقتصادية، فإن وسائل الإعلام الصحفية التجارية "التقليدية" (أي شركات كانت في الأصل تنتج صحفاً ومجلات وقنوات تلفزيونية) تبقى مهيمنة، سواء في مستوى حجم أعمالها أو في مستوى أرباحها، أو في نسبة الجمهور الذي يتابعها عبر الوسائل الإلكترونية.
أبرز المواقع الإعلامية الإلكترونية، أي الموقع الإخباري الإلكتروني "هافينجتون" والموقع الإعلامي الإلكتروني "بوزفيد" يحققان أرباحاً زهيدة جداً، ولعلهما لا يحققان أدنى ربح، إنهما بعيدتان جداً عن هامش الربح المعتاد في الصحافة المكتوبة والذي يتراوح بين 8% و15%، هذا دون إحتساب النتائج الطيبة التي تحققها شبكات الإعلام التي يتابعها أصحابها عن طريق شبكة إشتراكات خاصة.
[caption id="attachment_5783" align="aligncenter" width="1000"]

وسائل الإعلام الرقمية الممولة بصفة حصرية من الإعلانات عبر الشبكات الإلكترونية تعمل مع فرق صغيرة جداً، ويتقاضى أفرادها أجوراً أقل بكثير مما يتقاضاه نظراؤهم العاملون في وسائل التحرير التقليدية "أي في الصحف المكتوبة": فمؤسسة "هافينجتون بوست" ليس بها سوى حوالي 250 محرراً يعملون كامل الوقت، وكثيرون منهم يكتفون بإعادة إستخدام المواد التي تستغنى عنها وسائل إعلامية أخرى في حين أن صحيفة "نيويورك تايمز" تستخدم 1300 صحفي محترف يعملون كامل الوقت، ويفترض أنه لا أحد فيهم يكتفي بنقل محتويات سبق أن صدرت في صحف آخرى.
حسب المعلومات التي جمعتها الوكالة الأمريكية لتحليل الإعلانات "كومسكور" عام 2015، فإن وسائل الإعلام التقليدية تجذب من مستخدمي شبكة الإنترنت عدداً أكبر من ذلك الذي تجذبه وسائل المنافسة لها التي كانت منذ البداية تبث إلكترونياً، وهي في ذلك على الترتيب التالي: أسماء كبيرة لامعة مثل "شركة الإذاعة الأمريكية" و "شبكة الإعلام الأمريكي المستمر" و"شركة الإذاعة الوطنية" و"نظام بث كولومبيا" و"USA Today" و"نيويورك تايمز" و"فوكس". وهي تحل المراتب العشر الأولى لمواقع المعلومات الإلكترونية التي يتابعها الناس أكثر من سواها في الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا أخذنا بعين الإعتبار وسائل الإعلام التي يطلع عليها الناس هناك وهي آتية من الخارج مثل "هيئة الإذاعة البريطانية" (وهي تحتل المرتبة 15 في الولايات المتحدة الأمريكية)، وصحيفة "ذي جارديان – Gardian" البريطانية (وهي تحتل المرتبة 17 هناك) فإن هذه الأسماء الكبيرة اللامعة تحتل 29 مرتبة من لـ 50 مرتبة الأولى في هذا الترتيب.
أن تكون 21 صحيفة من الجيل الجديد ضمن هذا الترتيب هو أمر يدل على كل حال على أن تحولا مهماً بصدد الحصول: الصحف الموجودة فقط على شبكة الإنترنت تقدم طائفة واسعة من المواضيع، ومن الأفكار، ومن الأحجام، فبعض الصحف الجامعة مثل "هافينجتون بوست" و"بوزفيد" تنتج محتويات جديدة على نحو متزايد، بما في ذلك معلومات إخبارية وريبورتاجات سياسية، أما صحيفتا "بوليتيكو" و"ذي هيل – The Hill" "فتقدمان ملمحاً مفصلاً لكواليس السياسة، المواقع الموجودة بعد "توب 50" في الترتيب هي مواقع أقل شأناً منها صحيفة "ميديوم – Medium" (التي أسسها السيد إيفان وليامس وهو المنشئ المشارك لشبكة "تويتر")، وهي تفضل المقالات الطويلة المتعلقة بالجوهر، ثمة صحيفتان تستحقان إهتماماً خاصاً لما لديهما من ممارسات صحفية متميزة: إنهما صحيفة "فوكس Vox" وصحيفة "فايسنيوز- Vice News".
[caption id="attachment_5772" align="aligncenter" width="1000"]

بعيداً عن الأخبار الهامة الحصرية، يختار محررو صحيفة "فوكس" مواضيع معقدة مثل الصراع السوري، وقانون الضمان الصحي الذي أقره الرئيس الأمريكي السابق الديموقراطي باراك أوباما والمعروف باسم "أوباما كير"، والتغير المناخي، وهم يقدمون تحليلاً عميقاً مشفوعاً برسوم بيانية، ولوحات تتضمن أسئلة وأجوبة، وبصور توضيحية شاملة. توجد بها أيضاً ملفات في مواضيع مختلفة مطروحة بطريقة فيها أسلوب شيق لكنها متسمة بالجدية، وهي تعالج مواضيع بالغة التنوع مثل "أفضل البرامج التليفزيونية ال 18 الموجودة حالياً" (ويتم تحديثها كل أسبوع)، أو "أنواع العنف البوليسي: 9 وقائع يجب أن تعرف" (بتاريخ 4يناير/ كانون الثاني 2016)، أو تفسير العملة الإلكترونية "Bitcoin" (بتاريخ 3نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، أو "فهم المنظومة الأمريكية للهجرة" (بتاريخ 4 أغسطس/ آب 2015).
تتسم صحيفة "فايسنيوز" بعمل صحفي متعمق مع ملمح شخصي جداً فيه تركيز على الجانب البصري. في سلسلة من الأعمال الوثائقية التي بثت على قناة "هوم بوكس أوفيس – Home Box Office" التي يتم تلقيها على شبكة إشتراكات خاصة – ولكنها موجودة أيضاً وبصفة مجانية على موقعها الإلكتروني أو على شبكتها "يوتيوب"- تقدم هذه القناة التليفزيونية لمحة نفسية عن الحياة اليومية في بلدان مثل أوكرانيا، أو كوريا الشمالية، أو جمهورية إفريقيا الوسطى أو حتى في الأراضي الخاضعة لسلطة ما يسمى بـ "تنظيم الدولة الإسلامية"، وهو ما بثته عام 2014، (وهو عمل وثائقي فاغز بجائزة"بيبودي" التي هي جائزة راقية)، حسب دانيت جولد، مراسل صحيفة "ايسنيوز" فإن الأمر متعلق بـ "تجرد المحرر" ويجعل التحرير "جسرا" لكي تعبر المواضيع الوثائقية ذاتها عن وجهة نظرها الشخصية(9)، تستهدف صحيفة "فايسنيوز" جمهورا شابا أكثر بكثير ــــــ معدل الأعمال فيه 25 عاماً ـــــ من جماهير سائر الصحف التقليدية، غير أن لوحتها هذه توجد فيها أيضا نقطة قاتمة: إنها النقطة التي يضفيها على المعلومة الإخبارية الريبورتاج المعروف باسم "الإعلان الناشئ" (الموضوع التسجيلي) لأن المضمون المستخدم يتم إدراجه بطريقة لطيفة بحيث يتماهي مع المادة التحريرية، صحيفة "فايسنيوز"، تماماً مثل صحيفة "بوزفيد"، هي أحدى الرائدات السباقات، وذلك بفضل وكالتها التجارية "فرتي"، في هذا المجال. من ذلك مثلا أن احد مواقعها وهو الموقع المسمى باسم "مشروع الإبداعات" والممول من طرف مهندسون أوفنانون بصدد استعمال أجهزة من إنتاج الشركة الإعلامية ذاتها وأطلاق صفة "شريك مؤسس" على سبيل التسمية يعني أن الماركات لا تكتفي بربط اسمها ببرنامج معين "في الصحيفة"، وإنما هي تسعى أيضاً إلى توجيه السياسة التحريرية بحسب مصلحتها.
[caption id="attachment_5777" align="aligncenter" width="700"]

خلف الصورة المتطورة الدائمة والبديلة التي تظهر بها صحيفة "فايسنيوز" وتحسن استغلالها، تختفي في الحقيقة صورة خطة تجارية رأسمالية إلى أبعد الحدود. من بين مموليها نجد مؤسسة "فوكس" (فالسيد جيمس ميردوخ، ابن الملياردير الكبير في قطاع الأعمال روبرت ميردوخ، صار من أعضاء مجلس الإدارة فيها)، وكذلك مؤسسات "تايم وارنر"، و"هيرسيت"، و"ديزني"، و " إنتوورك"، إلى جانب عدد آخر من شركات في رأس المال –المخاطرة. والحاصل في النهاية أن مواقع الإعلام الجديدة على شبكات التواصل الالكترونية تمثل مشهدا ذا تضاد وتناقض، والخصال المميزة لها يمكن ان يتضح انها هشة إذا ما أدركتها وسيطرت عليها المقتضيات التجارية، ومن المبادئ المتعارف عليها هي أن المجالات التي لا تستطيع الصحف التجارية الخوض فيها أو هي لا تريد ذلك، وخصوصا مجال التحقيق والريبورتاج في القضايا الاجتماعية، هي مجالات تخص الصحف المتخصصة في الأنشطة الإنسانية. ولكن هل تكفي الصحافة ذات الأهداف غير الربحية حقاً لملئ الفراغ في هذه القطاعات؟
الصحافة غير الهادفة للربح
بين 2005و 2014 ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية 308 صحيفة ذات أهداف غير ربحية، وهي موزعة على خمس وعشرين ولاية (10)، تعمل كلها أساسا بفضل مساهمات مالية من مؤسسات كبرى مثل شركة "فورد"، و"ماك أرتور"، وجيتس"، و"كنايت" وهي تعتبر أنها تقدم شكلا من اشكال الخدمة الاجتماعية، بينت دراسة حديثة متعلقة بثماني عشرة صحيفة من هذه الصحف (منها المحلي، والإقليمي، والفيدرالي) أنها تخصص ما بين 34% و 85% من ميزانيتها للافتتاحات، مقابل نسبة تتراوح بين 12% و 16% في الصحف التجارية (11).
وهي تتخصص عموما في الريبورتاجات والتحقيقات عن السياسة الداخلية أو عن الشئون الخارجية. هذه الصحافة ذات الأهداف غير الربحية ساهمت في تجديد صحافة الاستقصاء، من ذلك موقع "بروبيبليكا" (الذي أنشئ عام 2008) وهو حصل على جائزة"بوليتزر" مرتين، إلى جانب مواقع أخرى أقدم منه، لكنها في أوج ازدهارها مثل "مركز ريبورتاجات التحقيقات" الذي تأسس عام 1977، و"مركز النزاهة العمومية" الذي تأسس عام 1989. على سبيل المثال، سلط موقع "بروبيبليكا" الأضواء على "الصليب الأحمر" ("كيفية جمع "الصيب الأحمر" نصف مليار دولار ليبني بها ستة منازل في هايتي (12)") وعلى العلاقات الخفية بين الخزانة الفيدرالية وبعض عمالقة القطاع المالي، أو على المجهودات المجحفة بشكل خاص والتي تبذلها المستشفيات لاسترجاع الأموال التي لها لدى العائلات المتواضعة.
ورغم هذه الإنجازات، الراسخة كلها تماماً في تيار إصلاح ليبيرالي يساري، فإن الشركات لا يمكنها تعديل كفة الفشل الاقتصادي للصحافة التجارية الأمريكية الهبات الممنوحة للصحف تبلغ 150مليون دولار سنويا في احسن الأحوال: أنه مبلغ بمثابة قطرة ماء في محيط بالنسبة إلى خسارة إيرادات الإعلانات في الصحف الكبرى،ت أهم الصحف ذات الأهداف غير الربحية أي صحيفة "بروبييلاكا"، وصحيفة "كريستيان ساينس مونتيور" تستخدم كل منهما ما بين 70و 80 صحفيا، ولكن يوجد ايضا عددا آخر من هذه الصحف تستخدم فرقا يتكون كل منها من حوالي اثنى عشر صحفيا على اقصى تقدير.
[caption id="attachment_5780" align="aligncenter" width="800"]

هذا فضلا عن كون كل الشركات التجارية لا تلتزم على المدى الطويل بمساعدة الصحف. فمجالس إدارة تلك الصحف يهيمن عليها رؤساء شركات. ويرى هؤلاء أن عملهم يتركز في مساعدة الصحف غير ذات الأهداف الربحية على أن تتحول إلى مؤسسات تجارية حقيقية، ولذلك تنصحها بأن توجه إنتاجها الصحفي إلى جمهور من النخبة التي هي قادرة في الآن ذاته على تقديم معونات مالية وعلى جلب شركات إعلان مرموقة. بعض الصحف، مثل صحيفة "بروبيبليكا" تضع مقالاتها تحت تصرف المواقع التجارية بصفة حرة مجانية: إنها تربح في مستوى الرؤية، ولكن ليس في مستوى الاستقلالية الاقتصادية، ولا في مستوى استقلالها إزاء المانحين الذين يقدمون لها الهبات.
الصحف التي هي ذات أهداف غير ربحية والتي تحاول الوصول إلى جمهور أقل نخبوبة تواجه صعوبات اشد فمؤسسة "الصحافة العمومية بسان فرانسيسكو" التي اسسها مايكل ستول عام 2009 وقد أراد أن يجعلها بمثابة "صحيفة وول ستريت"الموجهة إلى الشعب، ولذلك رفض الإعلانات والوصاية من الشركات التجارية الكبرى، وقد فسر السيد مايكر ستول ذلك قائلا: "العمال ذوو الأجور الزهيدة لا يهمون ذوي الإعلان في الصحف التقليدية التي ترمى إلى النهوض بالمنتجات التجارية الرفيعة الفاخرة، مؤسسة الصحافة العمومية بسان فرانسيسكو تشتغل أساسا بفضل يد عاملة مجانية وبميزانية سنوية أقل من 100000 دولار،ورغم جودة تحقيقاتها فإنها تجد صعوبة كبيرة في توسيع مجال انتشارها. من هنا تظهر خاتمة تفرض نفسها وهي التالية: الصحف ذات الأهداف غير الربحية التي تسعى إلى بلوغ جماهير تزدري صحافة السوق لا تكاد تستطيع تحقيق ذلك ما دامت الشركات التي تمولها لا تنظر باهتمام إلا إلى النماذج الجديدة للمؤسسات ذات الأهداف التجارية.
أخيراً يجب ألا يغيب عن الاذهان أن الهبات التي تعطي للصحف ليست "بلا مقابل"، ذلك أن هذه المبالغ التي يتم دفعها بفضل تخفيضات ضريبية سخية إنما تمثل في الحقيقة" إعادة توجيه لموارد مالية عمومية نحو كيانات غير ذات شفافية، وقد شهد بذلك أحد المسئولين عن الهبات المقدمة إلى الصحافة قائلا: "لسنا محكومين بنظم دقيقة، ,لا نطالب تقديم حساب لأحد، لست محتاجا إلى تحديد موعد لمقابلة أشخاص لا أرغب في رؤيتهم، وكذا شأن جميع الناس العاملين في هذه المؤسسة، على أن اجتهد أفضل اجتهاد في ممارسة وظائفي، ولكني لا أظن أن المؤسسات تمثل أفضل طريقة لخدمة المصلحة العامة في بلد ديمقراطي (13).
[mks_pullquote align="left" width="750" size="24" bg_color="#000000" txt_color="#ffffff"]الهجمات التي لا تتوقف من الرئيس دونالد ترامب ضد الصحفيين الذين ينتقدونه زادت من التفتت "الإيديولوجي" للمشهد الإعلامي.[/mks_pullquote]
في الأغلب الأعم يقترن سخاء المانحين بالتزامات ضمنية، فالمانحون الكبار يفضلون تمويل مشاريع محددة بدقة على تمويل تكاليف تشغيل الصحف، وهو ما يؤدي إلى إيجاد ضغط متواصل لتكييف المحتوى التحريري وفقاً لمتطلباتهم، وبحكم خضوع الصحف العمومية لهبات ذوي السخاء الخاصة فإنها تواجه منهم ضغوطا قوية مباشرة. ففي عام 2012 أذاعت مؤسسة "شبكة التليفزيون" العمومي" PBS سلسلة حلقات عن الاقتصاد الأمريكي، وهي سلسلة مولتها مؤسسة "دور الكيميائية"، ولذلك وجدنا سلسلة الحلقات التليفزيونية متماشية تماشيا دقيقا مع مصالح هذه الشركة الصناعية، في عام 2013، انجزت القناة ذاتها عملاً وثائقيا عن الطائرات بدون طيار الممولة جزئيا من جانبت مؤسسة "لوكهيد مارتن" التي تصنع ايضا هذا النوع من الطائرات.
اخيرا، وفي عام 2014 ، انتجت سلسلة "خطر الفندق الصغير" وفيها تفصيل دقيق للمشاكل الناجمة عن تقاعد الموظفين، وكان ذلك بفضل مساعدات مالية لمستثمر من اصحاب المليارات يود إزالة تلك المشاكل، وقد اعترف وسيط مؤسسة "بشبكة التلفزيون العمومي" قائلا: "هذه الفضائح تكشف التنازلات الأخلاقية المتصلة بتسوية الأمور المالية، كما تكشف قلة الشفافية بالنسبة إلى المتفرجين، وهذه الظواهر آتية جزئيا من صعوبات تمويل المنظومة العمومية الإذاعية والتلفزيونية"(14).
[caption id="attachment_5779" align="aligncenter" width="670"]

فما هي خلاصة النتائج التي يجب استخلاصها من التجارب الأمريكية في مجال عملية التسويق التجاري المفرط وفي مجال الأعمال الإنسانية التي تقوم بها بعض وسائل الإعلام؟ رغم بعض النقاط الإيجابية، فإن مشاكل هيكلية تحد من طاقة المنظومة في مد مجموع المواطنين بإعلان سوى ومتوازن حول المواضيع التي تعنيهم.
المجمعات الإعلامية الكبرى منهكة، لكنها لم تنته وما زالت باقية "رغم ذلك"، مؤخرا حاول مجموعة جانيت ولكن دون جدوى- ان تشتري مؤسسة الصحافة الإعلانية "ترون" التي كانت في السابق تسمى"تريبيون كو- Tribune Co)) وهي ملك الصحيفة اليومية "شيكاغو تريبيون" وصحيفة "لوس أنجيلوس تايمز" التي كانت ذائعة الصيت في السابق، ما زال تدعيم القطاع متواصلا، حيث تمتلك سبع مؤسسات مدرجة في البورصة ربع الصحف الأمريكية. ملكية القنوات المحلية تشهد تجمعا في الملكية على نحو لم يسبق له مثيل، ودورها في المشهد المتواصل حول الرئيس دونالد ترامب لا يكاد يلهمها أي تأنيب ضمير: فبما أن نسب الاستماع والأرباح في ازدياد، فما المشكلة؟
مهنة الصحافة المحترفة تواصل انحدارها نحو الندرة (فحتى صحيفة "نيويورك تايمز" التي طالما قاومت في السابق أعلنت في الربيع الماضي أنها ألغت وظائف مائة سكرتير تحرير). في الوقت الذي تزيد فيه الشركات المعلنة من تأثيرها على العملية التحريرية من خلال المحتويات التي يدعمونها ماليا، تتعرض الصحافة التجارية الرقمية لضغوط اكثر قوة مما تعرضت له سابقتها من الصحف التقليدية. لا شك أن الاشتراكات تمثل متنفساً جيداً بالنسبة إلى بعض الصحف الخاصة بالنخبة مثل صحيفة "وول سترويت جورنال"، أو صحيفة "واشنطن بوست" او صحيفة "نيويورك تايمز" (التي صار لها اكثر من مليوني مشترك على شبكة الانترنت)، ولكن الاشتراكات لا يمكن أن، تكفي لتشغيل جميع الصحف.
الهجمات التي لا تتوقف من الرئيس دونالد ترامب ضد الصحفيين الذين ينتقدونه زادت من التفتت "الإيديولوجي" للمشهد الإعلامي. لتحديد مواقع القراء "بين اليمين واليسار" تم عام 2014 وضع سُلم سياسي بياني من 10 نقاط ذات علامة إيجابية على اليمين (السياسي) و10 نقاط ذات علامة إيجابية على اليمين (السياسي)، فكان قراء صحيفة "نيويورك تايمز" وصحيفة "واشنطن بوست" وصحيفة "بوليتيكو" بين الدرجات 3و 5 على اليسار، أما المؤسسة التلفزيونية الإخبارية "فوكس نيوز" (خارج بث الآراء) فيقع قراؤها على بعد درجتين من يمين الوسط، في حين أن بقية صحف اليمين (مثل صحيفة "برايت بايت"، والمعلقان سان هنيتي وروش ليمباوج) تتوجه إلى مستعمين يقعون على بعد ست درجات في يمين مركز الرسم البياني، صحيفة "ياهو نيوز" و"وول سترويت جورنال" هما الصحيفتان الوحيدتان اللتان تجذبان قراء يعتبرون أنفسهم وسيطين نسبياً(15).
مثل هذا الوضع يطرح تساؤلاً جوهرياً صعباً هو التالي: كيف السبيل إلى ترويج المعلومة بين طوائف متنافرة من الناس؟ شبكات التواصل الاجتماعي التي غالبا ما تتهم بتقوية الآراء المسبقة هي في الحقيقة تقدم من الحلول أكثر مما تطرح من المشاكل: حسب دراسة حديثة، فإن مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي هم أبعد ما يكون عن الانغلاق في "فقاقيع من المصافي" بحيث لا تصل إليهم سوى الأخبار التي تقوي قناعاتهم، ولهم في الاصطدام بوجهات نظر مضادة لوجهات نظرهم أوفر حظوظ أولئك الذين لا يستعملون شبكات التواصل الاجتماعي(16).
[caption id="attachment_5778" align="aligncenter" width="1000"]

في النهاية، خوف القراء من عملية الاستقطاب الحزبية للصحف يخفى وراءه تنافراً طبقيا هو أشد عمقاً. أكثر الأمريكيين ثروة وأرقاهم تعلماً يعرفون كل شيء سواء عن الشئون العامة أو عن نظائرهم الأوروبيين. لكن في الولايات المتحدة الأمريكية توجد هوة عميقة تفصل بين الربع السفلي والربع العلوي "في مستوى الإطلاع الإعلامي"، في حين أنه في أوروبا الغربية حتى أقل الناس تعلما وأقلهم ثراء هم متساوون تقريبا في متابعة الإعلام مع أوفر الناس حظوظاً في التعلم والثروة(17).
لا غرابة أن نعرف أن نخبة الصحف الأمريكية تلتزم بتوفير "معلومات إخبارية ذات جودة لجمهور ذي جودة(18)"، تاركة بقية الناس يتدبرون أمورهم كما استطاعوا إزاء محتوى شحيح أو محرف في النشرات الإخبارية التلفزيونية أو في بعض مواقع الانترنت. وسواء كانت مؤسسات الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية نخبوية، أو حزبية، أو متصلة بعموم الناس، فلا نجد أيا منها استطاعت ان تنكب على "موضوع" التشغيل الهش المرتبط بالعولمة التي تدل ضمنيا على المأزق السياسي الحالي. قلائل هم الذين يقبلون الحديث عن السكان الذين يعيشون على هامش النخبة الحضرية والثقافية، أو حتى يقبلون التوجه إليهم.
إن الأمر هنا متعلق بمجموعات اجتماعية ذات وزن هام على المستوى الانتخابي، ولكن لا مؤشر يضع في هذه الخانة ذوي الهبات الممكنة، والمشتركين الممكنين، والأهداف المختارة. معالجة ما يتصل بدونالد ترامب تحقق أرباحاً هاماً، وذلك سواء كانت إطراء له أو نقداً، وقلة قليلة جداً من الصحف لها الشجاعة اللازمة لتوجيه اهتمامها في اتجاه آخر ":غير ما يتصل بترامب". وهكذا تصير الدوافع التجارية هي المتحكمة "في الإعلام" والموجهة "له". والحاصل أن المشهد الإعلامي الأمريكي الجديد يمكن يتضح أنه في نهاية الأمر أقتل تنوعاً بكثير مما يبدو عليه في الظاهر.
رودني بينسون
أستاذ علم الاجتماع وعلوم الاتصال بجامعة نيويورك...
الهوامش:
- انظر مقال صوفي أوستاش وجسيكا تروشي، "من المعلومة الإخبارية إلى الفخ ذي اللمسات الإلكترونية"، لوموند دبلوماتيك، أغسطس / آب/ 2017.
- "الهذيان الحزبي في الصحف الأمريكية"، لوموند دبلوماتيك، أبريل/ نيسان/ 2014.
- سيدني أيمر، "سنكلار يحتاج إلى محطات تلفزيونية لبث مقاطع تميل إلى اليمين، نيويورك تايمز، 12 مايو/ آيار 2017.
- انظر مقال فيليب ماير، "زوال الصحف: إنقاذ الصحافة في عصر العولمة"، نشر جامعة ميسوري، 2004.
- "معلومات أساسية عن الصحف"، نشر مركز "بيو" للبحوث"، أول يونيو/ حزيران 2017.
- "احتساب نتائج قبل إجراء الاقتراع بأسبوعين"، مقال أندرو تيندال. "مخارج؟ أية مخارج؟"، تقرير تيندال، منشور بتاريخ 25 أ:توبر/ تشرين الأول 2016، على الموقع الالكتروني التالي: http://tyndallreport.com.
- أندريه شيفرين، "الدولة النرويجية حامية الثقافة"، لوموند دبلوماتيك، مارس/ آذار 2010.
- رودني بنسون وماتيو بوارز وتيموتي نيف، "استقلالية وسائل الإعلام العمومية ومسئولياتها: أفضل الممارسات وأسوأها في 12 يلداً ديمقراطياً من الدرجة الأولى"، المجلة الدولية للاتصال، المجلد 11، لوس أنجلوس، 2017.
- تصريحات داني جولد وقد أدلى بها لـ "مركز نيويورك للاتصال"، منشر في نيويورك، بتاريخ 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.
- يابس هولكومب وأمي ميتشال، "الثروة الشخصية والاستثمارات في رأس المال وأعمال الخير"، تقرير "بيو" عن وضع وسائل الإعلام"، واشنطن، 26 مارس/ آذار 2014.
- "العثور على موطئ: قدم كيف تسعى المشاريع الإخبارية غير الربحية إلى الاستدامة"، نشر مؤسسة "كنايت"، 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2013.
- جاستين أليوت ولورا سيليفان، "كيف جمع الصيب الأحمر نصف مليار دولار لهايتي، وبنى ستة منازل، نشر في 3 يونيو/ حزيران 2015 على العنوان الالكتروني: propulbica.org.
- محادثة مع أحد مسئولي تلك المؤسسة مشترطاً عدم الكشف عن اسمه، وقد تم إجراؤها في مارس/ آذار 2013.
- مايكل جيتلر، "توترات حول المعونات"، بي بي أس أومبودسمان، 14 فبراير pbs.org:2014.
- أمي ميتشال وجيفري جوتفريد وجوسلين كيلي وكاترينا إيفا ماتسا، "الاستقطاب السياسي وتقاليد الإعلام"، نشر "مركز "بيو" للبحوث"، بتاريخ 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2014.
- ريتشارد فليتشر ورسموس كلايس نيلسان، "يبدو وسائل الإعلام الاجتماعية تنوع تغذيتك، لكنها لا تجدودها"، مختبر "نيمان لاب" وتم نشره على العنوان الالكتروني التالي: niemanlab.org.
- جيمس كوران وأنكر برينك لوند وأنكا سالوفار مورينج، "منظومة وسائل الإعلام، المعرفة العمومية والديمقراطية: دراسة مقارنة"، المجلة الأوربية للاتصال، مدينة ثاوسند أواكس (ولاية كاليفورنيا)، المجلد 24، عدد1، 2009.
- تصريحات أرتور سواسبرجر الابن، مدير صحيفة "نيويورك تايمز"، وقد أدلى بها في نيويورك لـ"مدرسة كولومبيا للصحافة"، بتاريخ 6 أبريل/ نيسان 2011.
المصدر: لوموند دوبلوماتيك محلق الأهرام المصري